رواية الفرنسيّ برونو دالوين «تائه لشبونة» تردّنا إلى فضول الاكتشافات الكبرى
بعد حديثه عن إيسلندا والمحيط الأطلسي الشمالي في كتابه «جون الإيسلندي»، يعود الكاتب الفرنسي برونو دالوين مواليد أنيسي، 1963 ، في كتابه «تائه لشبونة» بالتاريخ من جديد في سرد رحلات بحرية مستدرجاًالقارئ إلى قلب الاكتشافات الكبرى للقرن السادس عشر التي كشفت للأوروبيين قارات جديدة، مستلهما من سياق تاريخي دقيق ومن شخصيات كانت موجودة في الواقع في معظم حوادث كتابه الذي أطلق فيه العنان لمخيّلته كحكواتي من دون أن يتعدّى حدود الإطار الواقعي.
يحكي برونو دالوين في كتابه «تائه لشبونة» مغامرات «جواو فاراس» وهو يهودي غيّر ملته واعتنق المسيحية، وكان طبيباً وعالم فلك. انطلق «فاراس» من لشبونة على متن باخرة ضمن الأسطول الكبير لـ»بيدرو آلفاريس كابرال» في اتجاه صوفالا الموزمبيق لإنشاء وكالة تجارية أجنبية هناك.
من غير أن يثقل سرده بالمعارف الموسوعية حول تلك الرحلات الاستكشافية العظمى، يروي دالوين ظروف العيش الرهيبة على متن السفن من إمكان الإصابة بدوار البحر والتعرض لخطر العواصف والجوع والخوف من المجهول ومن الضياع، إلى جانب الابتعاد عن الأهل والأحبة والإحساس بالعزلة. كما يمنح الكاتب للشخصية الرئيسة هيئة لا تبدو بطولية، إذ نسمعه يقول: «حين كنت في البحر مجبراً على العيش في ذلك الوضع قرب الحميمية المقززة لرفاقي، كان ذلك يجعلني أتقيأ. لذلك السبب . كنت أتهاون في أداء الواجبات الملقاة على عاتقي».
بعيداً عن شخصية الشجاع المثابر المقدام، كما هي حال قباطنة تلك السفن، يبدو «فاراس» أدنى من أن ينال تعاطف القارئ كله، ورغم ذلك يشدّه. هذا الأخير متعطش لاكتشاف تلك الأراضي الجديدة، ليفهم كيف أن دولة صغيرة مثل البرتغال كانت تسيطر على جزء مهم من العالم الجديد، فهؤلاء «اليونانيون واللاتينيون بالكاد كانوا يجرؤون على الخروج من البحر الأبيض المتوسط. أما نحن البرتغاليون، فنعرف أكثر منهم بعشر مرات، ولم ننته بعد، أنت تعرف ذلك جيداً. لقد علمنا خلال بضعة عقود أكثر مما علّمه القدامى في ألف عام».
بغرابة وفضول، يحس «فاراس» بحماسة رؤية البلاد الجديدة مثل البرازيل، وعن ذلك يقول: «أرض فيرا كروز تلك التي حسبتموها مجرّد جزيرة بسيطة، ليست يابسة متماسكة حقيقية فحسب، بل لديّ قناعة بأن الأمر يتعلق بعالم لم يُعرف قط حتى الآن، إنه عالم لا علاقة له بما وصفه القدامى أو ماركو بولو. نَعم، عالم جديد». ويصيبه الذهول أمام تلك الشعوب المكتشفة، وأمام السبل البحرية الجديدة، إضافة إلى الوسائل التقنية المستعملة في تلك الحقبة لرسم الخرائط. نلفيه يرسم ملامح العالم الراهن بطريقة مستوحاة من النصوص والوثائق القديمة.
