زيارة قداسة البابا إلى الولايات المتحدة

كتب زياد حافظ

زيارة قداسة البابا فرنسيس الثاني للولايات المتحدة قد تكون تاريخية لأسباب عدّة. فهي الزيارة الأولى لهذا البابا للولايات المتحدة ولكنها ليست الزيارة الأولى للمقام البابوي لهذا البلد. فقد سبقه البابا يوحنا الثالث والعشرين وبولس السادس وحنا بولس الثاني وبنديكتوس السادس عشر. لكن ما يميّز هذه الزيارة عن الزيارات السابقة وقد يجعلها تاريخية هو فحوى خطابه الروحي والسياسي وسلوك الرجل وتواضعه والذي نعتقد أنه سيلاقي صدى كبيراً في وجدان الأميركيين. فمن جهة سيعتبر الديمقراطيون وفي مقدمهم الرئيس الأميركي أوباما أن القضايا التي يثيرها قداسته حول الفقر والتفاوت الاجتماعي والتغيير المناخي هي قضاياهم. أما الجمهوريون سيرون الفارق بين تواضع قداسته ونرجسية المرشح المتقدم أي دونالد ترامب وما يمثله من ثراء فاحش. فزيارة قداسته ستؤثر بالأميركيين سياسياً وروحياً حيث خطابه المنفتح على الناس وقضاياهم يلاقي ترحاباً عاماً. ونلفت هنا النظر أن اختيار البابا لاسم قديس عاش في عصر حملات الفرنج أو الحروب الصليبية كما يقولون في الغرب على العرب والمسلمين ومعروف أيضاً بانفتاحه على الإسلام والمسلمين ليست في رأينا من الصدف. فالبابا يريد أن يقول إنه رسول الانفتاح على الجميع.

بلغ اهتمام الأميركيين لتلك الزيارة درجة كبيرة جدّاً إذ حاول العديد من النوّاب والشيوخ السابقين والشخصيات السياسية والإعلامية والفنّية الحصول على بطاقات حضور الخطاب الذي سيلقيه في الكونغرس من دون أي نتيجة. فقد استنفدت البطاقات منذ زمن بعيد. كما أن جوّلته في محيط الكونغرس ستكون مناسبة للإطلالة على الجماهير الغفيرة المرتقبة تجسيداً لتواصله الشعبي المباشر.

أما في نيويورك فسيلقي خطاباً يوم الجمعة في 25 أيلول الجاري في الجمعية العمومية للأمم المتحدة ويُتوقع أن يكون خطابه تنديداً لإهمال فقراء العالم من قبل الدول الغنية. هنا نذكّر بأن قداسته لم يكتفِ بتنديد بالتوحّش الرأس المالي عبر الخطابات السياسية بل أطلق رسالة بابوية في أيار 2015 تحت عنوان «لوداتو سي» Laudato Si يشرح فيها العالم والعلاقات الاجتماعية. كما أن دعوته لعبادة الله بدلاً عن عبادة المال في عاصمة معابد المال لا تخلو من الجرأة حيث يكون صداه حركة مناهضة الواحد في المئة من الأثرياء التي عمّت شوارع وسط نيويورك منذ عامين ويخاصة وول ستريت. كما سيلتقي في ما بعد في مدينة فيلادلفيا بعائلات ضحايا 11 أيلول 2001.

فماذا يمكن أن نتوقع من هذه الزيارة ومن خطابه الإنساني والسياسي؟

أولاً ـ شخص هذا البابا وخطابه للمسيحين وللعالم أجمع خطاب مميّز بامتياز وشخصية نادرة. فمن يتابع خطاباته يجد لغة جديدة في مخاطبة الفقراء، ونقول نحن المستضعفين، في العالم. خطابه لا يخلو من البعد الفكري والسياسي إضافة للقيمة الروحية. خطابه خلال زيارته لدول اميركا اللاتينية هذا الصيف حمل فيه بشدّة على الرأس المالية المتوحشة التي تفتك بشعوب العالم حيث اعتبر الرأس المالية المتوحشة من روث الشيطان! فزيارته الولايات المتحدة وبخاصة عاصمتي السياسة واشنطن والمال نيويورك لها دلالات كبيرة. فحوى رسالته هو الكف عن عبادة المال والاهتمام بالمستضعفين!

زيارته لكوبا قبل زيارته للولايات المتحدة لها أيضاً دلالات. فكوبا دولة شيوعية والشيوعية مرادفة للإلحاد. فكيف يمكن التوفيق بين من يمثّل الايمان ومن يمثّل الالحاد وهو الذي قام بدور الوسيط في إعادة العلاقات بين كوبا والولايات المتحدة؟ الإجابة في رأينا تكمن في أن النظام السياسي في كوبا لم يلغِ الايمان وإن لم يشجّعه في قلوب المواطنين، كما أن خطاب البابا عن المستضعفين يصعب تجاهله ونقضه. من هنا تكون الزيارة طبيعية ناهيك عن دلالاتها السياسية للدولة الكوبية وانفتاحها على الكنيسة من باب الثقة بالنفس. فكوبا المحاصرة اقتصادياً من قبل الولايات المتحدة تتمتع بأفضل النظم الصحّية في العالم من معاينة مميّزة إلى رخص الدواء. كما أن النظام التعليمي مميّز والخدمات الاجتماعية مؤمّنة. ليست هناك رفاهية المجتمعات الغنية ولكن هناك ما لا يوجد في دول تدّعي التقدم على الآخرين من خدمات اجتماعية واعتزاز بوطنهم رغم كل الملاحظات التي يمكن توجيهها لطبيعة النظام القائم. أما مسألة الحرّيات في كوبا فهي مرتبطة بكفّ الولايات المتحدة عن التآمر ضد الدولة الكوبية وخياراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ثانياً ـ صدقية هذا الخطاب من صدقية الرجل نفسه وسلوكه. تواضع قداسة البابا وابتعاده عن مظاهر الثراء حتى وهو في هذا المقام الرفيع له تداعيات كبيرة منها شعبيته الكبيرة عند المسيحيين وحتى غير المسيحيين. فعلى سبيل المثال وبّخ العديد من الأساقفة والمطارنة والرهبان والراهبات الذين يتجوّلون في سيّارات فخمة بينما المطلوب سيارات متواضعة تفي بغرض النقل من مكان إلى مكان! فالتقشّف في سلوك رجال الدين مطلوب وفقاً لتعاليم سيدنا المسيح عليه السلام، والفائض من المال يجب أن يُصرف على الفقراء. ويتساءل قداسة البابا كم من طفل جائع يمكن إطعامه مع الفرق في كلفة السيارة الفخمة والسيارة المتواضعة؟ هذا نموذج من كلامه في موضوع نصرة الفقراء وتأنيب أحبار الكنيسة الذين يعيشون في القصور ويتجوّلون في السيارات الفخمة! قد يحدث هذا البابا انقلاباً مفصلياً في سلوك الكنيسة إذا ما كتب له الاستمرار في هذه السياسة التي تمثل تعاليم المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وبخاصة ما جاء في موعظة الجبل.

يتميّز خطاب قداسة البابا فرنسيس الثاني بمضمونه وبوتيرته الهادئة. فمن جهة يقارب الملفّات الاجتماعية الخلافية بين المسيحيين في قضايا العائلة والعلاقات بين الأفراد من دون التراجع عن المعتقد في الكنيسة ولكنه يتّبع أسلوباً هادئاً متفهّماً لأوجاع وهواجس الناس. فيرفض إدانة الإنسان الخارج عن بعض تعاليم الكنيسة إذا كان صالحاً ويتفهّم الإقدام على أعمال لا تنسجم مع تلك التعاليم من دون الموافقة عليها مما يجعل أكثر المسيحيين يستمعون إليه. فصلته بالناس تساعده على إيصال رسالته. استطلاعات الرأي العام في الولايات المتحدة حول هذا البابا أتت بنتائج لافتة للنظر. فأكثرية الليبراليين أو التقدميين يعتبرونه تقدّمياً بينما أكثرية المعتدلين يعتبرونه معتدلاً وأكثرية المحافظين يعتبرونه محافظاًَ. هذا يدّل على قدرة في الوصول إلى مختلف الشرائح عبر إصغائه لهم فيصغون عندئذ له. وفي ذلك عبرة للسياسيين في أميركا كما في العالم وبخاصة في لبنان والوطن العربي!

وما يطلبه من الآخرين يقوم هو بتنفيذه شخصياً. فالمعلومات حول مقام إقامته في روما هي أنه يقطن شقة متواضعة في الفاتيكان ويعيش حياة بسيطة للغاية. كما أن تواصله مع الناس العاديين وابتسامته الدائمة يجعلانه أيقونة عند الكثيرين. أضف إلى ذلك كلامه في منتهى القساوة تجاه الممارسات البلاطية في الكرسي الرسولي حيث وصفها بمرض الجذام!

في هذا السياق بالذات تكون زيارته للولايات المتحدة حيث أكثرية المسيحيين فيه، وهم الأكثرية السكاّنية، من البروتستنتيين، ذات دلالات كبيرة. لقد قامت البروتستنتية على قاعدة التمرّد على انحرافات الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر وبخاصة سلوك الفحش عند أحبار الكنيسة. كلام البابا فرنسيس الثاني يحاكي وجدان الأميركيين في شكل عام وبالتالي يخفّف من العداء المزمن عند الأميركيين تجاه البابا والكاثوليكيين.

من عناصر صدقية هذا البابا عند الأميركيين مواقفه في معالجة قضايا أخلاقية كادت تطيح بالكنيسة الكاثوليكية في الولايات المتحدة. فالفضائح الجنسية تجاه الأطفال ارتكبها عدد من الأساقفة ساهمت إلى حدّ كبير في التخلّي لعدد كبير من الكاثوليكيين الأميركيين عن كنيستهم. واجه قداسة البابا فرنسيس الثاني هذا الواقع بشجاعة وحزم منذ تولّيه الكرسي الرسولي وأمر بتنقية الأساقفة وقدّم الاعتذار لضحايا الاعتداءات الجنسية لبعض الأساقفة. ساهم هذا الموقف الجريء إلى عودة العديد من الكاثوليكيين الأميركيين إلى كنف الكنيسة.

قداسة البابا فرنسيس الثاني يريد جمع الناس وتآلّف القلوب في مواجهة قضايا المجتمع والحياة. لا يتخلّى عن معتقدات الكنيسة ولكنه يتفهّم من لا يستطيع الانصياع لها. فهل من يعتبر ذلك عند العرب والمسلمين؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى