أسباب الأزمة في لبنان وسبل الخروج منها
ابراهيم ياسين
تعبّر الأزمة التي يشهدها لبنان هذه الأيام عن مدى تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية من ناحية، وعن حدّة الأزمة السياسية من ناحية ثانية.
و شك أنّ هذه الأزمة هي نتاج للسياسات النيوليبرالية التي حكمت البلاد، و تزال، منذ عام 1992 مع مجيء الرئيس رفيق الحريري إلى سدّة السلطة، حيث جرى تطبيق مشروع الخصخصة للقطاعات التي تدرُّ أموا ً وأرباحاً طائلة، وتبيّن أنّ المشاريع التي تدرّ مثل هذه ا رباح محصورة في القطاعات الخدماتية، نّ الدولة في لبنان تملك مشاريع إنتاجية مثل المعامل أو النقل العام وسكك الحديد أو غيرها من القطاعات السياحية التي عادة ما يكون جزء كبير منها في الكثير من دول العالم تابعاً للدولة، حتى في الدول الرأسمالية التي تعتمد السياسات بنسختها النيوليبرالية، لذلك اتجه مشروع الحريري المعبِّر عن الرأسمالية الريعية نحو العمل على السيطرة على هذه القطاعات الخدماتية عبر تلزيمها لشركات خاصة، بالتراضي، وليس عبر دفتر شروط ومناقصات شفافة، والهدف من ذلك، طبعاً، أن ترسو هذه العطاءات لصالح شركات تابعة له أو على علاقة به.
كانت البداية إنشاء شركة «سوليدير»، وقد جرى سنّ قانون يؤمّن لها الاستيلاء على وسط بيروت التجاري وتحويل ا ملاك الخاصة للمواطنين إلى أسهم في هذه الشركة التي عملت على «إعمار» الوسط، وفق مصالح «سوليدير»، وعلى حساب أصحاب الحقوق من المواطنين، وقد جرى تجميد كلّ الدعاوى التي رفعها المواطنون الذين نُهبت أملاكهم وحقوقهم في الوسط التجاري أمام القضاء بقرار سياسي.
وفي الوقت ذاته، جرى إنشاء شركات اتصال خليوية وتمّ تلزيمها لشركات خاصة بشروط مجحفة بالنسبة إلى المواطنين وخزينة الدولة، ولم تتمّ استعادة هذا القطاع بعد انتهاء مدة العقد مع شركات الخليوي إ بعد معركة شرسة شهدها مجلس الوزراء بين الرئيس إميل لحود الذي كان مدافعاً شرساً عن المال العام وحقوق الدولة، وبين الحريري الذي كان يدافع عن الشركات الخاصة ومصالحها. كما جرى وضع اليد على العديد من الأملاك البحرية والنهرية، سواء في بيروت أو في المناطق اللبنانية من قبل بعض المتموّلين اللبنانيين وأصحاب السلطة السياسية والمستفيدين منهم. وجرى أيضاً تلزيم جمع النفايات إلى شركة «سوكلين» المقرّبة من الحريري على حساب دور البلديات التي كانت تقوم بهذه الوظيفة حيث جرى الاستيلاء على أموال البلديات لدفع المستحقات المتوجبة على الدولة لشركة «سوكلين» حسب الاتفاقية التي أبرمت بين الطرفين، وكانت كلفة الطن الواحد تبلغ أكثر من 150 دولاراً، وهو مبلغ مرتفع جداً قياساً لكلفة الطن الواحد في دول العالم، وهو ما ظهر جلياً عندما تمّ إجراء المناقصات لحلّ أزمة النفايات الحالية، وتبيّن حجم الهدر والسرقة في هذا القطاع لصالح شركة «سوكلين».
كما جرى، عمداً، إهمال قطاع الكهرباء وتخريب أي مشروع جدي للنهوض به، بهدف جعله عبئاً على الدولة والمواطنين معاً، ما أدّى إلى مراكمة الديون على مؤسسة الكهرباء، واستطراداً على خزينة الدولة وزيادة العجز في الموازنة وزيادة الأعباء على المواطن الذي أصبح يدفع فاتورتين شهرياً، واحدة للمولدات وأخرى للدولة.
وفي هذا السياق، جرى تعطيل كلّ محاولات إصلاح الكهرباء وإنهاء هذه ا زمة المستفحلة، فتمّ رفض العرض الإيراني المجّاني، فيما تجري حالياً إعاقة مشروع إصلاح وصيانة المعامل الكهربائية الذي بوشر به في عهد الوزير جبران باسيل، وكلّ ذلك يندرج في سياق سياسة الكيد المقصودة للوصول إلى تخصيص هذا القطاع، عبر بيعه لشركة خاصة مقابل الديون المترتبة على شركة الكهرباء.
إلى جانب مشروع الخصخصة، جرى تعميم الفساد وثقافته في مؤسسات الدولة، على نحو غير مسبوق في تاريخ لبنان الحديث، وخصوصاً عبر العقود بالتراضي وإنشاء الإدارات الموازية والمجالس المالية الطائفية، حتى بات الفساد هو السمة التي تطبع ممارسات هذه الطبقة السياسية.
بلغ الفساد ذروته في مرحلة رئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة الذي أنفق أكثر من 11 مليار دو ر من دون أي مستند قانوني، وهو يرفض إجراء أي قطع حساب لمعرفة كيفية صرف هذه الأموال، ما يكشف الوجه غير القانوني وغير الشرعي في عملية إنفاق هذه الأموال وهو أمر يُعتبر جرماً يُحاسب عليه القانون. ومع ذلك، فإنّ السنيورة وكتلة المستقبل التي يترأسها في المجلس النيابي يمعنان في رفض أي مساءلة أو محاسبة في هذا الأمر، و يخفي السنيورة سعيه إلى الربط بين تسهيل التشريع في مجلس النواب مقابل الحصول على براءة ذمة تعفيه من المساءلة في هذا الموضوع في المستقبل، وظهر ذلك بوضوح أيضاً في موضوع سلسلة الرتب والرواتب في مجلس النواب حيث لم يجر إقرار السلسلة حتى اليوم.
هذه الأزمات المتفاقمة ترافقت مع تنامي الدين العام الذي تجاوز عتبة السبعين مليار دولار أميركي، وهو رقم كبير جداً قياساً بعدد سكان لبنان وحجم موازنته، وهذا الدين ما كان ليبلغ هذا المستوى لو السياسات النيوليبرالية التي تعمّدت رفع الفوائد على سندات الخزينة وتشريع الفساد وتلزيم المشاريع بطريقة التراضي، ما رتّب على الدولة أكلافاً باهظة كانت سبباً في توليد هذا العجز الكبير الذي تئنُّ منه الموازنة هذه الأيام. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، بل إنّ هذه السياسات كانت أيضاً السبب في تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد وتدنّي القدرة الشرائية للمواطنين وازدياد البطالة، في ظلّ التراجع المتواصل في القطاعات ا نتاجية في البلاد، وخصوصاً الزراعة والصناعة، بفعل الإهمال المقصود لهذه القطاعات وتركيز عمل الحكومة على القطاعات المالية والعقارية.
هذا من الزاوية الاقتصادية والخدماتية والاجتماعية للأزمة، أما من الزاوية السياسية فإنّ سياسة الاستئثار بالسلطة، من قبل الطبقة السياسية الحاكمة التي راحت تتقاسم الحصص والمشاريع، أدت بدورها إلى احتدام الصراع السياسي في البلاد لكون هذه الطبقة السياسية ترفض تطبيق القانون والدستور الذي ينصّ على احترام الشراكة وعدم مخالفة القوانين التي تراعي هذه الشراكة، وذلك بهدف حماية مصالح هذه الطبقة ونفوذها وتجنُّب أي محاسبة قانونية على ما اقترفته من مخالفات قانونية ودستورية، وكان هذا الصراع واضحاً من خلال رفض أي مشاركة فعلية للتيار الوطني الحر واحترام حجم تمثيله النيابي، والسبب طبعاً أنّ التيار الوطني الحر يطرح الإصلاح والتغيير ومحاربة الفساد، وهو ما أدى ويؤدي إلى التصادم مع هذه الطبقة المستأثرة بالسلطة واحتدام الأزمة وتفجُّرها في الشارع حيث لم يُترك أي خيار للتيار البرتقالي سوى النزول إلى الشارع للتعبير عن رفضه لمثل هذه السياسات المستأثرة والتي ترفض أيضاً انتخاب رئيس للجمهورية يتمتع بالوزن التمثيلي الحقيقي، نيابياً وشعبياً، أو احترام رأي التيار الوطني الحر في هذا الموضوع، باعتباره الأكثر تمثيلاً على المستوى المسيحي. وما زاد الطين بلة، إقدام الطبقة السياسية على تأجيل الانتخابات النيابية، والتمديد للمجلس النيابي مرتين بذريعة الظروف الأمنية، في حين أنّ دو ً مجاورة تشهد حروباً، كسورية والعراق، جرت فيها انتخابات نيابية ورئاسية أيضاً.
طبعاً، إنّ السبب الحقيقي لعدم إجراء الانتخابات يكمن في أنّ الطبقة السياسية لديها إحساس كبير بأنّ هذه الانتخابات إذا ما أُجريت الآن، حسب قانون جديد للانتخابات على قاعدة النسبية، وهو ما ترفضه، سيؤدي إلى خسارتها للأغلبية النيابية التي تمكّنها من الاستئثار بالسلطة والاتيان برئيس للجمهورية ينسجم مع مصالحها.
كان مقدراً لهذه الأزمة المتفاقمة، على كلّ المستويات، أن تؤدي إلى انفجار الوضع في الشارع، فعندما تتعطل المؤسسات و تكون هناك أي مساءلة أو محاسبة و يجري تطبيق القوانين و الدستور وتتفاقم الأزمات الخدماتية للمواطنين، على نحو غير مسبوق كما حصل ويحصل في موضوع النفايات والكهرباء والمياه وكلّ ما يتعلق بالشؤون الحياتية، فمن الطبيعي عندها أن يلجأ الناس إلى التعبير عن سخطهم واحتجاجهم ورفضهم للواقع المتردّي والنزول إلى الشارع لتغيير هذا الواقع ووضع حد للاستهتار بمصالح المواطنين وحياتهم.
من هنا يبدو جلياً أنّ هذه الأزمة التي تفجرت أخيراً في الشارع وكان مدخلها أزمة النفايات، لا يمكن الخروج منها من دون إجراء إصلاحات جدية في نظام الحكم، والمدخل الأساسي ي إصلاح سياسي يكمن في قانون الانتخاب الذي تجري على أساسه الانتخابات النيابية وإعادة تشكيل السلطة، والقانون الذي يحقق صحة وعدالة التمثيل ويضع حدّاً لاحتكار السلطة من قبل الطبقة السياسية التي يهمّها أن تُعيد إنتاج نفوذها وسلطتها عبر قانون انتخاب أكثري مفصَّل على قياس مصالحها الانتخابية. لذلك فإنّ القانون النسبي بات مطلباً لغالبية اللبنانيين الذين يشعرون بالغبن من القانون الأكثري ويتوقون إلى التغيير وإصلاح السياسات المسؤولة عن أزمات الوطن واللبنانيين معاً.
ناشط سياسي