يمنح الكاتب للشخصية الرئيسية «جواو فاراس» هيئة لا تبدو بطولية كما هي حال القباطنة القدامى. خمسة عشر شهراً من الإبحار مركزة في فصل واحد تقلب كيان رجل وتصيب أعماق روحه الواهية من جراء ظروف الإبحار الصعبة، المكتظة بالعنف النفسي والجسدي الذي كان عليه تحمّله دونما قدرة على نسيانه أبدا. لدى عودته إلى لشبونة، كان «فاراس» رجلا مكتئباً منهاراً ومصاباً بصدمة عصبية ستلازمه إلى الأبد. كان ضحية «كوابيس، أرق، صور مفزعة تنبثق من ماض، كان مع ذلك يحاول أن يتحاشى التفكير فيه».
فضلاً عن ذلك، هو فاقد الحظوة، مغضوب عليه من طرف الملك، ولا يقوى على مجابهة البحر مرة أخرى، محكوم عليه بممارسة مهنته الأساسية طبيب بلا مؤهلات وبلا أيّ تعاطف حيال المرضى. العودة إلى الحياة على اليابسة امتحان مرير، يجعله بائساً، عديم البهجة وساخطاً محتقناً. زوجته تغيرت والحانة أصبحت ملاذه حتى صادف رجلاً إيطالياً ثرياً غريب الأطوار سيقترح عليه سرقة نسخة من الخريطة الملكية، الـ»بادراو ريال»، التي تتضمن تدويناً لسائر الاكتشافات الجغرافية، وتطرح جرداً لعالم يُستكشف، «إحدى الوثائق الأكثر اكتنازا وتحصيناً في المملكة». هي دسيسة وجيزة ستُحل بسرعة، ليس لها وزن إلا في أجواء المدينة التي تُروى بداخلها، المدينة الضاجة النشيطة التي تنادي وتحرك جميع الحواس، وصورة ذلك: «الحركة على جانب المرسى، بائعات السمك، الباعة المتجولون، التنشيط حول المصب الخليجي، السلع الأجنبية الفريدة، الرنات الصوتية، الروائح العبقة».
رواية تلقينية تثقيفية، ترصعها وقائع تاريخية دقيقة كذلك، حين يعرض الكاتب المصير المحتوم ليهود تلك الحقبة وكذلك المسيحيين الجدد والاضطهاد الذي تعرضوا إليه بشكل خاص: «بدعة! ضلالة! دمّروا هؤلاء القوم الكريهين! . لقد كان ذلك مروّعا. كانت الأبواب تُكسر، الرجال يجرّدون من ملابسهم الداخلية. إذا تبيّن أنهم خضعوا للأعذار كانت نهايتهم وعائلاتهم». حين يستحضر بحماسة وذهول مُعدٍ الزلزال أو الطاعون اللذين جعلا الملك ومجموعة من النبلاء يفران من لشبونة.
يُقرأ نص الرواية في مجمله من دون عناء، فالأسلوب سلس وأنيق، ويبقى مقنعاً حتى وإن افتقرت الشخوص الأخرى إلى شيء من العمق. باستثناء «فاراس»، حوله الجميع غامضون، ثانويون لا يستهوون ولا يشدون انتباه القارئ، فيظهر من هذا الباب، مغموراً بشيء من السذاجة ومن دون شخصية حية تذكر. تؤكد ذلك الحوارات التي تغوص في نبرة قليلة من الفصاحة وتفتقد حيوية الحكي.
قد يغدو صعباً التعلق بإحدى تلك الشخوص ما دام «فاراس» نفسه، بضبابيته وتقشفه، لا يبدو دوماً على استعداد لتسهيل مهمة القارئ في مسايرته أو التعاطف معه. لكن هذا لا يمنع أن تكون القصة غنية بالفوائد والأفكار، ومثيرة للاهتمام، فهي فضلاً عن ذلك، دعوة حقيقية إلى السفر، وصحوة لفضولنا ومحفز لحب الاطلاع. الرواية فتنة تفتح الشهية للذهاب بعيداً ولمواصلة الإبحار والاستسلام لأهواء مراكب تمخر عباب تلك البحار النائية.