نفاد الوقت ونفاد الوقود… وموعد جديد

ارتسمت منذ سنوات، معادلة الشدّ والجذب بين طرفَي ثنائية نفاد الوقت ونفاد الوقود في الحرب الدائرة لرسم نظام عالميّ جديد، التي شكّلت الحرب في سورية وعليها محور الحسم فيها. لكنها كانت في الآن نفسه بتشعباتها تحديداً لمصير مكانة إيران الإقليمية والدولية من بوابة الملف النووي، ومكانة روسيا وتطلع زعيمها لمكانة الندّ والشريك في القرار الدولي. حيث الحرب الأوكرانية مسرح مستجد، ومعهما قدرة «إسرائيل» على الردع ولعب دور حاسم في توازنات الشرق الجديد، من بوابة الحرب مع المقاومة، وتطلع السعودية إلى تثبيت كونها الصانع العربي الأوّل للسياسة. من بوابة الحرب على اليمن، وأحلام تركيا في استعادة أمجاد السلطنة العثمانية من بوابة الإصبع الممدودة في سورية.

يلعب الأميركي في هذه الثنائية دور المركز المولّد للمواعيد، باعتباره صاحب الأمرة في معسكر يضمّ حلفاءه في الغرب والمنطقة. فتحكم حساباته حسابات الحلفاء، وتؤثر مسارات حربه الكبرى في مسارات حروبهم الصغيرة. وقد حسم الأميركي روزنامته على خلفية قراره الانسحاب العسكري من البرّ الآسيوي الذي تحدّد بصورة مبكرة من العراق عام 2011، ومن أفغانستان عام 2014، لتكون نهاية عام 2014 النهاية القصوى لمهل الاختبارات المتاحة من أجل تغيير موازين القوى في آسيا، قبل الدخول في ترسيم التوازنات والخرائط. حيث يصير العام 2015 عام السياسة للبدء في النزول عن شجرات الحروب نحو بيادر التفاوض. لأن الأميركي المدرك موقع أفغانستان في الجغرافيا الآسيوية كجسر وصل برّي وحيد بين عمالقة آسيا: روسيا والصين وإيران، لن يسمح بأن يتم خروجه منها قبل أن تترسّم معادلات جديدة للمصالح والتوازنات، وسيبذل خلال السنوات الفاصلة بين عامَي 2010 و2015، كل ما بين أيديه وأيدي حلفائه ليكون ربحه كاملاً، ويعوض التواصل الجغرافي للثلاث الآسيوية الكبرى عبر أفغانستان بوضع اليد على سورية، فيحرمهم الإطلالة على البحر الأبيض المتوسط، وعقدة أنابيب النفط الغاز، وبالتالي القيمة الاستراتيجية لهذا التواصل.

كان الرهان الأميركي على تجنيد كل ما هو متاح لينفد وقود سورية قبل هذا التاريخ. وكانت حسابات سورية وحلفائها، عدم استنزاف المقدرات والإمكانيات وتوفير مقوّمات الصمود اللازم حتى يحين هذا التاريخ. فيبدأ الهجوم المعاكس واسترداد ما تمت خسارته، والبدء بمراكمة الانتصارات. ومع نفاد الوقت، وبلوغ نهاية عام 2014، صار في المستطاع القول إن الحرب قد انتهت ببُعدها الاستراتيجي. وصارت القضية هي البحث عن مخارج تتناسب مع توازناتها الجديدة وتهيئة الأطراف الخاسرة لتقبل أوزانها الجديدة، سواء الشركاء الإقليميون في الحرب على سورية، أو الذين حملوا لواء المعارضة من السوريين في قلب الحلف الذي ضمّ واشنطن وتنظيم «القاعدة» بنسختيه «النصرة» و«داعش»، وها هو العالم يستدير نحو ترداد جملة مشتركة: «لا بدّ من التحدث مع الرئيس السوري بشار الأسد»، بعدما كانت الاستدارة المعاكسة من تونس قبل أربع سنوات لترداد جملة: «ممنوع التحدّث مع الأسد».

رسمت إيران خطتها في ملفها النووي في قلب فهمها لتوصيف الحرب على سورية كحرب عالمية ستنتج التوازنات التي ترتسم عليها خرائط النظامين العالمي والإقليمي الجديدين. وأدركت أن عليها مواجهة الرهان الأميركي على نفاد وقودها، الذي تترجمه سياسات الحصار والعقوبات، لمنع تقدّمها النووي من جهة، وتقييد حدود قدراتها على تقديم المزيد من الدعم لحلفائها في محور المقاومة من جهة أخرى. وعليها بالتالي تصنيع منصة إضافية لنفاد الوقت الأميركي. فركزت خططها النووية إنفاقاً وبحثاً علمياً، على التقدم النوعي لا على التوسع والانتشار، بلوغاً للحظة التخصيب المرتفع لليورانيوم، وتسريع دورات التخصيب بأجيال من أجهزة الطرد المركزي، تجعل سقف التفاوض معها محكوماً بروزنامة وقت دقيق وحسّاس يوحي ببلوغها لحظة القدرة على امتلاك القنبلة النووية إذا انهارت مسارات التفاوض. وما حصل في السباق التفاوضي حول الملف النووي الإيراني، يؤكد فوز إيران في هذا السباق. كما تتيح كلمات الرئيس الأميركي باراك أوباما عن مبرّرات التفاهم ردّاً على منتقديه تأكيدات كثيرة لذلك.

نجحت روسيا في تجاوز عنق الزجاجة بالضغط على خزان وقودها عبر حرب الأسعار في سوقَي النفط والغاز، لفرض التنازلات عليها في الحرب الأوكرانية وصولاً إلى تغيير موقفها من سورية. وبدأت ترسم لعبتها للاستثمار على نفاد الوقت الأميركي لتضع ساعة الصفر من أجل إطلاق وجودها الاستراتيجي في سورية. وتغيّر معه قواعد اللعبة الدولية والإقليمية، وتفرض معادلات الهجوم المعاكس الذي بدأت بشائره بالظهور.

لعبت تركيا دوراً محورياً في الحرب على سورية. وهي اليوم اللاعب المحوري في قضية المهاجرين السوريين اللاجئين إلى أوروبا كعقاب لألمانيا على وقوفها مع الأكراد وإصرارها على سحب صواريخ «باتريوت» التي تشكل العمود الفقري للمنطقة العازلة التي أرادها حزب الرئيس التركي رجب أردوغان سلّماً للفوز الانتخابي. ولأن تركيا شكّلت ظهير حلفائها بحجم قدراتها وقربها الجغرافي من سورية وحلمها العثماني، فكانت المحور خصوصاً بالنسبة إلى «إسرائيل» والسعودية، وبقيت على رغم التنافس والتفاوت عيونهم جميعاً شاخصة نحو تركيا. وبعد الاستحقاق الانتخابي في حزيران الماضي شعر الحلفاء بالقلق لفشل الحليف التركي في قيادة بلده مرة جديدة. لكنهم مع اقتراب مطلع تشرين الثاني يدركون أن الفشل محتّم، وأنّ نفاد الوقت يدخل منصة جديدة عليهم أن يسرّعوا برامجهم للتأقلم مع المتغيّرات قبل حلول الأجل. فالحرب في اليمن يجب أن تنتج نهاياتها قبله. وعلى «إسرائيل» أن تحسم خياراتها إزاء فرضيات تدمير المسجد الأقصى لقلب الطاولة، من دون التورط في حرب لا تقدر عليها، واستدراج حلول بسقوف منخفضة بضغط حدث كبير، قبل ذلك التاريخ.

شهران مليئان بالمفاجآت الساخنة والمتسارعة وحبس الأنفاس والرقص على صفيح ساخن. لكن الساعة لن تعود إلى الوراء. فما كُتب قد كُتب، وانتصر نفاد الوقت على نفاد الوقود.

ناصر قنديل

ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى