مدينتي هويتي… القامشلي نموذجاً
الإهداء إلى «حبيب رهاوي، ودورسن هسام، وأنيس مديواية، وكبرو كوركيس، وعبد اللطيف عبده، وشيخموس توفيق، وابراهيم مقدسي، وناصر سليمان ودنحو دحو»
نظام مارديني
ثمة ندرة لافتة للنظر في وجود من يعرف أن للمدن أو القرى والأرياف «هويات» خاصة، يُستعان بها للتعرف إلى مدى تجذّر عناصر «الشخصية الاجتماعية» في وعي وسلوك ساكنيها، باعتبار كون هذه الأخيرة تعدّ مدخلاً سليماً لتكوين ما نسمّيه بـ «الهوية القومية». وفي ضوء هذه الرؤية يمكن النظر إلى مدينة القامشلي الغنية بالجماعات الإثنية والمذهبية، على أنها من المدن التي تمثّل هوية الدولة، فهي صورة مصغرة عن سورية، مثلما يمكننا اعتبار كركوك نموذجاً لـ «عراق مصغّر».
إننا أمام مدينة متنوعة، «هويتها» معجونة بالألم، وملاحمها مطرّزة بالمعاناة، وسردياتها مثخنة بالأحزان، ولم تتمكن لغة واحدة من أن تفرض هيمنتها عليها رغم مركزية السلطة، وهو ما نلاحظه في ما يخصّ اللغات السريانية والكردية والأرمنية إضافة إلى العربية، رغم أن الأخيرة هي الفاعلة في المدينة، وعليه نجد أن المنجز الكتابي وهو الممثّل الأعظم والأهم في هوية أي مدينة، كانت حصة الأسد فيه للعربية كما في كل مدن سورية.
إذا كانت هيمنة الإنجاز بلغة ما تدلّ دلالة واضحة وقوية على هوية مدينة أو إقليم أو وطن ما، فإن وجود منجز بأكثر من لغة سبق القرن العشرين كثيراً يدلّ على عراقة لغات أخرى وتنوّع إثني في المدينة والوطن عموماً، ما يجعل دعاة فَرْض «هوية» ما على هذه المدينة أو تلك المدينة، دليلاً على إقصائية مرفوضة، لأن الاعتزاز بالتنوّع لا يعني وعياً بجماليته وثرائه فقط، وإنما هو اعتراف بوجود الآخر وحقه في المدينة، وبالتالي في الوطن.
ثمة عادات وتقاليد تُميّز هذه المدينة عن تلك بسبب حضور ثقافي مختلف لغة أو ديناً أو مذهباً أو إثنيةً، يؤدي إلى تلاقح تنتج منه خصوصية هذه المدينة أو تلك عن غيرها.
وقد تعمل مدن أخرى قصدياً، على صنع وتكريس هوية معينة لها، وإلا ستكون مرتعاً لفيروسات التطرّف الديني أو العرقي، وجراثيم العنف الاجتماعي، وفوضى التخلّف الثقافي، التي جاهدت مدينة القامشلي طويلاً لمغادرة مستنقعاتها والتخلص من إفرازاتها النفسية والقيمية، بعد أن قطعت أشواطاً واسعة في مضامير، كبح جماح دوافعها البدائية، والحدّ من غلواء نوازعها الأولية، وليس من العبث هنا القول أن تكون القامشلي معقل الحداثة المؤنسنة، وحصن العقلانية المتنورة، وقلاع الجماعات المتحضرة، ولهذا أمكن القول إن «هوية» هذه المدينة تصلح لأن تكون مختبراً لمستقبل السوريين، لا سيما أن الهوية هي بناء فكري، وهي المرجعية الحياتية لمتحدٍ ما.
تتمزّق قضية الهوية في القامشلي خصوصاً وسورية عموماً بين فكرة المواطنة والانتماء المكاني وبين المرجعية، وحين تمتزج التوصيفات «الهوياتية» بقضايا ذات علاقة بفكرة التمايز السياسي والثقافي والمناطقي مشحونة بمساعي إثبات التفوّق الديني المذهبي والإثني، فإن تناقضات تعريف «الهوية» تتحوّل حينها إلى قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة، مخلّفة وراءها أزمات وحرائق تبقى مصدراً مهمّاً لتغذية الصراع في المستقبل. وهو ما يحتم على الدولة السورية الاحتكام إلى أعلى أشكال الانضباط في الحملة الحالية الناجحة ضد «داعش»، عبر إبعاد أثر عناصر هذا التمايز لما له من دور في رسم الملامح «الهوياتية» وانعكاساتها المفصلية على هذه الحملة العسكرية التي ستفضي إلى إعادة النظر في عناصر الضعف الجيوبولتيكية التي أسهمت في إنتاج «داعش» وتحوله إلى لاعب مؤثّر بهذه الطريقة في سورية والعراق وبقية المنطقة .
في روايته «الأكاليل الثلاثة» يتناول الروائي الفرنسي فرانسوا غارد قضايا الهوية والانتماء والتعصب، مقارباً روابط الدم والتاريخ والجغرافيا، وتأثيراتها في بلورة صور نمطية أو مفترضة في الأذهان، وتحريكها للناس بهذا الاتجاه أو ذاك، أو دفعهم إلى التناحر والتحارب، انطلاقاً من نقاط يفترضون أنها ثوابت وحقائق، في وقت تكون معرّضة للتشكيك، وقابلة للنقض والتفنيد بناء على معطيات جديدة يتم اكتشافها أو العثور عليها.
وربما ترمز «الأكاليل الثلاثة» هنا إلى الماضي والحاضر والمستقبل في وجه من وجوهها، كما ترمز إلى الهوية والانتماء والدم في وجه آخر، وإلى المال والسلطة والحرية في افتراض ثالث، وإلى الوهم والحلم والكابوس في قراءة أخرى.
ينظر كثيرون من أبناء القامشلي إلى المدينة في ضوء الرغبات المتهيّجة، والمصالح الضيقة، وخرافات «الهويات الفرعية»، ولا يعرفون أن المدن لا تتغير، وإن كانت تنزع إلى التحولات الدائمة.
كانت القامشلي قبل الأحداث العاصفة التي ضربت سورية نموذجاً لعالم منسجم ومتناغم ومتنوع قبل نصف قرن، ولم يكن سؤال الهوية العرقية أو الدينية أو المذهبية مطروحاً وإن على مضض في بعض الحالات. إن تعريف الشخص بعرقه أو دينه أو مذهبه كان يعدّ، إلى ما قبل الأحداث، انتقاصاً وسبّة، ليس في القامشلي إنما في سائر أنحاء سورية، واليوم يتم اللجوء إلى تبنّي الخطأ الذي يتسبّب في تمزيق الهوية «المركبة» لهذه المدينة التي تعتبر بمثابة حاضنة طبيعية لصيرورة عناصر الوعي القومي وبلورة أنماطها وخصائصها من جهة، واعتبارها بيئات طاردة ومعادية لمختلف أنواع العصبيات السوسيولوجية المتخلفة والنزعات السيكولوجية المتطرفة، التي عادة ما يرتفع مستوى نشاطها وتزداد معدلات عدوانيتها، منذ اللحظة التي تشرع فيها المدن، بفقدان هويتها المكانية، وتآكل حصانتها الحضارية، واندثار معالمها العمرانية، وتلاشي أسسها الديموغرافية.
هكذا تبدأ المدن بفقدان عناصر شخصيتها وتلاشي مقومات هويتها واضمحلال مكونات ذاكرتها، بالقدر الذي تشهد فيه تحولات اجتماعية عميقة بصيغة صراعات سياسية أو دينية أو عرقية، وانزياحات ديموغرافية واسعة بصيغة هجرات سكانية طوعية أو قسرية كما هي الحال في سورية والعراق حيث تشرع العلاقات المترفة والذهنيات المتطيفة بالتسلل إلى حواضر المدن عبر أسراب المهجرين الباحثين عن مجرد أماكن مجهولة الملامح، لا يهمها منها سوى كونها ملاذات آمنة وملاجئ محمية، وإن آخر ما تفكر فيه أو تهتم لأمره هو السؤال عن شخصية المكان أو طابع هويته – للتوطن في بيئاتها، والتمكن من قيمها، والتسلطن على أعرافها المتعقلة. ولذلك «فالمدينة كما تؤكد الفيلسوفة والعالمة في الأديان ميريام ريفولت دالون ــ ليست إذن مجرد جماعة مكان. ينسلك الشأن السياسي العام في جماعة من المواطنين، في الوجود المدني، في الانتماء المشترك إلى «النحن».