المكابرة… والاستهزاء… لغة ساقطة

د. سلوى خليل الأمين

غريب أمر هذا الوطن المبتلي بفقدان الثقة بين الرئيس والمرؤوس، أيّ بين رجالات السياسة والشعب، هذا الوطن الذي وصفوه يوماً بأنه «سويسرا الشرق»، وأنه بلد الإبداع والإشعاع والنور، وأنه وطن الشعراء والأدباء والمؤرّخين الكبار والفنانين العظماء، وأنه وطن الطاقات البشرية التي أينما حلّت، على مدار هذه الكرة الأرضية، رفعت اسم وطنها عالياً، عبر إنجازات عقلية ومعرفية، اخترقت السموات السبع، عبر هبوط أول مركبة على ظهر المريخ بتوقيع لبناني هو البروفسور شارل العشي الذي أطلق اسمه أيضاً على نجم في السماء تكريماً وتقديراً من وكالة الفضاء الأميركية «NASA».

هو لبنان يا سادة هذا الذي ترشقونه بنفايات فسادكم وإفسادكم، وانحلال مساراتكم التي لم تكن يوماً عقاباً لمعصية أقدم عليها هذا الشعب اللبناني المسكين والذكي في آن، المبتلي بكم والمغلوب على أمره، فهو المراقب الجيّد لكلّ مساراتكم، لكنه تحلى بالصبر عليكم بمنحكم رحمته وطاعته علّكم ترعوون. لكن زمن الفساد والإفساد طال أمده وتمدّد، وتمدّدت معه كرامة هذا الشعب التي أذليتموه حين حللتم لأنفسكم حقوق الفقراء والعمال والموظفين وجعلتموها مشاعاً لكم، وحين جعلتم الناس تموت على أبواب المستشفيات، وحين صادرتم المشاريع لأزلامكم وعائلاتكم، وحين شطبتم وجود الطبقة الوسطى، وحين ألغيتم من النصوص موازنة الدولة وقطع الحساب الذي يكشف الأسرار وخبايا الانتهاكات المطعّمة بالفساد، حين تمّ وضع اليد على عقارات الدولة من بحرية ومشاعات وتمّ توزيعها بالتراضي على المحاسيب والأزلام.

تمسّك هذا الشعب طويلاً بالصبر، واتبع الآية الكريمة القائلة: إنّ الله مع الصابرين إنْ صبروا، لكن طال زمن الشراهة وقلة المبالاة بنقمة الشعب واصطباره على الظلم والقهر الذي طوق به، بحيث بات الاستعباد وكمّ الأفواه والديكتاتورية وصلافة العقول والضمائر الغائبة هي اللغة السائدة والممارسة المستمرة، فكان الحراك الشبابي ثورة مطعّمة بالغضب، كشف حجم البركان الهادر، الذي لن يستطيع أحد بعد الآن التصدّي له، مهما كبر حجم الاتهامات، حتى لو كانت ثابتة وصحيحة، يبقى حجم الحراك والثورة المبطنة التي طافت على السطح وظهرت إلى العلن، قد كسرت كلّ الممنوعات وتخطت حواجز الخوف بخروجها عن الأطر المرسومة، بحيث لن يتمكن أحد من إيقاف مفاعيلها الثورية، مهما أنجز من تدوير للزوايا التي تسمّى في اللغة الدارجة: «ضحك على الذقون».

