الموسيقى الفارسية… روح الشرق الساحرة!

عبد الرحمن ناصر

هل فكّرتَ يوماً أن تطّلِع على الثقافة الإيرانية بعيداً عن السياسة؟ الأدب والموسيقى والشعر وباقي الفروع الأخرى في حضارة إيران التي تمتدّ لقرون طويلة من قبل ميلاد المسيح. هل تعّرفت إلى الموسيقى الفارسية أو سمعتها؟ كيف تأثرت بموسيقى حضارات غيرها وكيف أثّرت في الموسيقى العربية، واشتهر في بلاد العرب موسيقيون فرس وعلماء موسيقى كالفارابي وابن سينا؟

في هذا التقرير، نأخذك في جولة مع الموسيقى الفارسية التي تنطوي على روح الشرق الساحرة الباهرة.

يعود تاريخ الموسيقى الفارسية إلى آلاف السنين منذ عهد حضارة عيلام، مروراً بباقي الحضارات التي مرّت من أرض فارس، صارت الموسيقى ظاهرة جداً وازدهرت في عصور الساسانيين لأنها كانت في الطقوس الدينية للعبادة الزرادشتية. مما يشاع كذلك، أنّ الإسكندر الأكبر بعدما غزا بلاد المشرق افتُتن بموسيقى الشرق جداً. بعض الكتّاب يقولون إنّ هذا الموقف يعكس ما كانت تعاني منه الموسيقى الإغريقية مقابل ما كانت تتميز به موسيقى الشرق الساحرة.

وفقاً للباحث والناقد الموسيقي الإيراني فتح الله ناصح بور، فإنّ السجلّات التاريخية القديمة تؤكّد وجود الموسيقى في فارس القديمة. أقدم هذه السجلّات يعود إلى الألفية الخامسة قبل الميلاد. وفقاً لتلك السجلّات، كانت الآلات الموسيقية الموجودة في إيران من الأقدم في العالم، وهذه الآلات هي: آلة الهارب والطبل. في فارس القديمة كانت آلة موسيقية تسمى «قوبوز» آلة العشق ، وهي آلة تعود جذورها إلى 6000 سنة تقريباً.

العراقة والتأثير الخارجي

حتّمت المنطقة الجغرافية للامبراطوريات التي حكمت بلاد فارس عليها أن تزداد اتّساعاً أو انحصاراً وفقاً للعوامل التي تحيط بها أو الزمن الذي تعيشه. فحتى هذه اللحظة ثمة علاقات ثقافية وحضارية قوية بين إيران والدول المجاورة لها، بالتأكيد هذه الصلات الثقافية بالمقام الأول تؤثر في الموسيقى الإيرانية كما تتأثر بها الموسيقى الإيرانية كذلك. كما أنّ موقع إيران الجغرافي يجعلها ملتقى المشرق والمغرب معاً. فمن ناحية تأثرت الموسيقى الإيرانية بدايات القرن الماضي عندما كانت تربطها علاقات قوية بروسيا بالموسيقى العسكرية الروسية، بينما تأثرت أكثر بالغرب إبان حكم الشاه.

الموسيقى الإيرانية التقليدية تتداخل فيها روافد كثيرة لثقافات وحضارات أخرى. وتعتبر الموسيقى الهندية صاحبة التأثير الأكبر على الموسيقى الفارسية. فقد طلب بهرام ملك الساسانيين من ملك الهند والد زوجته أن يرسل معه 1200 موسيقي هندي ليمتّعوا الإيرانيين بموسيقاهم. كما أشار أبو ريحان البيروني إلى هذا التأثر. أبرز هذه التأثيرات أنّ بعض الآلات الموسيقية الهندية شائعة في الموسيقى الإيرانية كآلتَي «القان» و«الداراي». من الناحية الأخرى، تتأثر الموسيقى الهندية كذلك بالموسيقى الإيرانية، فالتأثّر بينهما كان متبادلاً. السلطان الهندي «أكبر شاه» كان في بلاطه موسيقيون إيرانيون من بينهم الموسيقي والشاعر أمير خسرو دهلوي.

كذلك، يمكننا الحديث عن التأثر الصيني بالموسيقى الإيرانية. فقد نُقلت آلات إيرانية عدّة إلى الصين ومنها آلتَا «السورنا» و«البارات» العود الإيراني .

الآلات الخاصة بالموسيقى الفارسية

للموسيقى الفارسية التقليدية بعض الآلات الخاصة بها. فالعود الإيراني مثلاً يختلف عن العود العربي، ونورد بعض الآلات التي اختُرعت في فارس وصارت جزءاً من المخيال الموسيقي لدى الإيرانيين:

«قوبوز» آلة العشق : يقال إنّها تعتبر الآلة الأمّ لجميع الآلات الموسيقية التي يُعزَف عليها في الشرق الأوسط. وقد عُرفت منذ 500 سنة وحتّى الآن بِاسم «آلة العشق»، وهي آلة قديمة جداً، ووفقاً لبعض وثائق علم الآثار، تعود جذورها إلى 6000 سنة تقريباً. أي أنها كانت مشهورة بين قبائل السومريين.

«الچنك»: من الآلات الوترية الموسيقية الفارسية القديمة تشبه جداً القيثارة. وقد كانت منتشرة على نطاق شعبي كبير خلال عهد الحكم الساساني. تظهر الآلة في اللوحات الجدارية الفارسية القديمة، وقد تغيّر شكلها بتطوّر صناعتها منذ ما يقارب أربعة آلاف سنة قبل الميلاد. يُعزَف على هذه الآلة في الغالب من قبل النساء، وتشهد الآن محاولات إحيائها من جديد مع الموسيقى الجديدة.

«سه تار»: وهي من الآلات الوترية التي تنتمي إلى عائلة العود. وتتكون الكلمة من مقطعين «سه» يعني ثلاثة، و«تار» تعني وتر، وهي آلة بثلاثة أوتار. أُضيفَ إليها وترٌ رابع في ما بعد. نشأت في بلاد فارس قبل انتشار الإسلام وتستخدم على نطاقٍ واسع في جميع أنحاء إيران وآسيا الوسطى.

الموسيقيون الفرس في التاريخ الإسلامي

يُعرَف عدد من الموسيقيين الإيرانيين وعلماء الموسيقى كذلك في التاريخ الإسلامي، ولربما لم يخرج موسيقيون كبار من العرب مثلما خرج من الفرس. ربما بسابق تأثير الثقافة الفارسية الممتدة لسنين طويلة قبل الميلاد والتي كانت الموسيقى من الروافد الأساسية لهذه الثقافة، خصوصاً أنها كانت تستخدم في الطقوس الدينية للديانة الزرادشتية. مع فتح بلاد فارس كاملةً ومع صعود الخلافة الأموية، تشابكت الثقافات واختلطت فتأثرت ببعضها. بدأت الموسيقى الفارسية في العصر الأموي تأخذ وضعها مع انتشار المغنّين والموسيقيين في قصور الخلفاء ومجالس الوزراء والمترفين.

يذكر المؤرّخون أنّ أحد ذوي الأصول الفارسية وهو «سائب خاثر» كان مولى لعبد الله بن جعفر، كان عبد الله قد سمع أحد المغنّين الفرس اسمه نشيط الفارسي يغني فأعجب به، فقال له سائب: أنا أصنع لك مثل غناء هذا الفارسيّ بالعربية. وهو أوّل من صنع العود في المدينة وغنّى مستعيناً به، وفقاً لأبي الفرج الأصفهاني في كتابه الأشهر «الأغاني».

إذن، فقد كان الغناء العربي الأول متقن الصنعة متأثراً بالموسيقى الفارسية. وقد تأثرت الموسيقى العربية بالموسيقى الفارسية كثيراً، وربما كان تأثير الموسيقى الفارسية الأقوى والأبرز في الموسيقى العربية، خصوصاً أنّ صعود الموسيقى الفارسية ازداد ارتفاعاً مع وصول العباسيين إلى السلطة، الذين اعتمدوا على الفرس في إقامة دولتهم وإدارتها.

ربما يضيق مجال التقرير عن ذكر بعض الموسيقيين الفرس الذين آثروا الحياة الموسيقية العربية والشرقية عموماً إبان الامبراطوريات الإسلامية المتعاقبة. لكننا نذكر هنا أن الفارابي الفيلسوف ذا الأصل الفارسي، له مؤلفات هامة جداً في الموسيقى. من كتبه المهمّة جدّاً: «الموسيقى الكبير»، و«المدخل إلى صناعة الموسيقى». وفقاً لمؤرخين عديدين، فإنّ الفارابي هو من طوّر آلة القانون الموسيقية، كما قدّم وصفاً في كتبه عن آلة الرباب الموسيقية ذات الوتر الواحد، والوترين المتساويين في الغلظة. كما يُعتبَر أوّل من عرّف صناعة الموسيقى ومصطلح الموسيقى. بعض الأسماء والأصوات الموسيقية كان الفارابي هو من وضع اسمها، وما زالت تستعمل حتى اليوم.

ليس الفارابي طبعاً أوّل العلماء والفلاسفة المسلمين الذين اهتموا بالموسيقى وآثروها كما آثروا غيرها من العلوم. هناك الشيخ الرئيس ابن سينا كذلك، كما أنّ هناك بعض الموسيقيين العرب الذين استفادوا من الموسيقى الفارسية وتعلّموها وبدأوا الغناء العربي بموسيقى فارسية، كسعيد بن مسجح على سبيل المثال. وهناك فُرسٌ وفدوا إلى بلاد العرب وانتشروا في بلاطات الأمراء والخلفاء ونشروا معهم موسيقاهم مثل ابن محرز تلميذ ابن مسجح.

«عرقيات» موسيقية!

تتهادى الموسيقى الفارسية بين ثقافات كثيرة تجمعها حضارة واحدة. فهناك موسيقى الأكراد وموسيقى البلوش والخراسان والتركمان وغيرهم، لكلّ عرق موسيقاه التي يعتزّ بها ويعزفها بآلاته الخاصة به. يمكنك أن تستمع لفرقة «رستاك» التي تحاول أن تغنّي وتعزف موسيقى مختلفة للعرقيات التي تنضوي تحت الحضارة والثقافة الفارسيتين.

«ساسة بوست»

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى