الفارّون من جلودهم
عدنان كنفاني
في أيّ دولة يجري قتال على أرضها، سواء باقتتال داخلي، ما اتفق على تسميته «حروب أهلية»، أو من خلال تعرّضها لحرب من الخارج، يحدث أن تخرج الناس «المدنيين» بحثاً عن مناطق آمنة لحماية نفسها من الموت دون جريرة ارتكبوها، وحماية أسرهم وأبنائهم وما تيسّر من ممتلكاتهم…
وهذه الظاهرة لا تقتصر على منطقة أو دولة بعينها، ولا تنتمي إلى فترة حديثة أو قديمة، بل هي تصرّف شبه فطري يجري في كلّ مكان سعياً للنجاة والسلامة.
ولكن الملاحظ، بل والمنطقي الذي يقبله العقل، والذي يحدث دائماً على الغالب، أنّ هذا «البحث عن الأمان» يضمّ أفراداً وعائلات من كلّ الأعمار تقريباً، مجموعات من الأسر شيبها ونسائها وأطفالها، يخرجون من المناطق الملتهبة، إلى مناطق أكثر أمناً سواء في داخل بلدهم، أو في الخارج، وغالباً إلى دول الجوار، ومن الجدير ذكره أنّ نسبة «الشباب» في هكذا حالات تكون قليلة جداً، وبخاصة الشباب القادر على حمل السلاح، وتقع عليهم مسؤولية حماية بلدهم وممتلكاتهم، وهم الأقدر على المواجهة.
الظاهرة الغريبة، والمختلفة التي نلاحظها في «الحالة السورية»، أنّ العكس تماماً هو الذي يجري، فالغالبية المطلقة من «الفاريّن» هم من الشباب، وهم تماماً في السنّ المثالي الذي يوجب عليهم حماية بلدهم، بينما نجد قلّة من الأسر، ومن المسنّين إلا ما رحم ربي وكانت لهم ظروف استثنائية.
ولنقل أنه من الطبيعي أن يبرّر كلّ من غادر سورية، أو من دفع بمن غادر للخروج من أهله وأقربائه، ويجد سبباً فرض على من غادر أن يغادر، وقد يكون في بعض التبريرات «النادرة جداً» بعض قبول، ولكن هل نستطيع أن نجد مبرّرات لكلّ من غادر الوطن من هؤلاء الشباب، سواء سابقاً، منذ بداية الأزمة، ومن كانوا في مخيمات هُيئت لهم حتى قبل بداية الاقتتال على الجانب التركي في شمال سورية، كانت على استعداد لاستقبال أعداد كبيرة، جلّهم من أسر «العصابات المسلحة»، ممن حملوا السلاح وقاتلوا ضدّ الدولة، وكانت مناطقهم «المدن والقرى السورية» تشكل بيئة حاضنة للإرهابيين، وكانت تركيا على استعداد لاستقبالهم كملجأ حماية لهم، ومن ثم استغلالهم لتنفيذ مخططات أخرى تصبّ دائماً في استعداء الجيش والحكومة والمدنيين في سورية، وتخريب البنى التحتية، وتدمير ما يمكن تدميره من آثار ومعالم، وللأسف كلها تقع تحت عنوان ثورة ، «وإسقاط النظام في سورية»، وما اتفق حديثاً على إطلاق تسميته مواربةً معارضة معتدلة !
أو لاحقاً ما نراه الآن، بعد صحوة الضمير المفاجئة التي استنهضت مشاعر السيدة أنجيلا ميركل، وصورة الطفل الغريق الملقى على شاطئ بحر تركيا بعد أن لفظه البحر جثّة هامدة التي حرّكت «حسّها الإنساني» لتعلن أنّ حكومة ألمانيا مستعدّة لاستقبال اللاجئين السوريين من دون قيد أو شرط، ومن دون تأشيرة دخول وما إلى ذلك من تسهيلات، «وأعتقد أنّ صحوة الضمير المفاجئة هذه لن تدوم طويلاً، وستجد السيدة ميركل نفسها في موقف حرج، ولا بدّ أن يأتي وقت تعلن فيه أيضاً إغلاق الحدود في وجه أي لاجئ»!
إنها ظاهرة «غريبة» تخرج من حكومة ما زالت تناصب سورية العداء، والعرب، والمنطقة بشكل عام، والتي موّلت ودعمت ودرّبت العصابات المسلحة التي تقاتل في سورية، ترافقت صحوة الضمير هذه، ودعوة ميركل المعلنة، بتجاوب «ضمني» من تركيا لتفتح مخيمات اللاجئين السوريين في أراضيها، وتقذف بهم إلى أوروبا زرافات، وفي هذا السلوك خفايا أخرى لا مجال لذكرها في هذا العرض، ولا مجال أيضاً لذكر الأسباب التي دعت السيدة ميركل لإطلاق دعوتها في هذا الوقت بالذات، ولو أنّ أول الأسباب محاولة «تفريغ» سورية من شبابها بالترغيب الفاضح!
عشرات الألوف من الشباب، وأركز على كلمة شباب، جلّهم في سنّ خدمة العلم، أو في سنّ الاحتياط، ولا أجد لمغادرتهم سبباً مقنعاً غير أنه هروب من خدمة، وخوف من موت محتمل، أو أنهم ممّن شارك في استعداء الدولة، أو شكل بيئة حاضنة للقتلة كما أسلفنا! أما «ادّعاء» مبرّرات أخرى فلا يمكن أن ترقى للقناعة… من يدّعي فقراً وجوعاً ومن يدّعي ندرة فرص العمل ومن يسعى لتأمين سبل الحياة، وهذه كلها أسباب، وإنْ كانت في المنظور العام معقولة، إلا أنها في الحالة السورية غير صحيحة، وفي حال هؤلاء الشباب ومغادرتهم بطريقة أو بأخرى نجدها أبعد عن ادّعاء تلك الأسباب، فكلّ من غادر، وهو يعلم ماذا ينتظره في الطريق، وكم يحتاج إلى سيولة، تفرض عليه بشكل يقيني أن يحمل في جيبه وسطياً ما يعادل مليوني ليرة سورية وأكثر، أما كيفية حصوله على مبلغ كهذا، فهناك طرق كثيرة يساعد عليها أولياؤه وهم يدفعون به للسفر خلاصاً من خدمة في الجيش، ونجاة من موت محتمل، وهم لا يعلمون أنهم بسلوكهم هذا يفقدون أبناءهم أحياء، ويدفعون بهم إلى مجهول مقنّع بصفات يسيّلونها كي تُرضي ضمائرهم بما هو أشدّ وأقسى، فمن باع ما يملك، أو سحب مدخراته، أو اقترض، وكلّ هذا يؤكد أنه يحمل فعلياً مبلغاً كبيراً، ولا يستطيع التحرك أصلاً من مكانه في بلده أو قريته في سورية قبل أن يؤمّن المبلغ في جيبه، وهذا بطبيعة الحال ينفي الادّعاء بالجوع وقلة فرص العمل وإلى آخر هذه المبرّرات غير الواقعية…
أعرف أنّ العاطفة والخوف تفرض على الأهل دفع أبنائهم للهجرة بأيّ طريقة وبأيّ وسيلة، يتصوّرون أنّ في ذلك نجاة أبدية لهم، لكن بعضهم سقط على الطريق، وبعضهم ابتلعه البحر، وكثير منهم في متاهات المجهول يتخبّطون بحثاً عن شيء يقيم الأود معنوياً ومادياً، وبعض كرامة…
يدفعون بهم للهجرة واللجوء هرباً من موت محتمل، إلى موت آخر أشدّ مرارة وقسوة.
مما يؤلم حقاً وأنا أتابع مشاهدة عشرات الألوف من الشباب أرتالاً في بلاد الشتات، يعانون من الذلّ والازدراء والإهانة، وهذا مسؤول في حكومة «هنغاريا» يقول: «لم أر في وجوه شباب لاجئين، وهم ممتلئين صحة وشباباً ما لا يدلّ على أنهم تواقون إلى اللجوء فراراً من حرب، بل أشعر أنّ في وجوههم مشاريع أخرى لا أستطيع أن أحدّد ماهيتها»!
وتقول شرطية نرويجية اصطدمت مع بعض الشباب اللاجئين، وقد تعرّفت على وجه أحدهم من خلال شاشات الفضائيات والأخبار، كان في وقت سابق مع المسلحين المتطرفين، قالت بغضب: أنتم خونة تركتم بلدكم للغرباء وجئتم لتعلموا أبناءنا الخيانة !
أيّ ذلّ أصعب من هذا ومهما كان الثمن؟
أتابع مشاهدة عشرات الألوف من الشباب، أصحاء أقوياء، وهم يشكلون «فراراً من الخدمة»، ومن الواجب، إلى جانب الغيرة من بعضهم، وبريق أوروبا، لكن الفرار من الخدمة يبقى السبب الأساس في الهرب مهما حاولوا تزييف الواقع، ومهما خلقوا من أسباب، فأقول في نفسي: ماذا لو انتظم هؤلاء في الجيش العربي السوري، أو في لجان الدفاع الوطني والشعبي، أو حتى في دعم الجبهة الداخلية وتأدية خدمات مدنية، اجتماعية وإنسانية تدعم صمود المقاتلين، وتشدّ من عزائمهم، أقول في نفسي لو أنّ هؤلاء الشباب كانوا الرديف المؤمن بالوطن وعزته وكرامته وحريته، ألم نكن بهم ومعهم بحال أفضل؟
لا شك في أنّ هذا يشكل مشكلة كبيرة تقع المسؤولية فيه على الجميع، ويتطلّب دراسة واضحة وصريحة ومعمّقة، تبحث عن الأسباب وتعمل على العلاج، وكما أقول بكلّ مناسبة، نحن الآن في أزمة حرب أعتبرها صغرى أمام الآتي بعد الخروج من الأزمة، إذا علينا جميعاً العمل والبحث لتصويب مسارات كثيرة في سلوكنا الوطني والاجتماعي، وأهمّها تربية الوعي وتفعيل الانتماء للوطن.