حصار الجيش الروسي بين حذاء الطنبوري وحذاء نتنياهو…
نارام سرجون
احترت في تفسير علاقتي بالجاسوس الإسرائيلي الأشهر عزمي بشارة كما احترت في تشبيهها بأية علاقة، فكلما قرّرت التخلص منه ووضعت اسمه في كيس أسود وربطته بإحكام وألقيته حيث تلقى الأكياس السوداء في أكوام بيروت، أفاجأ أنه يعود إليّ من حيث لا أدري ويقف أمام عتبة قلمي ودفاتري محدّقاً بي… ألقيته مرّة في البحر فعاد مبللاً يقطر الماء من ثيابه ومن شنبيه الكبيرين اللذين كانا يقطران ماء كاسفنجة ضخمة، وينظر إليّ متحدّياً أو مستجدِياً أن أعيده الى قواميسي السياسية… وتبرّعت به لغيري كما يتبرّع أحدنا بالدمى التي كبر عليها الأطفال ولكنه برز عليّ من صندوق الهدايا التي تصلني من أصدقائي، وفاجأني مثل أرنب أبيض يخرج من قبعة الساحر…
والحقيقة أنني ابتليت بهذا الجاسوس أكثر مما ابتلي أبو القاسم الطنبوري بحذائه الذي حاول التخلص منه عشرات المرات ولكنه كان يعود إليه بأعجوبة بعد كلّ محاولة مستميتة للتخلص منه، ولا أدري إنْ كان من اللائق أن أقول بأنني أحسّ حياله كما أحسّ أبو القاسم الطنبوري تجاه حذائه، وأنني أعيش نفس مشاعر أبي القاسم الطنبوري كلما عاد «حذائي» عزمي إليّ…
وكنت قرّرت في غير مرة أن أحزّ عنق عزمي بشارة كما يفعل الثوار السوريون بأسراهم، وأن أتخلص منه الى الأبد وأريحه مني وأستريح منه، وأريح الناس من عرضه وعرض شنباته في معرضي ومتحفي، ولكن هيهات فكلما قطعت له رأساً ظهر له رأسان…
هدية العيد لي كانت اليوم أن عاد حذاء الطنبوري عزمي بشارة وأطلّ عليّ ليدلي بدلوه كما اعتاد بالحرب على سورية وليس على إسرائيله … والحقيقة أنني ورغم ضيقي ونزقي من رؤية عزمي بشارة فإنني صرت كلما رأيته يضع المراهم على جراح الثورة أتفاءل وأستبشر خيراً، وكلما غاب يساورني القلق ويصيبني الهمّ والغمّ.
الرجل والجاسوس الأشهر في «إسرائيل» صار علماً من أعلام «الربيع»، ولكنه صار مثل البصّارة التي تقرأ الفناجين، وهو يفهم في كلّ الفناجين وكلّ أنواع البنّ ويرى في ترسّبات القهوة ما لا تراه عيوننا، ويجول بمهارة وذكاء بين خطوط القهوة ويصف المستقبل بشكل تحسده عليه أية قارئة فنجان، ولا أزال أذكر كلّ نبوءاته نبوءة نبوءة، وأذكر أنه دخل في منافسة مع المنجّمين في سهرة ليلة رأس السنة عام 2012 ليقول لنا بصوته الأنثوي الناعم الحادّ بأنّ النظام السوري «سيسكط» حتماً في أوائل عام 2012 لأنه أفلس اقتصادياً وكلّ ما في جيبه لا يكفي لإطعام الاقتصاد السوري الا لعدة أسابيع، ولم تمرّ مناسبة منذ خمس سنوات إلا ويبرز حذاء الطنبوري «الاسرائيلي» لنا بحتمية من حتمياته ونبوءاته التي لا يغلفها صاحبها بفلكيات نوسترا داموس بل بقوانين المعرفة العلمية للسياسة والاقتصاد والمجتمع والثورات و… الاسلام.
بالأمس قال حذاء الطنبوري بأنّ التواجد الروسي في سورية لن يغيّر الموازين العسكرية، بل جاء ليثبت الواقع الحالي ويمنع تقدّم الثوار ويمنع سقوط العاصمة والساحل، وطبعاً ثرثر حذاء الطنبوري كثيراً وأضاف هذه النبوءة الى سجل نبوءاته التي لم تتحقق واحدة منها منذ خمس سنوات على الأقل، ويبدو أنّ الرجل قد دفع به دفعاً للإدلاء بدلوه عند اشتداد حرارة القلق، فالرجل مثل ظلّ نتنياهو، يتحرك كلما تحرك نتنياهو، فما ان وصل نتنياهو الى موسكو حتى أوكلت الى حذاء الطنبوري المهمة في ترويج الشائعات وشدّ الهمم الثورية المتوترة والقلقة والمصدومة من دخول الروس علناً على خط الحرب في سورية ومن تسابق مجموعة زعماء الأيام المعدودة من أجل صياغة عبارة ودية تقول لا بدّ من قبول الأسد ولو في المرحلة الانتقالية والحمد لله أنهم لم يحدّدوا الفترة الانتقالية بأيام معدودة، الحقيقة أنّ أشرس وأعند المتشنّجين ضدّ الدولة السورية محقون في توترهم وعميق قلقهم من الاندفاعة الروسية، ولهذا بدأ الدفع بالاتجاه المعاكس لحقن الثوار ببعض المهدّئات وبدأت الأقلام الطنبورية بالنشاط لتصوير الحركة الروسية أنها تكليف أميركي ينفذه بوتين، وسيكلف فيصل القاسم بإدارة حلقة عنيفة للغاية من برنامجه لإقناع الناس بأن الروس بدأوا باحتلال سورية وتقاسمها مع زهران علوش والجولاني.
عزمي لا يريد منا أن نرى كيف يتغيّر العالم ويتبدّل، ولا يريد أن يجيب عن سؤال مهمّ وهو: انْ كانت هذه الثقة بأنّ الروس لم يأتوا لتغيير الواقع بل لتثبيته فلماذا ذهب نتنياهو الى موسكو فوراً؟ ولم ذهب أردوغان أيضاً؟ انْ كان الروس قد جاؤوا لإبقاء سورية مقسّمة بين البغدادي والجولاني وزهران علوش فإنّ على نتنياهو أن يحسّ بالطمأنينة والرضى ولا يمنح النظام فرصة للشعور بأنّ هذه الحركة مخيفة فتعطيه مدداً معنوياً، ولماذا يغامر نتنياهو بكبريائه ليلتقي بوتين الذي يعلم ما هو دور اليهود الصهاينة في أوكرانيا وقبلها في جمهوريتي أبخازيا وأوسيتيا؟ هل لأنّ النظام السوري المهلهل المقسّم كما يزعم حذاء نتنياهو سيبقى في رعاية الروس وتحت سيطرتهم وليس مستقلاً في قرار الحرب والسلم وكلّ همّه ألا يجتاحه البغدادي والجولاني؟
الحقيقة أنّ حذاء الطنبوري لم يفلح في المناورة هنا، ومن الواضح أنه مصاب بالقلق مثل نتنياهو من مشروع روسي سوري إيراني لتدمير مشروع إقامة منطقة فوضى خطرة للغاية، لأنّ بقاء «داعش» في العراق وسورية ليس مثل وجود «طالبان» و«القاعدة» في أفغانستان، لأنّ «داعش» موجودة في منطقة مرور خطوط الغاز وفوق بحيرات نفطية وهي إنْ عاشت ستنفق هذا المال والموقع في بناء كيان خطر للإيجار واستثماره في تدمير روسيا نفسها بالتحريض الإسلامي ضدّ روسيا، ولذلك فإنّ روسيا لم تأت للحفاظ على تمزيق خرائط النفط والغاز، بل لإعادة «داعش» و«النصرة» الى جحريهما، والتأكد من أنّ حليفها قوي بخريطته التي يتمدّد بها فوق كلّ خطوط الغاز وحقول النفط، ومبدأ السياسة الروسية الحالي هو أنّ الحليف القوي أفضل من الحليف الضعيف، وهذا ما ستطبقه روسيا شاء الحذاء أم أبى.