لقد استغبوا الشعب زمناً، واللبنانيون ليسوا أغبياء، وجعلوا معظم الشباب والشابات الكفوئين يتركون الوطن حاملين شهاداتهم العليا ودموع الأمهات وتعب الآباء الذين أصبحوا على أبواب الشيخوخة، قاصدين دنيا الله الواسعة، التي تلقفتهم جاهزين، بمعنى لن يكلف المواطن اللبناني المهاجر قسراً من وطنه، الوطن الجديد مصروف دولار واحد من أجل امتلاك شهادة تخوّله العمل فيه، فكلهم أصحاب اختصاصات عالية، صرف الأهل عليهم جنى العمر، وإذ بهذا الرصيد البشري المقتدر يمنح مجاناً للدول الأميركية والأوروبية والخليجية كي يستفيدوا منه، مثلهم كمثل رصيد شخصي يجمعه أيّ إنسان في مصرف ليوم الحاجة، ومن ثم يأتي آخر كي يتمتع بصرفه على هواه، هكذا هم أولادنا في الخارج رصيد جاهز، غيرنا يتمتع بقدراتهم وبإبداعاتهم، التي لم يستطع أهل السياسة الكرام تحمّلها، لأنّ أولادهم الوارثين لم يتشبّهوا بأولادنا المكافحين والمجتهدين، ولم يعانوا الشظف ومشقة التفتيش عن عمل، كي يحصلوا على ما يقيهم العوز وتعب الآباء والأمهات. لأنهم باتوا اليوم من أكبر ملاكي الوطن بكلّ مفاصله، حيث كلّ ما يملكونه مسجل في الدوائر العقارية بتواريخ حديثة، تثبت أنهم من حديثي النعمة، بل من سارقي أموال الشعب، ومن حق هذا الشعب أن ينتفض ويثور ويحطم ويركل، ويرشق سيارات المرسيدس السوداء المصفحة والمفيمة بالبيض والبندورة التي دفع أولئك الشبان من جيوبهم الخاوية أثمانها، كما تلك السيارات الفخمة، التي تبلغ أثمانها المبالغ المرقومة التي تساعد في إنقاذ مريض وإطعام بعض الفقراء والمساكين الذين فرحوا بأكوام النفايات التي من فضلاتها المتكاثرة تشبع البطون الخاوية.

إذاً، لا مجال بعد اليوم لانتظار حوارات لا طعم لها ولا منفعة، ولا انتظار أوامر الخارج، لأننا شعب يؤمن بالحرية، والحرية يجب أن تكون صفحة بيضاء غير ملوّثة بألوان البيارق المتنافرة التي جعلتموها أداة للتلويح في مهرجاناتكم المدفوعة الأثمان، وجعلتمونا في موضع السؤال المدهش حين نخطئ في ارتداء سترة أو قميص أو فستان من ألوان ربيعية صادرتموها منا عنوة، تاركين علم الوطن يلوح فقط فوق الإدارات الرسمية التي أصبحت فارغة كرئاسة الجمهورية، ومملة كمجلس الوزراء، وفارغة المضمون كمجلس النواب الممدّد لنفسه، ومرتهنة كالإدارات الرسمية التي جعلت مزارع للأتباع الخاليين من الكرامة الوطنية.

لبنان أيها السادة لن يعود إلى الوراء مهما حاولتم كمّ الأفواه، فالحراك لا بدّ أن ينجح وأن يستمرّ، حنفية الماء في حلوقنا قد فتحت، وشعلة النار في صدورنا قد أوقدت، لن تستطيعوا، بعد اليوم، طمر بأسنا وصبرنا بسياساتكم العرجاء وخطاباتكم التي تخلو من الصرف والنحو ولغة الضادّ التي أرهقتموها بغيابكم عن القراءة والمطالعة، وها إنّ الناس كلّ الناس، من مختلف الأطياف والديانات والمناطق، قد كشحت عنها ستار الخوف، وبدأت بالكلام العلني في كلّ المطارح، بحيث لن تستطيعوا، بعد الآن، كم الأفواه واللعب على مشاعر الناس بالفتن المذهبية، فقد اشتعلت المواطنة صعداً في الساحات، وهذا يعتبر أول نجاح للحراك الشبابي، الذي لا يريد الانتساب إلى الأرقام والرايات الملوّنة، بل إلى الوطن فقط لا غير.

بصراحة، لقد «فلت الملق» كما يُقال باللغة الدارجة، لأنّ من يراهن على الأوامر الخارجية يكون قد رهن الشعب ومصيره ومستقبل أولاده إلى الخارج، وفي العرف القانوني يتهم بالخيانة العظمى كلّ من يساهم في اختراق سيادة الوطن، لأنّ لبنان بلد مستقلّ وذو سيادة، ولا يجوز رهن الشعب إلى تجاذبات وإملاءات خارجية يستفيد منها الفرقاء الممسكين بأمور الوطن، لهذا فإنّ مطلب الحراك بإجراء انتخابات معجلة على أساس قانون النسبية هو الذي يعيد الحق العام إلى أصحابه الحقيقيين وأعني بهم الشعب، الذي يرفض الاصطفافات الدائرية المركبة، التي تقف ضدّ جعل لبنان دولة مدنية علمانية وضدّ إلغاء الطائفية السيااسية من النصوص والعقول، كما اعتبار «إسرائيل» عدواً على الشعب مقاومته بكلّ فئاته، كما رفض مبدأ الإصلاح والتغيير والقضاء على الفساد بإعادة أموال الدولة إلى خزينة الشعب، وإصدار الموازنة بأقصى سرعة من أجل ضبط عمليات الواردات والنفقات بشفافية مطلقة، إلى جانب إقرار سلسلة الرتب والرواتب وغيرها من المطالب الحياتية الضرورية. وهذا لا يمكن تحقيقه إلا إذا اقتنع الجميع بأنهم ملزمون بخط مقاومة «إسرائيل» وتقوية دفاعات الجيش اللبناني، ومنح مسيرة الإصلاح والتغيير حيّزاً من اهتماماتهم من خلال البدء بالمحاسبة من أعلى الهرم حتى أدناه.

لقد طغى نيرون وتجبّر، وهولاكو المغولي أيضاً، لكن التاريخ لفظهم، أما الفوارس الشجعان الذين مرّوا في تاريخ أمتنا وكانوا مناضلين حقيقيين فالتاريخ يشهد لهم، ومنهم أنطون سعاده، سلطان باشا الأطرش، سعد زغلول، جمال عبد الناصر، ابراهيم هنانو، حافظ الأسد وفارس الخوري وغيرهم وغيرهم ممّن كانت لهم مواقف عمّدت بالدم والنضال الحقيقي ونكران الذات وعدم سرقة أموال الشعب والفقراء.

لهذا من مصلحة المسؤولين ردّ أموال الشعب إلى الخزينة اللبنانية برفع أيديهم عن مال الخزينة وإرجاع ما نهب منها، ومنع زوجاتهم ومن يلوذ بهم من التعدّي على المجالات الثقافية والفكرية والاجتماعية والاستئثار بأموال بعض الوزارات، وترك الأمور لمستحقيها من المبدعين، الذين تطوّعوا من أجل لبنان، دون أيّ التفاف بعباءة زوج أو أخ أو أب سياسي أو متنفذ في لبنان، فزوجة الرئيس جمال عبد الناصر وزوجة الرئيس حافظ الأسد وغيرهن من زوجات المسؤولين، اكتفين بكونهن زوجات يهيئن للزوج المسؤول وسائل الراحة كي ينتج أكثر، لأنّ الرجل السياسي المرتاح مع زوجة متفرّغة له ولراحته النفسية ولتربية أبنائها تربية وطنية صالحة ينتج بذهن صاف لا تشوبه الشوائب، لهذا المطلوب وضع قانون يمنع زوجات المسؤولين السياسيين من تعاطي أيّ شأن عام هو من اختصاص المختصّين، كما كان يحصل سابقاً مع زوجات السفراء الذين يمثلون وطنهم في الخارج، كما على المسؤولين عدم المكابرة والاستهزاء بحراك الشباب الذي بدأ ولن تستطيع أيّ قوة إيقاف مفاعيله، وألا يعتبروه لغة ساقطة كي لا يسقطوا في طوفان لن ينتشلهم منه أحد لا قريب ولا بعيد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى