النزعة الإنسانيّة ميراث ثقيل لميشال فوكو و«الثقافة الجديدة» تتبنّى المنهج اللسانيّ للتأويل
جورج كعدي
قلنا في مستهلّ هذه السلسلة الفكريّة: يموت الإنسان إذ تموت نزعته الإنسانيّة. فما عسانا نقول حيال تعبير لميشال فوكو في هذا الصدد، ضن حوار أجري معه عام 1969، إذ أكّد بلغة حاسمة: «إنّ النزعة الإنسانيّة هي أثقل ميراث انحدر إلينا في القرن التاسع عشر وقد آن الأوان للتخلّص منه، ومهمّتنا الراهنة هي العمل على التحرّر نهائيّاً من هذه النزعة»! وهكذا، بعد نيتشه وهايدغر وليفي ـ ستروسّ، نرى فوكو منضمّاً إلى فلاسفة المعاصرة والحداثة وبنيويّيها في الانقضاض الشرس على النزعة الإنسانية Humanisme بغية الإجهاز عليها وطرحها من الخطاب الفكريّ والفلسفيّ المعاصر.
يحتلّ فوكو Foucault موقع الصدارة في الفكر الفلسفيّ الفرنسيّ المعاصر بعد جان بول سارتر، تحديداً ضمن التيّار الذي بات يعرف بتيّار فلسفة «موت الإنسان». ويمكن القول بلا مبالغة إنّ الفكرة الأساسيّة التي وجّهت كتابات فوكو في ستّينات القرن الفائت كانت مواصلة تقويض أسس النزعة الإنسانيّة، فهذا التقويض كانت بدأته «الثقافة الجديدة» التي يصفها فوكو بأنّها تحليليّة وتعارض الفكر الجدليّ والنزعة الإنسانيّة وتحلّ مكانهما، واستهلّت في رأيه مع «نيتشه حين أعلن أنّ موت الله لا يعني بزوغ عهد الإنسان بل أفوله. كما ظهرت لدى هايدغر، ولدى اللسانيّين، ولدى ليفي ـ ستروسّ»، ويعتبر نفسه منتمياً بالتأكيد إلى فلسفة «موت الإنسان» ومديناً لهؤلاء الروّاد جميعاً في بلورة مشروعه الفكريّ الجديد الذي يتحقّق تحت مقولة «موت الإنسان واختفائه».
النزعة الإنسانيّة والفكر الجدليّ، بحسب تأويل فوكو، متلازمان ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر: فالفكر الجدليّ يستدعي النزعة الإنسانيّة وهي فلسفة للممارسة البشريّة، وللتاريخ، وللاستلاب. والنزعة الإنسانيّة تستدعي بدورها التاريخ لكونه كريماً بوعود أنّ الكائن البشريّ سيتحقّق مستقبلاً على نحو كامل، وبكيفيّة أصيلة، مؤكّداً أنّ «أكبر مسؤولين عن النزعة الإنسانيّة المعاصرة هما بالطبع ماركس وهيغل».
الجدّة التي حملها مشروع فوكو تكمن في أنّه سعى إلى تحقيق غايته في ميدان آخر جديد كانت البنيويّة غفلت عنه حتى ذلك الحين، هو ميدان نشأة العلوم والمعارف وتاريخ الأفكار، مطارداً الأثر الإنسانيّ: مظاهر الوعي والإرادة، القدرات الإبداعيّة والذات، التاريخ كسيرورة ومعرفة… يقول فوكو في كتابه «الكلمات والأشياء»: «إن الإنسان اختراع حديث العهد، صورة لا يتجاوز عمرها مئتي سنة. إنّه مجرّد انعطاف في معرفتنا، وسيختفي عندما تتّخذ المعرفة شكلاً آخر جديداً». «الإنسان الحديث» ليس في نظر فوكو أكثر من حدث معرفيّ موقّت تضافرت لظهوره شروط وأواليات صنعت ثقافة القرن التاسع عشر، ومحكوم عليه بالاندثار لدى شروع أسس تلك الثقافة في التصدّع. ليس الإنسان لفوكو أكثر من ومضة عابرة على سطح المعرفة، أسطورة حديثة حبكها فكر القرن التاسع عشر. أمّا «الثقافة الجديدة» التي ينتمي إليها مشروع فوكو الفكريّ فبدأت تملأ الفراغ الذي خلّفه «اختفاء» الإنسان… واندثار أسطورته!
بعد صدور كتابه «الكلمات والأشياء» وتوالي الأصداء الانتقاديّة الأولى التي أثارها، أوضح فوكو علاقة هذه الفلسفة الجديدة مع ما أصبح يُطلق عليه «فلسفة تقليديّة» ذات نزعة إنسانيّة، مشدّداً على سأم جيله من المفكّرين ونفوره من مواضيع الفلسفة «التقليديّة» التي تحيل جميعها في تكرار مملّ على الوجود والحياة والسياسة والحرية والمعنى والنضال والالتزام، معتبراً أنّ جيله لم يبق قادراً على التنفّس داخل هذا المناخ الفكريّ الخانق ويتطلّع إلى آفاق فلسفيّة أخرى بديلة. ويبدو أن حلم جيل فوكو بدأ يتحقّق لمّا آنت لحظة القطعيّة مع الفلسفة التقليديّة. وعن تلك اللحظة يقول فوكو: «أظهر لنا ليفي ـ ستروسّ بالنسبة إلى المجتمعات ولاكان Lacan بالنسبة إلى اللاشعور، أنّ من المحتمل ألاّ يكون المعنى سوى أثر على السطح، سوى برق يطفو، وأن ما يخترقنا عمقاً، والموجود قبلنا ويسندنا في الزمان والمكان هو النسق Syst me».
كفّ جيل فوكو عن الإيمان بالمعنى وبمواضيع الفلسفة «التقليديّة» واكتشف لنفسه شغفاً جديداً هو الولع بالمفهوم Concept وبالنسق. يقول فوكو: «نعني بالنسق مجموعة من العلاقات تستمرّ وتتحوّل في استقلال عن الأشياء التي تربط في ما بينها… النسق موجود قبل أيّ وجود بشريّ وأيّ فكر بشريّ». لكن من يتكلّم داخل هذا النسق؟ لا ندري! في أيّ حال، ليس الله هو المتكلّم إذ يتبنّى فوكو حكم نيتشه نفسه عليه الله مات ، إنّما ليس هو الإنسان كذلك، فالإنسان لفوكو مجرّد وهم وأسطورة حديثة العهد. من يتكلّم إذن؟ إنّها اللغة! إنّ النسق يدرك نفسه بنفسه من خلال اللغة وبواسطتها. هذا النسق الذي يسبق كل نسق، والذي تنطق اللغة مجهولة الهوية من خلاله. هو الأساس الذي تومض الذات الواعية على سطحه للحظة عابرة.
من خلال الأبعاد الجديدة التي أضفتها اللسانيّات البنيويّة على اللغة، استلهم العديد من الباحثين والمفكّرين الفرنسيّين المعاصرين طرائق وكيفيّات أصيلة للنظر في مواضيع اهتماماتهم المتعدّدة المتّصلة بالمجتمع والإنسان والثقافة والأدب والعلوم والمعارف. مشروع ليفي ـ ستروسّ انطلق من فرضيّة أنّ المظاهر المختلفة للحياة الاجتماعيّة والثقافيّة ذات طبيعة قريبة من طبيعة اللغة، إن لم نقل هي ذاتها لغة. أما مشروع جاك لاكان فأهميّته الكبرى تعود في نظر فوكو إلى أنّه كشف من خلال خطاب المريض وأعراض عُصابه أنّ المتكلّم ليس هو الذات بل البنيات اللغويّة ونسق اللغة ذاته! ويذكّرنا ذلك بعبارة لاكان نفسه: «إنّ الطريق الذي افتتحه فرويد ليس له معنى آخر سوى ما أقوله: إنّ اللاشعور لغة».
المحاولة الأبرز التي حاول فيها فوكو تطبيق بعض عناصر المنهج اللسانيّ البنيويّ تتجلّى في كتابه «نشوء العيادة» Naissance de la Clinique الذي تبنّى فيه وجهة نظر بنيويّة شاملة، إذ اعتبر الأفعال، إن قولاً أو غير ذلك، تجلّيات بنية نظريّة مهيمنة في مرحلة تاريخيّة معيّنة. كما درس في الكتاب عينه التطبيقات الطبّية في العصر الكلاسيكيّ من خلال لغتها وكيفيّة اشتغالها، وحاول رصد اللحظة التي أدّت إلى ظهور الخطاب الطبّي الحديث كخطاب يملك نمطاً من المعقوليّة خاصاً به.
يهدف فوكو في «نشوء العيادة»، على ما يشير في مقدّمته، إلى اختبار منهج جديد في ميدان تاريخ الأفكار الذي يتّسم بالغموض والفوضى، منتقداً المنهج التقليديّ الذي يعتمد أساساً، في رأيه، على التأويل والشرح والتعليق، ويفترض في النصوص كنزاً لا ينفد من المعاني المتخفّية والعميقة التي لا تنتظر من الشارح سوى الكشف والإفصاح عنها، بحيث يقاس ذاك الغنى المفترض في النص بمدى اتساع معارف الشارح وغزارة ثقافته! بدلاً من ذاك المنهج العقيم والرتيب، يقترح فوكو تحليلاً بنيويّاً للخطاب متحرّراً من «قدريّة» الشرح واعتباطيّته، ويترك الدالّ والمدلول في تطابقهما الأصليّ. يحاول فوكو دراسة الخطاب من منظار العلاقات القائمة بين عناصره والتي تكوّن في مجموعها نسقاً. تلك العلاقات تقوم، كما هو شأن اللغة، على الاختلاف والتناظر. استناداً إلى هذا المنهج الجديد يعتقد فوكو أنّ في الإمكان اكتشاف نوع من النظام في الخطاب يتعيّن بنسق الكلمات. أضحى المنهج اللسانيّ، في تعبير فوكو، الأداة الرئيسيّة لقراءة وفكّ رموز ظواهر اجتماعيّة وثقافيّة عديدة، واتّسع المجال لغزو ميادين كثيرة… يتبع