نافذ عابد… فلسطينيّ يبرع في ترميم الآثار وتقليدها

غزّة ـ أيمن الجرجاوي

في غرفة صغيرة مسقوفة بالصفيح أعلى سطح منزله، يمسك الفلسطينيّ نافذ عابد قطعة من سراج فخاريّ بيده اليمنى، ثم يضيف بيده الأخرى بعضاً من الغراء ليثبت به قطعة أخرى فوقها. ولمجرد تثبيت القطعتين، يعيد طلاء خط التقائهما بالغراء مرة أخرى، ثمّ يحمل بعضاً من الفخار المطحون بين أصابعه، ويرشه فوق الخط، ليصبح كالأسرجة الأثرية المعتقة.

للوهلة الأولى، لا يبدو للناظر إلى غرفة عابد ـ الخبير في ترميم الآثار وتقليدها ـ أن غرفة لا تتعدّى مساحتها تسعة أمتار مربّعو في مخيم الشاطئ للاجئين في مدينة غزّة، يمكنها أن تحتوي على مقلّدات أثرية فائقة الدقة تحاكي قطعاً أصلية من العهد اليوناني وغيره.

وكما أن الأمور ليست بظاهرها غالباً، فإن بداية عابد كانت داخل السجون الصهيونية، إذ تعلّم هناك النحت والرسم من بعض الأسرى، وعندما أفرِج عنه عام 1989، منعه الاحتلال من دخول الأراضي المحتلة للعمل.

كان المنع الصهيوني لعابد دافعاً قوياً للبحث عن عمل يوفر دخلاً مجزياً، فعمل في ترميم الفخار وتقليد الأواني الأصلية، ثم طوّر عمله لصنع لوحات الفسيفساء شيئاً فشيئاً، وشجعه على ذلك إقبال التجار والمواطنين عليها.

ومع قدوم السلطة الفلسطينية عام 1994 كان صيته ذائعاً، وهو ما جعله يحظى بمقابلة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وحصل ـ حينذاك ـ على قرار مباشر من الرئيس بتوظيفه في وزارة السياحة والآثار.

الخبير الفلسطيني 55 سنة يُبدع في تقليد جميع أنواع الآثار الفخارية بأحجامها وألوانها وزخارفها على مرّ العصور اليونانية والرومانية والبيزنطية والإسلامية، إضافة إلى ترميم الأصلي منها.

كما يجيد نافذ ترميم المباني والهياكل العظمية والمعادن، ويصنع قوارير من العاج والعظم القديم والرخام، ويتفنّن في صنع لوحات من الحجر والجصّ، وينقشها ويزخرفها وفقاً للّوحات القديمة، ويُقلّد العملات الأثرية تقليداً دقيقاً.

يستحوذ عرض لوحات الفسيفساء المساحة الكبرى من مشغله المتواضع، إذ يُرتب عشرات اللوحات بمقاساتها وأشكالها المختلفة على رفوف مثبتة في الجدران، ويقول إنه يحّول أيّ صورة إلى لوحة فسيفسائية جميلة.

قلّد نافذ عابد لوحات فسيفساء لجميع بوابات المدن الفلسطينية بالعصور البيزنطية، كما أن جميع اللوحات والأسرجة التي صنعها هي طبق الأصل عن موجودات في فلسطين وفرنسا وإيطاليا.

ونظراً إلى عدم توفر الأحجار التي تُصنع منها لوحات الفسيفساء، يضطر عابد إلى استخدام مادة يصنعها بنفسه من الإسمنت والرمل الناعم ومواد أخرى، كما أنه يضيف صبغة تاريخية على مشغولاته بمادة يصنعها بنفسه فضّل عدم الكشف عنها.

ولا يستخدم الفنان أيّاً من الأدوات التي تعمل بالكهرباء، فأدواته لا تتعدى المفك والإزميل والمشرط والمنشار والكماشة والإبر.

وبحكم عمله في وزارة السياحة، سافر عابد إلى فرنسا للالتحاق بدورة في فنّ الفسيفساء وفنّ الفخار في متحف «آرلس»، لكنهم قالوا له إنهم يودّون التعلّم منه لا تعليمه، كما يقول.

ويقول عابد: عملت في غزّة مع علماء آثار فرنسيين، وشاركت مع علماء إيطاليين في ترميم قصر هشام بن عبد الملك في أريحا، وعملت مع الهولنديين والأميركيين والألمان والبولنديين.

ومن المواقف التي لن ينساها عابد، حينما أخذ وكيل وزارة السياحة الفلسطينية أسرجة من صنع يده هدية للمتحف الهولندي، وحينما فحصها الخبراء هناك جزموا أنها أصلية غير مقلّدة، على رغم أن اسمه ورقم هاتفه المحمول مدوّنان عليها.

براعة الفلسطيني دفعت القنصلين الفرنسي والسويسري في فلسطين لزيارته في بيته، حيث عرض عليه السويسري العمل في متحف جنيف بالراتب الذي يريد، لكنه رفض ذلك «رغبة في خدمة وطنه ولأن فرصه كانت جيدة وقتذاك». كما يقول.

لكن المفاجأة الكبرى، كانت حينما أوقفت السلطة الفلسطينية راتبه عقب أحداث الانقسام الداخلي عام 2007، على رغم أنه لم يعمل يوماً واحداً مع حكومة حركة حماس، وأنه معروف بعضويته الفاعلة في حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح».

ويقول عابد: أطالب الرئيس محمود عباس بإرجاع راتبي، وأتساءل… أهكذا يكون تكريم المبدعين في وطني؟

وبعد نحو 26 سنة من الخبرة، يحلم الفنان بإنشاء متحف يعرض فيه مشغولاته، وأن يُسمح له بالمشاركة في معارض خارجية لتسويقها، «لأنها أفضل من الذهب»، إضافة إلى استعداده لتقديم خبراته من أجل تعليم هذا الفنّ في مدارس خاصة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى