آثار العلاقات الصينية الروسية على النزاع في بحر جنوب الصين
رضا حرب
يعتقد المراقبون أنّ فرضية «الصين تسعى الى تحقيق اهدافها في بحر جنوب الصين بالطرق السلمية» هي التي تحكم وتقود التوجهات الصينية في هذه المرحلة، لكن السؤال البديهي متى تتغيّر الأدوات؟
بات من المسلّمات انّ الصين قوة اقتصادية عالمية وقوة عسكرية كبرى تتفوّق على خصومها الخمسة في بحر جنوب الصين، فيتنام والفيلبين وماليزيا وتايلاند وبروناي . دفع هذا البروز الصيني الولايات المتحدة كي تنقل أولوياتها إلى جنوب شرق آسيا وأطراف المحيط الهادئ في إطار استراتيجيتها المعروفة «آسيا المحورية». من هذا المنطلق يقول بعض المراقبين إنّ الحرب الاميركية الصينية قد بدأت فعلاً. هذا التحليل فيه مبالغة شديدة.
لا تزال القيادة الصينية بما تتمتع به من براغماتية تخالف التشدّد الشيوعي في مواجهة الرأسمالية المتوحشة، تعطي الأولوية للمصالح الاقتصادية ومصداقيتها على مستوى العلاقات الدولية ودورها في مجلس الأمن وتثبيت قوة «بريكس» الاقتصادية واستقطاب المزيد من الشركاء في إطار منظمة «شنغهاي للتعاون» الأمنية، وبالتالي يمكن ان تلجأ إلى ممارسة الضغوط على خصومها من خلال الاستفزازات المحدودة او المناوشات القابلة للاحتواء مع فيتنام والفيلبين ، لكنها بالتأكيد لن تلجأ الى استخدام القوة لتنفيذ قرار السيادة على بحر جنوب الصين، على الأقلّ، قبل بلورة الصورة التي سيكون عليها النظام العالمي الجديد. يبدو أنها في هذه المرحلة التي يمكن ان تقصر او تطول، تراعي الاعتبارات المتعلقة بالقدرات والنيات، وبالتالي تدرس خياراتها في حالات الانفراج او التأزم.
السياسة الصينية تمشي في مسارين منسجمين: المسار الأول سياسة «الباب المفتوح» والثاني سياسة «التنمية الاقتصادية» في إطار إقامة المشاريع العملاقة في فضائها الاقتصادي. يساهم المساران في تنامي قدراتها العسكرية وتوسيع نفوذها الجيوسياسي، مما يشكل تحدياً لوضع الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في العالم وفقاً لبعض القراءات. لكن، بقراءة جيوسياسية، تحاول الصين الاستفادة من النزاعات كالعقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا التي أبرزت للروس أهمية العلاقات مع دول آسيا وأهمية الصين في الاستراتيجية الروسية، لذلك تسعى روسيا اليوم الى ربط القوى الآسيوية الكبرى بأوراسيا إلى درجة أنّ رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف قال في مؤتمر صحافي: «أنا أشكر كلّ الدول التي تبنّت العقوبات، وأقول إني أشكرهم بصدق» في إشارة الى أهمية العلاقة مع الصين.
العلاقات الروسية ــــ الصينية خط سريع في اتجاهين. الصين يمكن ان تستفيد من التكنولوجيا العسكرية الروسية، وفي المقابل تستفيد روسيا من تطوّر العلاقات الروسية ـــــ الصينية لأنها تخفف من آثار العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها. العام الماضي وقعت الدولتان اتفاقية 30 سنة لشراء الغاز الروسي بقيمة 400 مليار دولار، وتقدّمت الصين لشراء 100 طائرة سوخوي. كما انّ الطرفين أجريا مناورات مشتركة في «بحر شرق الصين».
هذه الشراكة الاستراتيجية في حال تطورت وتقدّمت الى الأمام ستصبح العلاقات الروسية ــــ الصينية العامل الأهمّ في رسم معالم النظام العالمي الجديد، وستكون لها آثارها على النزاع في «بحر جنوب الصين» والطموحات الصينية بالسيادة على جزر سبراتلي وبارسلي.
خلال الاحتفالات بعيد النصر في شهر ايار الماضي وقّع الرئيس الروسي ونظيره الصيني 32 اتفاقية من شأنها ان تقوّي الروابط بين الدولتين. إحدى أهمّ الاتفاقيات تهدف الى ربط الدولتين بفضاء اقتصادي يطال اوراسيا «في الأساس، نحن نسعى في نهاية المطاف للوصول إلى مستوى جديد من الشراكة التي من شأنها خلق فضاء اقتصادي مشترك في جميع أنحاء القارة الاوراسية» قال الرئيس بوتين، الذي أراد توجيه رسالة تحمل في مضمونها انّ روسيا ليست في صراع مع الصين حول النفوذ في وسط آسيا، ودعوة للصين الى شراكة مباشرة مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وهي خطوة كبيرة ستكون لها انعكاساتها الايجابية على النزاع الصيني الفيتنامي في بحر «جنوب الصين» بحكم العلاقة التاريخية بين روسيا وفيتنام.
خط السكة الحديدية بتمويل صيني من موسكو الى مدينة «كازان» عاصمة «تتارستان» وإمكانية وصوله الى بكين سيشكل دافعا قويا لبناء خط السكة الحديدية المقترح من بكين الى موسكو عبر منغوليا بتمويل صيني ايضاً.
إذا نجح الصينيون في ربط اوراسيا ووسط آسيا ببحر جنوب بحر الصين كفضاء استراتيجي واحد، سيشكل ذلك ضربة كبيرة للولايات المتحدة الاميركية التي تستشعر مخاطر البراغماتية الصينية، لذلك تدفع الفيلبين نحو المواجهة لتكون رأس الحربة في المواجهة مع الصين. الفيلبين التي أهملت حقوقها في المنطقة الاقتصادية في مجموعة «جزر سبراتلي» 200 ميل بحري خلال العقود الثلاثة الماضية وفشلت في تحصين موقفها… فجأة استفاقت.
قبل أيام أجرت الصين مناورة بالذخيرة الحية في بحر شرق الصين التي تُعدّ المناورة الثالثة خلال شهرين. شارك في المناورات عشرات الطائرات واكثر من 100 قطعة بحرية مدمّرات وفرقاطات وغواصات معظمها من الأسطول البحري دونغهاي.
ذكرت تقارير من بكين انّ العديد من القطع التي شاركت في المناورات تمّ عرضها في العرض العسكري يوم 3 أيلول خلال الاحتفال بعيد النصر الذي حققته المقاومة الصينية على الاحتلال الياباني. كما تمّ عرض قاذفات مطوّرة بعيدة المدى. بالتأكيد حمل الاحتفال رسائل مزدوجة: العودة إلى الحوار وتوجيه تحذيرات.
المثير للانتباه، أنه بالتزامن مع المناورات الصينية، تمّ تداول نموذج للقاذفة الاستراتيجية المستقبلية «الشبح بي – 3» الاميركية التي ستدخل الخدمة عام 2025. وأشارت صحيفة «فوربس» الى انّ الطائرة قادرة على البقاء في الأجواء الصينية لمدة ساعة ويمكن أن تقطع مسافة 5000 ميل قبل الحاجة الى التزود بالوقود، وأنها مخصصة أيضاً للوصول الى أهداف في العمق الروسي. من الطبيعي ان يفسّر المراقبون هذا التزامن على انه رسالة موجهة إلى روسيا والصين معاً.
الميزان العسكري في هذه المرحلة يشير الى عدم قدرة الصين على تحمّل أعباء حرب تكون الولايات المتحدة واليابان جزءاً من المحور المعادي، لذا تسعى الى فرض «أمر واقع» من خلال إقامة مدرّجات لهبوط الطائرات ومنصات تنقيب عن الغاز والنفط ومنصات إطلاق صواريخ وتوسيع نشاط أسطولها البحري والسيطرة الجوية دون اللجوء الى القوة العسكرية لتحقيق اهدافها.
إنهاء النزاع على الطريقة الصينية أيّ فرض أمر واقع – غير ممكن على المدى البعيد أو على الطريقة الفيلبينية المحكمة الدولية – غير مجد، من هنا يبدأ النظر الى التغيير في الأدوات، السؤال متى وكيف؟ العلاقات الصينية الروسية يمكن أن تحسم الخيارات الصينية.
المركز الدولي للدراسات الأمنية والجيوسياسيةww.cgsgs.com