عندما ينتحر البعثيّون!
خالد العبّود أمين سرّ مجلس الشعب السوري
لم يعد هناك بعثٌ يُذكر بالمعنى التنظيمي والفكري والسياسي في العراق، غير أنّ هناك بعثيين، وهناك تاريخ بعث قد نختلف حوله أو نتفق، وقد نؤيده في مفاصل وعناوين، ولا نقف معه في عناوين ومفاصل أخرى، لأنّ ثمة فصلاً حقيقياً يجب أن يحصل في جملة مراحل تاريخية بين البعث السلطة، والبعث الحامل الشعبي والتاريخي الذي كان غنيّاً جداً لجهة انحيازه إلى قضايا الأمة وحقوقها…
غاب البعث وأضحى مشهداً من الماضي، حركة في سياق التاريخ، وبقيَ كثير من البعثيين الذين صمتوا نتيجة الهزيمة التي مُنيَ بها العراق، وبالتالي الهزيمة التي مُنيَ بها البعث ذاته، لكنّ البعثيين ما انفكوا يعبّرون عن وجودهم بأشكال محدودة وخجولة، إنّما يسجَّل لكثير من هؤلاء البعثيين أنهم كانوا نواة مجموعات حملت السلاح في وجه الاحتلال الأميركي بعد سقوط الدولة وتفتّتها، وأنهم شكلوا حالات متقدّمة في التعبير الطبيعي والموضوعي دفاعاً عن العراق.
عانى البعثيون كثيراً بعد احتلال العراق، خاصة بعدما واجهتهم عناوين الاجتثاث، وضاعوا في ممرّات ودهاليز الملاحقة، إذ أنّهم فقدوا إمكان القدرة على التعبير عن الذات الطبيعة والتصدي لجملة مسائل كانت تحكم المشهد السياسي للعراق والمنطقة.
لم يستطع البعث أن يكون واضحاً جليّاً، نتيجة ذلك، ولم يستطع أن يكون موازياً ومحاكياً لحوادث المنطقة، إذ بدا متأخراً، كما استغلت طاقة البعثيين في غير مكانها، عندما غابت الرؤيا وغاب التنظيم وغابت الرؤوس القادرة على قيادة الفعل الجمعي وتوجيهه.
لم يعد البعث العراقي قائماً إلاّ في حالات بسيطة جداً، خاصة عندما حاولت قوى استخباراية استغلال بعض البعثيين في مواجهة الاحتلال الأميركي، ليس حباً بهم بمقدار ما هو استعمال لهم. لكن هذا أيضاً لم يكن غامضاً على كثير من البعثيين والذين شاركوا في مواجهة الاحتلال، إذ كانوا يدركون أنّ مصالحهم تلتقي مع مصالح البعض الذين ربما لن يكونوا إلى جانبهم لاحقاً!
لقد نجح البعثيون في استغلال بعض الحكومات وموقفها من الاحتلال الأميركي للعراق، فنسّقوا معها ونجحوا إلى جانب كثيرين من الشعب العراقي في تحرير العراق، غير أنّهم لم يفدوا من الانتصار، أو هذا التحرير، أو لم يستطعوا أن يصرفوا ما أنجزوه سياسياً، لأننا نعتقد أنّ غياب التنظيم ذاته، وغياب المؤسسة، ساهما في استغلالهم وفي الإبقاء عليهم رهن استعمالات لاحقة أو قادمة.
في الآن ذاته نجحت حكومات وأطراف إقليمية ودولية في الإفادة منهم في مواجهة الأميركي، غير أنّ هذه الحكومات لم تستطع أن تعيد إنتاجهم أو تتواصل معهم على نحو إيجابي، فقد بقيت عناوين الاجتثاث والملاحقة عرضة لرياح استعمال أخرى، كونهم ظلوا خارج الخريطة السياسية العراقية، وعرّضهم كثيراً للانسحاب إلى مسائل مذهبية ودينية في ظلّ نمو عناوين تحاكي هذه المسائل، وظهور قوى مشدودة بهذا الاتجاه، أو قائمة عليه.
إنّ الضعف السياسي التنظيمي الذي عانى منه النسق السني في العراق، أبقى على البعث حاضراً من غير عيون أو رؤى، وأبقاه عرضة للأفكار والمواقف اللحظية القائمة على انفعالات ذاتية وفردية، وغير المستندة إلى قدرات جمعية تحلّى بها الآخرون، إذ بدا البعثيون متأخرين جداً في مسائل كانوا فيها رئيسيين وسبّاقين، كما قُدّموا في مشهد بائس حين ظلّوا في لحظتهم الصامتة العالقة بأسماء بعينها، فاللحظة السياسية لم تفرز أسماء جديدة قادرة على إدارة اللحظة أو التأثير فيها.
ذلك كلّه أدى إلى تحوّل البعثيين كتلاً بشرية ساكنة الماضي، غير قادرة على ولوج الحاضر، أو التأثير فيه على نحو موضوعي أو منطقي، حتى كانت اللحظة الأخيرة، وهي اللحظة المليئة جداً برؤوس لها تطلعاتها وحساباتها وأحلامها، وأجهزة استخبارات تبحث عن متكآت في السياسة لتأمين مشاريع سياسية معينة وواضحة.
هنا يأتي البعثيون كمادة استعمال يمكن الإفادة منها كثيراً، كونها الكتلة المستبعدة والمحيَّدة وفق خريطة العراق الجديد، يُدفع بها إلى الواجهة، وتستغلّ الطاقة السالبة في وجه نسق سياسي معيّن ومحدّد، كي يبدو المشهد مشهداً طائفياً، ومشهداً سالباً غير جامع لأبناء العراق.
إنّ اللحظة التي يزجّ فيها البعثيون، والمشهد الذي يؤخذون إليه، بفضل فعل استخبارات تركية و«إسرائيلية» وسعودية، لا يمكن أن يقدّمهم إلا عبارة عن كتلة طائفية صرفة تريد للعراق أن يقسّم، وهي التي سوف تعطيه مشروعية هذا التقسيم على أساس طائفي مقيت!
سوف يتمّ تقديم البعثيين باعتبارهم مظلومي سنّة العراق، وليس باعتبارهم الحزب القومي العربي الذي امتلك تاريخاً عظيماً، وسوف يُصابون بفيروس الانزياح إلى عناوين ضيّقة وأفكار ملوّثة، كي يأخذوا شرعية مواقفهم الجديدة، وسوف يقعون في مطبّ الانتحار الجمعي، عندما تظهر في وجوههم أحزاب قادرة على التعامل مع الحوادث على أساس وطني صرف، وعندما تتجاوز هذه الأحزاب وقادتها جملة اتهامات كانت وجّهت إليها، وعندما يتضح المشهد أخيراً أنّ البعثيين كانوا أوراق استعمال وحطب مشهد عراقي، في ظلّ تسويات كبيرة على المستوى الإقليمي والدولي.