حقبة المحددات الروسية ..!!
علي قاسم
رئيس تحرير «الثورة» ـ سورية
لم يكن الانتظار العالمي والغربي تحديداً لخطاب الرئيس بوتين وليد فراغ، أو نتاج مبالغة في التوقعات والتخمينات، بقدر ما كان يعكس يقيناً دولياً متزايداً بمفصلية اللحظة الراهنة والدور الروسي في رسم ملامح الحقبة المقبلة بمحددات لم تكن بعيدة عن التحليل والاستنتاج، لكنها ربما تجاوزت الكثير من الجدل الذي كان يراهن عليه الغرب لتغيير مواضع الاشتباك، أو لفتح جبهات كان يعوّل عليها للبقاء في دائرة الهيمنة على القرار العالمي.
وفيما اللغو الغربي يزداد، وترتفع وتيرة الثرثرة، في قصف مسبق ولاحق يحاول التشويش وإثارة الغبار على معركة افتراضية مقبلة، كانت الاستعدادات الغربية في الاستدارة والانعطاف، قد هيأت نفسها للمواءمة مع المناخ الجديد، وهي التي لم تستبعد من أجنداتها الرغبة في التمهيد لمرحلة ما بعد خطاب الرئيس بوتين في الأمم المتحدة، والمقاربة التي بدت منتظرة في مختلف دوائر القرار الأوروبي، كما هي على طاولة الأجندات المختلفة للقرار العالمي.
وهذا لا يعني أن سطوة اللغو ستنحو باتجاه آخر، ولا أن وتيرة الثرثرة ستهبط، بدليل أن ما سبقها من تحضيرات في الإعلام الغربي يكاد يكرر نفسه بعدها بلحظات، حيث بدا التركيز على المداولات المختلفة والقراءات المتباينة جزءاً من الحملة السياسية والإعلامية المنسقة في شكل استباقي، بينما الإضافات الجزئية على مضمون الخطاب، كانت نتاج مشهد ضبابي، لم يتمكن من التقاط طرف الخيط للنفاذ إلى ما احتوته من رسائل واضحة لا تحتمل التأويل، ولا تقبل التفسير المزدوج.
روسيا القادمة من منبر الأمم المتحدة ومن قاعة شرعيتها المعترف بها عالمياً، تصوغ رسالتها السياسية على وقع المبادئ الأممية، وهي تخط مساراً مختلفاً في العلاقات الدولية، وتعيد النقاط إلى موضعها على الحروف التي بعثرتها لحقبة طويلة من الزمن الهيمنة الغربية ومنتجاتها، وترسم على الأقل محددات واضحة لسياق التعاطي المطلوب مع خطر الإرهاب الذي بات تحدياً عالمياً، ومن دون منازع كجزء من تلك النتائج التي أفرزتها السياسة الغربية بانفرادها وبمقارباتها الخاطئة.
والمعضلة في الموقف الغربي لا تنحصر في سوء النية المسبق، ولا في محاولات التشويش المتعددة، بقدر ما تتجذر في تعمد حالة الارتباك، بحيث يكون اللغو السياسي جزءاً أساسياً، بل محورياً من مشهد الارتباك، كما تكون الثرثرة قناة إضافية للتشويش من أجل الإبقاء على سياسة النفاق كخيار بديل يحول دون الانزلاق القسري إلى الممر الروسي في محاكاة مشكلات المنطقة، والتي قد تصلح لتكون مقياساً لمحاكاة المشكلات العالمية كلها من المنطوق الروسي، خصوصاً أن الدخول الروسي على الخط لم يعد فقط في إطار العلاقة مع الغرب وتجاذباتها، بل بات جزءاً من منظومة عالمية تتسع ومرشحة لانضمام حلفاء جدد ممن كانوا محسوبين على المنظومة الغربية.
على أساس هذه المقاربة لا يكتفي الروسي هنا بسحب البساط من تحت أقدام الخطاب الغربي وهيمنته البغيضة، بل يفرد بساطه إلى مداه الأقصى، ومن على المنبر الأممي ليكون مدخلاً للآخرين، بما فيه الغرب مقروناً بمظلة سياسية لا تقل اتساعاً ولا مقدرة، ولديها من فائض أوراق القوة الممسوكة بفهم دقيق لتداخلات المشهد الدولي، وما يستوجبه من حرص على إنقاذ العالم من الازدواجية ومن المعايير المختلة، ومن دون أن يغيب عن الذهن ترك الباب موارباً لعودة أو استدارة وأحياناً توفير سلالم النزول لرجوع من بالغ في صعوده بما يفوق قدرته وطاقته.
البوابة الروسية تلك… شاهد إضافي على مسؤولية تحملتها روسيا ودور التزمت من خلاله بمبادئ القانون الدولي وشرعة الأمم المتحدة، وهي لا تحمل تحدياً بقدر ما تريد أن يكون هناك تفاهم وتنسيق ضد خطر بات يهدد الجميع، وأن محددات المواجهة مع الإرهاب هي على الأرض وليست في الجو، وتبنيها تراكمات السنوات الماضية، وتحملها مفرزات الأداء الغربي وضحالة ما أنتجه تحالفه… وتواضع ما قدمه… وعيوبه التي لم يعد غربال الغرب قادراً على حجب شمسها.
سيطول الحديث عن الخطاب الروسي، وعن المفردات التي استلتها السياسة الروسية من طاولة الغرب ذاته، وهي تحاكيه بمنطقه وأحياناً بمصطلحاته، وفي كل الأحوال بما يفترض أنه مفهوم لديه، حيث الألغاز تغيب والطلاسم تزول، وتبقى لغة الواقع بكل ما تفرضه من صيغ ومحددات، كان الروسي يجيدها، ويبدو أكثر مقدرة على إتقان تفاصيل استخدامها، وتوقيت إعلانها وتحديداً من المنبر الأممي.
تنشر بالتزامن مع الزميلة «الثورة» ـ سورية