الحَقُّ المُقدّس
عدنان كنفاني
ما الذي زجّ بالفلسطينيين في أتون ما سُمي ثورة في سورية كان هدفها الإطاحة بـ«النظام» بادعاء طلب حريّة وعدالة وإجراء إصلاحات؟
وعلى افتراض أنّ هذه الشعارات المرفوعة كانت هي المطلب، لماذا إذاً جرى احتلال مخيمات الفلسطينيين في سورية، وعمل المسلحون بكلّ الوسائل الممكنة على تهجير سكان هذه المخيمات وتفريغها، ومن ثم دفعهم إلى الهجرة إلى شتات الأرض، رغم أنّ الفلسطينيين أعلنوا من البداية أن لا دخل ولا تدخّل لهم في مسألة تعني الداخل السوري؟
بعد أكثر من خمس سنوات على بدء موجة «الربيع العربي» في المنطقة، وبعد أكثر من أربع سنوات ونصف على ما يجري في سورية من حرب، بكلّ ما لكلمة حرب من معنى، قلنا ونقول إنّ كل ما جرى يصبُّ حتماً في مصلحة «إسرائيل» بامتياز. حتى لو اتّهمني البعض بعقدة المؤامرة، فإنني أردّد وبكلّ يقين إنها مؤامرة بالفعل، جرى التخطيط لها في ظلام ليل ومنذ زمن بعيد جداً لتساهم، بل كان الرجاء منها أن تساهم في إنهاء موضوعة الصراع الفلسطيني ـ «الإسرائيلي» لصالح الكيان المحتل، بعد أن يتخلّص من مشكلة كبيرة ما زالت تقف دون تحقيق مشروع الحلم الصهيوني تتمثّل في «حق العودة»، وتعمل بالتالي على حسم كلّ المشاكل الأخرى التي تقضّ مضجع الكيان ليصل إلى دولة عنصرية يهودية على أرض فلسطين، وعلى كامل حدودها الجغرافية، وتفتح أمامها السبل، بعد تفتيت دول المنطقة وإنهاكها، لتصبح الدولة القائدة في المنطقة من دون منازع.
إنّ أهم عقدة تقف في وجه تحقيق المشروع الصهيوني، إلى جانب عقد كثيرة بطبيعة الحال، هي عقدة وجود الشعب الفلسطيني نفسه وهو يتمسك بحقّ العودة إلى أرضه وتاريخه وتراثه، إلى فلسطين كلّ فلسطين من البحر إلى النهر، ومن الناقورة إلى رفح، وهو حقّ تشرّعه كلّ المواثيق الدولية، ويتمسك أيضاً بحقه المشروع في الدفاع عن نفسه ووطنه بكلّ السبل التي يؤيدها بل ويشجع عليها القانون الدولي بعدم جواز احتلال أراضي الغير، ونفي الشعب إلى شتات الأرض كما فعل الصهاينة، وكما أصبح يعرف الجميع، فإنّ حق العودة حقّ مقدس لا يفقد مشروعيته مهما طال الزمن، ولا يسقط بالتقادم، وما دام هناك شعب فلسطيني فحقّ العودة هو الهاجس الذي يؤرّق أمن وأمان «إسرائيل» ويقف في وجه تحقيق مشروعها الاحتلالي.
المطلوب صهيونياً إذاً، التخلّص من المتمسكين بحقّ العودة، والأمنية التي يتمناها الكيان هو التخلص من الشعب الفلسطيني برمّته، وقد صرَّح المسؤولون في الكيان، تباعاً، عن أمنيتهم تلك، فمن قال أتمنى لو أصحو ذات صباح لأجد أنّ البحر ابتلع غزّة! وتحدثوا كثيراً في أدبياتهم، وحتى في كتبهم الدينية المزيفة عن هذا التمني، وهل يمكن أن ننسى ادعاءهم المزيّف بأنّ «فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»؟
ولكن هيهات أن يتحقق ما دام هناك طفل فلسطيني، وما دامت أرحام الماجدات الفلسطينيات تحمل وتلد.
لا شكّ في أنّ الحضور الدائم، والشعار المرفوع بالخط العريض «حق العودة»، ومن يرفعه ويؤمن به ويسعى إليه، هو المشكلة التي كانت دائماً تقف في وجه تنفيذ «يهودية الدولة»، وكيفية التخلص من شعب، وهناك فلسطينيون في شتات الأرض، وفي الجوار، وفي قلب الكيان نفسه، وأخطر هؤلاء في تجمّعهم، وأكثر التجمّعات للفلسطينيين في دول الجوار، مخيمات في الأردن سورية ولبنان ، وفي الداخل الفلسطيني، ثم في الضفة وغزة.
علينا أن نعترف بأنّ العقول التي تخطط وتتآمر وترسم هي خليط عقول شيطانية درست المنطقة بشكل جيد، وقدّرت أين مكمن الخطر الحقيقي الذي يرفع شعار العودة ويدافع عنه ويسعى إليه مدعوماً بحماية دولة تؤمن بما يؤمن كمطلب لا بديل عنه، ويقع حصراً في المخيمات القائمة على أرض سورية.
مخيم اليرموك، وهو الأكبر، والذي أصبح يعتبر القائد لمسيرة النضال الفلسطيني في الشتات والمكان الموقت للفلسطينيين ومنه الطريق إلى فلسطين وهو الهاجس الأخطر والأهم الذي لم يفارق العقل الصهيوني بعد أن استبعد الكثير من أماكن تجمّع الفلسطينيين.
وإضافة إلى موقع ومكان مخيم اليرموك تحديداً، والتجمّع الفلسطيني، تواجد أكثرية التنظيمات الفدائية الفلسطينية التي ترفع شعار المقاومة والكفاح المسلح لاسترداد الحقوق المسلوبة، وفي مقدمها العودة.
وفي مرور سريع على واقع الفلسطينيين في أماكن توزّعهم، نجد أنّ في الأردن تجمعاً فلسطينياً كبيراً، وقد يكون الأكبر، والمفارقة أنّ كثيراً من الفلسطينيين في الأردن حصلوا، وبتسهيلات من الحكومة الأردنية، على جوازات سفر أردنية، ما يعتبر، دولياً، جنسية أردنية وإن كانت أصولهم فلسطينية، فهم في منظور القانون الدولي أردنيون، أما في لبنان فهم يعانون من حصار طويل جعلهم دائماً في دائرة الاستهداف بحيث لا يستطيعون مجاراة قضاياهم إلا بما تسمح به السلطات في لبنان، ونحن جميعاً نعلم أنّ لبنان لا يملك قراره المستقل، إضافة إلى حال المخيمات المزري فيه، والتضييق على سكانها بكل الوسائل، ما يجعل حياتهم جحيماً.
أما في الداخل الفلسطيني، فإنّ العرب الذين لم يغادروا فلسطين إثر نكبة 1948، تحت الاحتلال المباشر الذي يقيّد حركتهم ويضعهم دائماً في دوائر خوف من مجهول قادم يستهدف حتى تواجدهم القليل على أرض فلسطين بمساعٍ صهيونية حثيثة لما بات يعرف بـ«ترانسفير»، كما يحاول، بكلّ وسيلة، تهميش هويتهم الفلسطينية.
في غزّة والضفة الانقسام يفتك بلحمة الشعب الفلسطيني، وهو خلاف أيديولوجي قبل أن يكون خلافاً على مصير وقضية، ونجد ما يشبه حكومتين، كلّ حكومة تعمل وفق برنامجها الخاص، فالسلطة الفلسطينية لا تملك قرارها، ولا حتى إمكانية التحرك، وهي مقيّدة باتفاقيات مهينة، وهي إذا صحّ القول، في حالة استسلام كامل للمحتل في كلّ مفصل من مفاصل الحياة، ما يفقدها القدرة على اتخاذ قرار مواجهة على أي مستوى، لا بدّ أن يقف ويتراجع، ثم يموت قبل أن يولد في شباك «التنسيق الأمني»، والتواجد العسكري الصهيوني في كلّ الضفة، ما يجعلها بعيدة كلّ البعد عن تفعيل مفهوم العودة بالشكل الذي يريده الشعب الفلسطيني بغالبيته، بغضّ النظر عن هذه وتلك.
أما في غزّة، فإنّ حكومة حماس مشغولة بحماية محيطها من الغزو الصهيوني اليومي، وهي تعاني من حصار خانق من العدو، ومن المفترض أن يكون أخاً وصديقاً وسنداً، ومشغولة أكثر في تعميم ثقافة تنظيم الإخوان المسلمين، ما يدفعها إلى التدخل في شؤون دول عربية ما أسقط الكثير من شعبيتها كفصيل مقاوم، ولا يبدو أنها، في المرحلة الحالية على الأقلّ، قادرة على التأثير من زاوية المطالبة بحقّ العودة.
يبقى العمود الفقري في تكريس الفعل المقاوم من أجل العودة في سورية، وفي مخيمات الفلسطينيين في سورية ومخيم اليرموك في الطليعة، ويعتبر المركز الأهم لتجمُّع الفلسطينيين وقواهم الثورية من تنظيمات، والسند الأساس التي تقدمه سورية هو الأمر الأكثر خطورة على الكيان.
بعد هذا العرض، أعتقد أنّ الحراك العام في المنطقة، الذي قام على إيقاع «الربيع العربي»، أو بالأصحّ «الفوضى الخلاقة» و«الشرق الأوسط الجديد»، يعني تقسيم المقسم، وتفتيت المفتت وصولاً إلى كسر صمود سورية كدولة مقاومة، وحلقة أساسية في محور مقاومة واسع، واقتحام المخيمات وتهجير أهلها والقضاء على قيادات التنظيمات، وصولاً إلى إلغاء المطالبة بحق العودة.
دفع الراحل ياسر عرفات حياته ثمناً لرفضه المساس بقضيتين أساسيتين في مسار الصراع بين المشروع الوطني والمشروع الصهيوني المضاد، لم يتنازل عن حقّ العودة، ولا عن مدينة القدس عاصمة لفلسطين، ولن يستطيع أحد مهما كان أن يفرض على الشعب الفلسطيني التنازل عن حقه في وطنه فلسطين، كلّ فلسطين.