ولا أريد أن أدخل في مماحكة وجدال مع حذاء نتنياهو وأن أضع نبوءات تبارز النبوءات، ولكن نوعية السلاح الظاهرة علناً ليست دفاعية بل هجومية، كما أنّ حجمه وتنوّعه كلها أشياء تطرح أسئلة على كلّ مراقب من مثل: هل كلّ هذا السلاح الهجومي للاستعراض والدفاع؟ وهل تغامر الدول بتعريض جنودها للمخاطر من أجل الإثارة والتصوير والتشويق السينمائي فقط؟ خاصة أنّ مثل هذا الوجود العسكري المخصّص للمرابطة والحراسة فقط سيعني أنّ الجنود الروس أهداف للمسلحين لأنهم يمنعون سقوط النظام بعد أن صار سقوطه عضة كوساية كما يقول حذاء نتنياهو، أيّ الروس يقدّمون أبناءهم أهدافاً للمسلحين كما فعلوا في أفغانستان، هل يعقل أنه بعد درس أفغانستان أن يأتي السلاح الروسي ليتفرّج ويكون مثل قوات الفصل الدولية بين طرفين متحاربين أحدهما يعتبره عدواً والثاني صديقاً؟ أم أنه حسم أمره ووصل في مهمة خاصة ذات طابع هجومي؟
لا أخفيكم أنه كلما أطلّ عزمي بشارة ليتصدّى لمعضلة ثورية أتذكر نكتة تداولها العراقيون أثناء الحرب العراقية الإيرانية عن جندي عراقي اسمه حميدان قال له الضابط العراقي: يا حميدان، إذا فاجأك العدو بدبابة ماذا تفعل؟ فانبرى حميدان يجيب بحماس ويقول: سيدي أقفز وأنبطح ثم أدور ثم أزحف وأمتشق الآر بي جي وأسدّد بدقة وأطلق، فيربت الضابط على كتفيه ويقول: ممتاز يا حميدان، ولكن ماذا انْ كانوا دبابتين يا حميدان؟ فقال حميدان: بعد أن اضرب الطلقة الأولى أقفز وأنبطح وأدور وأزحف وأمسك آربي جي ثانياً وأسدّد وأطلق، فأثنى الضابط عليه لكنه أضاف: وانْ كانوا ثلاث دبابات يا حميدان؟؟ فقال حميدان: بعد القذيفة الثانية أقفز وأنبطح وأدور وأزحف وأمسك الآر بي جي الثالث وأسدّد وأضرب، ومن جديد حظي بثناء الضابط الذي أضاف قائلاً وهو يمتحن حميدان: وانْ كانوا أربع دبابات ماذا تفعل يا حميدان؟
وهنا نظر حميدان بعينيه من تحت الخوذة الكبيرة ورمق الضابط قليلاً وقال له ببرود محتجاً: «طز» على هذا الجيش الذي ليس فيه الا حميدان.
مفكر «الربيع العربي» تحوّل الى حميدان حقيقي مثير للسخرية، ففي كلّ معضلة يستدعيه الضباط «الاسرائيليون» ويدفعون به الى الشاشة ليدمّر الأعداء، منذ خمس سنوات وحميدان ذو الشنبات يقفز وينبطح ويدور حول نفسه ويزحف ثم يطلق علينا قذائفه، يعني فعلاً ما هذا الجيش الذي لم يعد فيه إلا المفكر العربي حميدان الذي يتصدّى لكلّ المعضلات؟ وما هذا الإعلام الثوري الذي لم يعد فيه إلا حذاء نتنياهو يختفي ليعود من حيث لا ندري، لقد انتهت أسطورة حذاء الطنبوري، وحلت محلها أسطورة لا تضاهى وصرنا نملك في تراثنا حكاية لأطفالنا عن حذاء نتنياهو، انه عزمي بشارة…