برهان شاوي: «المتاهات» مشروع روائي يتماهى ويتناصّ بشكل مضادّ مع «جحيم دانتي»

حاوره: المهدي مستقيم

يُعدّ الروائي العراقي برهان شاوي من أبرز الأسماء الروائية العربية التي أغنت المشهد الثقافي العربي ككل بإبداعاته التي دلّت على تمكّن وكفاءة على مستوى الكتابة والانجاز. ويمكن القول إن هذه الكتابات وسّعت دائرة تلقيها على تباين ذلك واختلافه، ومن بين الروايات التي أقدم على إصدارها نجد: «مشرحة بغداد»، «متاهة أدم»، «متاهة حواء»، «متاهة قابيل»، «متاهة الأشباح»، «متاهة إبليس»، و«متاهة الأرواح المنسية».

وفي هذا الحوارk نحاول الإحاطة الشمولية بالتجربة التي أقدم برهان شاوي على إبداعها.

ما هو معلوم هو أنك بدأت مسيرتك الإبداعية كشاعر، ثم كمترجم للشعر الروسي على وجه الخصوص. لماذا غيّرت الوجهة نحو الرواية؟ ألا تعتقد أن التنقل بين أكثر من جنس أدبيّ يزيل الجدّية عن المشروع الأدبي للكاتب؟

– قبل كلّ شيء، جئت إلى الرواية بعدما تجاوزت الخمسين من العمر. وكنت قد أصدرت سبع مجموعات شعرية. وتكرّست كشاعر في المشهد الثقافي. وكذلك كنت قد ترجمت أربع مجموعات شعرية من اللغة الروسية. وحين توجهت إلى الرواية توجهت كشاعر مسكون بالروح الشعرية. لا بل إنني أعيش «الشعرية» في حياتي اليومية وفي نظرتي إلى الكون والحياة والوجود. وهنا أودّ الإشارة إلى بعض الكليشيات السائدة والفاسدة في الثقافة العربية والتي تشير إلى أن الناقد هو شاعر أو كاتب فاشل. أو أن الشاعر الذي يتوجه إلى الرواية هو شاعر فاشل أو العكس. هذا جزء من «تفاهات» الثقافة الشائعة. لأن من يقول ذلك يجهل تاريخ الشعر والرواية. لو تأملنا لوجدنا أن أكبر الأسماء وأشهرها في تاريخ الرواية العالمية كتبوا الشعر قبل أن يكتبوا الرواية. خذ مثلاً بول أوستر الذي يُعدّ من أعمدة الرواية الأميركية المعاصرة، هو شاعر معروف ومترجم للشعر الفرنسي ونال جوائز مهمة جداً في الشعر في أميركا، لكنه معروف كروائيّ. وكذا د. هـ. لورانس، فهو شاعر ممتاز، بينما هو صاحب «عشيق الليدي شاترلي» الخالدة و«نساء عاشقات» وغيرها. وأستطيع أن آتيك بعشرات الأسماء الروائية كإميل زولا وفيكتور هيغو عميد الشعر الفرنسي. وكذا مع إدغار آلن بو، وسكوت فيتزجرالد، وبوشكين وليرمنتوف وبازوليني، لذلك فالانتقال من جنس أدبي إلى آخر لا يعني الانتقاص من المشروع الأدبي لصاحبه، إنما يعني الجدّية في البحث عن أجناس فنية جديدة تمنح صاحبها الحرية في التعبير عن قلقه وعن أسئلته الروحية والجمالية.

من بين الملاحظات التي تفرض نفسها على القارئ تركيزك على خمسة مفاهيم أساسية في كل أعمالك الروائية وهي «الموت، والحرية، والعدالة، والحب، والمرأة» لماذا هذه المفاهيم بالضبط؟

– لا أدري إن كانت هذه المفاهيم وحدها مركز اهتمامي. شخصياً لا أضع جدولاً للمفاهيم التي يجب تناولها، إنما حينما أتوجه إلى كتابة رواية تبدو لي فكرة الرواية غامضة. لديّ تخطيط أوليّ بالتأكيد أن ما أتناوله من موضوعات ومفاهيم في رواياتي له علاقة بعالمي الداخلي وتجربتي الحياتية وتجارب الآخرين وربما تجدني في اللاوعي أتناول هذه المفاهيم التي ذكرت!

الموت هو الحقيقة الوحيدة التي لا تقبل النقاش، التجربة الوحيدة التي لم نعرفها كبشر. أما سؤال الحرية فقد شغلني لعقود من الزمان. وقد أعددت له قبل البدء بكتابة رواياتي. فمنذ روايتي «مشرحة بغداد» و«متاهة آدم». بحثت فكرياً عبر الأديان والفلسفات عن سؤال الحرية والإرادة، هذه المراجعات والقراءات والهوامش أصدرتها في ما بعد بكتاب مستقل هو «وهم الحرية. سؤال الحرية هو سؤال أخلاقي ووجودي في الوقت نفسه وجانبه الأخلاقي يطرح سؤال الشر والخير والعدالة الاجتماعية والبؤس البشري. أما سؤال الحب والمرأة فهو راجع لتوجهاتي الفكرية. أنا قريب من اليسار الفرويدي ومن أتباع سبينوزا. وبالتالي فأني أضع سؤال الرغبة والجنس والوعي واللاوعي ضمن أسئلتي المركزية. وأرى أن الجنس هو القوة الغامضة التي تقود الإنسان على رغم تحريمات الأديان وكل الفلسفات الأخلاقية المتطرفة. لا بل إن اليوتوبيا الدينية في جميع الديانات هي يوتوبيا جنسية بامتياز. فحتى النصوص المقدّسة تغري الإنسان بالجنس في الجنة!

يبدو اهتمامك بقضايا المجتمع العراقي بارزاً في كل أعمالك. بدءاً بالتجريم السياسي وما ينجر عنه من قهر اجتماعي ونفسي، وصولاً إلى التحريم الديني وما ينتجه من تطاحنات طائفية عرقية. ما الواقع الذي تحاول كشفه وتغييره في أعمالك الروائية؟ هل المتخيل وهم أم تعبير وانبثاق عن الواقع الذي نعيشه؟ ما علاقة الحلم والأسطورة والشعر والرمز والصورة والخرافة بالحياة اليومية؟

– هذه أسئلة متلاحقة ومن الصعب عليّ الإحابة عليها مرة واحدة، لكنني سأوجز قائلاً، إن اهتمامي بالمجتمع العراقي مسألة طبيعية لكوني خرجت من رحم هذا المجتمع، طفولتي وشبابي وذاكرتي تشكلت هناك، ناهيك أن مجتمعي هذا تعرض لحملات إبادة وجودية. إبادة جسدية وإبادة فكرية. ومحاولات إلغاء تاريخه وذاكرته من قبل حكامة وبسبب الحروب المجنونة. أنا ابن تجارب اجتماعية وسياسية مختلفة. عشت فترة الجمهورية وأنا صغير وعشت الانقلابات وأنا صبي. وعشت الدكتاتورية وأنا في بداية حياتي السياسية. وتعرضت للسجن والتعذيب. وهربت من العراق مشياً على الأقدام إلى سورية ومنها إلى لبنان ومن هناك إلى أوروبا. وبعد الزلزال الكبير باحتلال العراق وسقوط الدكتاتورية وجدنا أنفسنا أمام دولة مفككة، محتلة، وبالإنابة من خلال القوى السياسية الطائفية. وجدنا أنفسنا في آتون حرب أهلية طائفية طاحنة، تفجر فيها حقدٌ عمره 1400 سنة وكأننا في سقيفة بني ساعدة. أشعلنا حرباً مليئة بالحقد الأعمى، لذا وجدت نفسي لا شعورياً أكتب عن هذا الخراب المرعب في المجتمع العراقي. فقدمت شخصيات روائية تعرضت لكل هذا العنف السياسي والإجتماعي والنفسي بدءاً من «مشرحة بغداد» ومروراً بسلسلة «المتاهات».

حاولت من خلال هذه الروايات أن أصل إلى جذور العنف السياسي والديني، وأصل إلى منابعه النفسية على مر العقود الأربعة الأخيرة. لذا وجدتني أتوغل في المحرمات والممنوعات، في الجنس والمقدس والعنف السياسي. بيد أني لا أكتب روايات سياسية، إنما أحاول أن أغوص في اللاوعي الجمعي للمجتمع والفرد العراقي!

أما في ما يخص السؤال عن الحلم والأسطوة، فأنا أحاول في رواياتي تفكيك الأساطير الدينية الواردة في الكتب المقدسة. أعيد تفكيك أسطورة آدم ومفهوم الخطيئة والخير والشر وحقيقة إبليس والأساطير الدينية الأخرى ذات الطبيعة الجنسية كزنى المحارم التي وجدتها تتكرر في حياة الناس البسطاء من خلال تأمل الحياة اليومية. كل هذا التوغل في الإشكاليات الفكرية والنفسية تم من خلال معمار روائي يتيح لي التحرك بحرّية. ألا وهو معمار المتاهات. والذي لم أخطط له مسبقاً، إنما توصلت إليه استشرافاً وأنا أتوغل في الكتابة الروائية.

يتّضح أنك قد اعتمدت في سلسلة المتاهات على أشكال وصور وأنماط تعبير وصفية وسردية وحوارية، بهدف إنتاج وتمرير أفكار فلسفية. ما طبيعة العلاقة القائمة بين الفلسفة والأدب؟

– قبل سنوات، كتبت مقالاً عن «الوجودية في الأدب والفلسفة» توقفت فيه عند ملاحظة متميزة للفيلسوف الألماني هانز ج. غادامر التي تؤكد أن الفلسفة لاقت تحدّيات متعددة خلال مسيرتها، لا سيما من قبل بعض الفلاسفة العظام أمثال: كيركيغارد ونيتشه، وغيرهما، ممن تمرّدوا على روحها الأكاديمية التي تاهت في مجالات البحث التاريخي، وفي أروقة المشكلات المعرفية، فاغتربت عن ذاتها، إلى أن واجهت التحدّي الأكبر حينما سطعت نجوم جديدة وكبيرة في سماء الأدب، ومن مدار الرواية بالتحديد، فحجبت أضواء الفلسفة، وهذه النجوم هي: ستندال، بلزاك، زولا، غوغول، دستويفسكي وتولستوي.

هذه الملاحظة المهمة تؤكد أنّ «نجوم الرواية» حجبوا أضواء الفلاسفة، كما أن تاريخ الفلسفة قدّم لنا نماذج أخرى حينما اقتربت من اللغة الشعرية بحيث تداخلت الفلسفة واللغة الشعرية فصار النص حمّال أوجه. فمرة هو نصّ فلسفي، ومرة هو نصّ أدبي. ولنا في «هكذا تكلم زرادشت» لنيتشه المثال الأبرز. كما يمكن التوقف عند أعمال سارتر وكامو.

كيف تلقّت الأوساط الثقافية العربية المنجز الروائي لبرهان شاوي؟ وما أهمّ الملاحظات التي سُجّلت حوله؟

– لا أعرف كيف تمّ تلقيها، فالأمر مختلف من عمل إلى آخر. فمثلاً روايتي القصيرة الأولى «الجحيم المقدّس» التي كتبتها قبل ثلاثة عقود تقريباً، عام 1987 في ألمانيا، تم استقبالها جيداً. إذ أُقيمت لها الندوات وكُتبت عنها الدراسات في العراق، وتُرجمت إلى الكردية، ونال أحد الباحثين درجة الماجستير عنها مقارناً إياها برواية أخرى لكاتب آخر متوقفاً عند جماليات المكان. وكذا الأمر مع روايتي «مشرحة بغداد» التي كُتب عنها مقالات كثيرة ونالت عنها إحدى الباحثات في إيطاليا درجة الماجستير بعدما ترجمتها. كما تم الانتهاء من ترجمتها إلى الفارسية والكردية. وتُترجَم حالياً إلى الفرنسية. لكن سلستي الروائية التي تحمل اسم «المتاهات» لاقت صعوبة كبرى في التوزيع. بسبب منعها في بعض البلدان العربية وسحبها من الأسواق في بلدان أخرى. ولم تأخذ حقها من التوزيع لأسباب شتى. فإلى جانب المنع بسبب فضائحيتها الجنسية ومشاكستها للمقدّس الديني، فإنّها روايات ضخمة من ناحية الحجم. وقد صدرت منها لحد الآن ست متاهات هي: متاهة آدم، متاهة حواء، متاهة قابيل، متاهة الأشباح، متاهة إبليس، متاهة الأرواح المنسية. وهي بذلك أطول رواية كُتبت بالعربية لحد الآن ربما. كما أنها رواية متواصلة الأحداث والشخصيات. والحقيقة لقد كُتب عنها بعض الدراسات خلال عمرها السردي. بمعنى كُتب عن «متاهة آدم» لحظتها. ثم بعد صدور «متاهة حواء» و«متاهة قابيل» كُتبت دراسات عن الثلاثية. ثم ظهرت مقالات منفصلة عن كل رواية صدرت في ما بعد. وقد دخلت «المتاهات» في بعض الكلّيات إلى جدول الدراسات الأكاديمية، وهي توزع بين قطاعات الشباب في العراق بشكل جيد. لكنني أشعر أنها لم تدرس كوحدة متكاملة كما يجب.

طبعاً، هناك ملاحظات إيجابية عنها لا أريد أن أتوقف عندها، والتي تؤكد على أهميتها وتميّزها في المشهد الروائي. وهناك ملاحظات سلبية واتهامات حول تناولي الجنس والعنف في سلسلة المتاهات، لا سيما في تلك المشاهد الصريحة واللغة المكشوفة والكاشفة، والتوغل في ما وراء الرغبة، وتقديم الإنسان وهو يلهث وراء شهوته الجنسية. وكذلك هناك ملاحظات حول مشاكساتي الواضحة للأساطير المقدسة والأديان والشكوك الفكرية والميتافيزيقية التي تهد الكثير من الثوابت لدى بعض القراء. مثلما وصلتني بعض الشتائم والاتهامات البذيئة والساذجة بسبب ذلك أيضاً. عموماً، المتاهات مشروع روائي يتماهى ويتناصّ بشكل مضادّ مع «جحيم دانتي»، إذ في جحيمه تسع طبقات تهبط إلى الأسفل، حيث في الطبقة التاسعة نجد «لوتشسفيري» بينما في مشروعي الروائي تسع متاهات تبنى واحدة فوق الأخرى. حيث أصل في المتاهة التاسعة إلى «الله».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى