ثقافة السلام بين الاهتمام الدولي وحاجة الداخل: دور القانون والتربية في ترسيخها
يعالج الدكتور خليل خيرالله دور القانون والتربية في ترسيخ ثقافة السلام ويدعو إلى أن تنتقل الثقافة من المبادئ والعقول إلى مجاري الحياة والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحقوقية. إضافةً إلى إشارته إلى أن السلام هو حاجة دولية وهو موضوع اهتمام دولي، السلام الذي ترعاه نصوص دولية عديدة.
كما يشير خيرالله إلى أن السلام حاجة داخلية ضمن المجتمع من شأنها ترسيخ ثقافة السلام الداخلي.
خليل خيرالله
السلام قيمة تلازم أمن الحياة واستقرارها وتتيح للمجتمع تطوراً سلمياً. لكن بين وضع اللاحرب واللاسلم، وأمام الحروب الذكية التي تخاض من دون مدفع أو رشاش، وأمام السلام بمفهومه الحقيقي خيط رفيع قد لا يسهل تبيّن أسوده من أبيضه.
وحين نتكلم عن تعبير اسمه ثقافة السلام يعنينا منذ البداية تحديد المفردات، لأن التعيين شرط الوضوح ولأن تعيين المقصود بثقافة السلام يدلنا على أي سلام نريد وكيف نرسخه في حياتنا.
يمكن تعريف الثقافة لغوياً بالآتي: ثقف الرجل من باب ظرف صار حازقاً… ومنه المثاقفة، وثقف من باب طرب فهو ثقف، والثقاف هو ما تسوى به الرماح وتثقيفها تسويتها. وثقفه من باب فهم. 1 وقد لا توفر هذه المعاني اللغوية ما نقصده من تعبير ثقافة السلام، لكنني أختار منها تسوية الرماح ثقف الرمح أي سوّاه لارتباطه بالتربية، مع الإشارة إلى أن تعريفات الثقافة كثيرة بدءاً من توصيفها الجامد إلى مفهومها الديناميكي المرتبط بعلاقات الناس ومفاهيم وأنماط حياتهم وتعبيراتهم.
وعن مفردة سلام، جاء في القاموس المحيط: «والسلام من أسماء الله تعالى والسلامة البراءة من العيوب. وسلم من الآفة بالكسر سلامة، وسلمه الله تعالى منها تسليماً وتسلمه أعطيته فتناوله. والتسليم الرضا والسلام وأسلم انقاد وصار مسلماً. وأمره الى الله سلمه وتسالماً تصالحاً وسالماً صالحاً»… 2
ويمكن تعريف السلام بأنه حالة يخلو فيها العالم أو المجتمع من الحروب والنزاعات ويسوده الأمن والاستقرار.
وغني عن البيان أن المعنى اللغوي للمفردتين قاصر عن استيعاب ما يعنيه تعبير ثقافة السلام كمصطلح ديناميكي متحرك، إذ أن صياغة هذا المفهوم تأخذ بعداً فلسفياً واجتماعياً وأخلاقياً وثقافياً عالي الأهمية في حياة المجتمعات.
وبحسب تعريف الأمم المتحدة، ونحن نعتمده هنا، فإن ثقافة السلام هي مجموع القيم والمواقف والتصرفات وطرق الحياة التي تنبذ العنف وتتدارك النزاعات قبل حصولها فتعالج أصولها بالحوار والتفاوض بين الأفراد والجماعات والدول. 3 وهذا يعني احترام الحياة والإنسان والكرامة الإنسانية.
وعليه ليست ثقافة السلام مفهوماً جامداً أو مجرّد قول مرصوف، بل هي قوة فاعلة متحركة وهي حاجة قبل أن تكون التزاماً داخلياً بين أفراد المجتمع وجماعاته أو عالمياً بين مختلف الدول.
يبقى السؤال كيف نرسخ هذه الثقافة في حياتنا، أي كيف ننقلها من المبادئ وحتى من القلوب والعقول إلى مجاري حياتنا ومؤسساتنا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحقوقية فتصبح إذاك قوة حياة فاعلة وواقعاً حياً ملموساً؟
نبدأ ببحث ثقافة السلام في اهتمامات الأمم المتحدة وفي حاجات الداخل الوطني أولاً ثم ترسيخ ثقافة السلام عبر التربية ونشاط منظمات المجتمع المدني إضافة إلى عوامل أخرى ثانياً .
أولاً: ثقافة السلام اهتمام دولي وحاجة داخلية
شددت النصوص التأسيسية للأمم المتحدة على السلام ثم، في تاريخ حديث، على ثقافة السلام كاهتمام عالمي قبل أن تتحول الى حاجة وضرورة للأفراد والجماعات ضمن المجتمع الواحد.
1 – السلام وثقافة السلام في النصوص الدولية:
بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها تاركة دماراً هائلاً وعدداً من الضحايا فاق عشرات الملايين، تم توقيع شرعة الأمم المتحدة من قبل خمسين دولة، وقد نصت على منع الحروب وفرضت حلّ الخلافات بشكل سلمي جاعلة بذلك من السلام حقاً. وقد تصدرت فكرة العيش بسلام وحفظ السلام كل من مقدمة الشرعة والمادة الأولى منها 4 .
ثم صدر الإعلان العالمي لحقوق الانسان عام 1948 وتضمنت مقدمته، بل المقطع الأول منها، تشديداً على كرامة الإنسان كأساس للحرية وللعدالة وللسلام في العالم.
عام 1976 أكدت هيئة حقوق الإنسان حق كل شخص بالحياة في حالة من السلام والأمن. عام 1978 أكدت الجمعية العمومية للأمم المتحدة في إعلان لها تحضير المجتمعات للعيش بسلام 5 . وأن كل الأمم وكل الكائنات البشرية لها حق أصيل بالعيش بسلام مادة1 وكل الدول عليها واجب أخذ التدابير الكفيلة بتنشيط المثل العليا للسلام.
ومن أبرز النصوص الدولية نجد «إعلان حق الشعوب بالعيش بسلام»، الذي صدقته الجمعية العمومية للأمم المتحدة بقرارها رقم 39/11 تاريخ 12 تشرين الثاني لعام 1984 وتناول إعادة تأكيد المهمة الأساسية على عاتق منظمة الأمم المتحدة وهي حفظ السلام والأمن الدوليين 6 ، لكنها قصرت حق السلام بالشعوب، من دون ذكر حق الأفراد بالسلام، معتبرة أنه حق مقدس وأن تحقيقه موجب أساس على عاتق كل دولة.
وفي 26 حزيران عام 1989 في ياماسوكرو، عقدت الأونيسكو مؤتمراً بعنوان: «السلام في عقول الرجال»، ومن طروحاته الأساسية تطوير ثقافة السلام… ثم مؤتمر باريس في شباط 1994 بعنوان: «المؤتمر الأول لثقافة السلام» وفيه تم تحديد مفهوم ثقافة السلام. وفي عام 1997 أعلنت الأونيسكو بوضوح إرادتها بأن تجعل من السلام حقاً إنسانياً: «على أن حق الإنسان بالسلام يشكل أساس ثقافة السلام».
وفي 20 تشرين الثاني 1997 صدر قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم 52/15 أعلنت فيه السنة 2000 سنة عالمية لثقافة السلام. وكذلك قرارها رقم 53/25 تاريخ 10 تشرين الثاني 1998 أعلنت فيه الفترة الممتدة من 2001 حتى 2010 «عشرية عالمية لتشجيع ثقافة اللاعنف والسلم لمصلحة أطفال العالم» 7 .
وفي 13 أيلول 1999 تبنت الجمعية العمومية إعلاناً حول ثقافة السلام ثم أتبعته بخطة عمل متكاملة وذات أهداف واستراتيجية واضحة تلحظ أهدافاً للمؤسسات الدولية وللمجتمع المدني، كي تشكل أساساً للسنة العالمية لثقافة السلام وللعشرية العالمية المذكورة 8 .
وتجلت هذه العشرية بنشاطات كثيرة قامت بها الدول ونشأت فيها جمعيات مدنية ناشطة في مجال اللاعنف والسلام، حتى تأسس عام 2003 ما سمي بالتنسيق العالمي للعشرية، ونشأت حتى كانون الثاني 2010 في القارات الخمس 1054 جمعية 9 . تنشط هذه الجمعيات وتأخذ شرعيتها من المجموعة الدولية وتقيم في 21 أيلول من كل سنة يوماً عالمياً للسلام. وقد حثّ قرار الجمعية العمومية الأونيسكو على إنشاء صندوق لتمويل مشاريع هذه الجمعيات وحثّ «هيئة تثبيت السلام» على متابعة تنشيط ثقافة السلام في مبادراتها لما بعد النزاعات، كما تم إنشاء «التجمع العالمي للمدربين على ALEP: Association internationale des ducateurs a la paix السلام».
ومن نافل القول إن هذه النصوص وهذه النشاطات، على أهميتها في بناء ونشر ثقافة السلام، تبقى غايتها بعيدة المنال في عصرنا، وقد طاولت الحروب والنزاعات مناطق كثيرة ووقفت الأمم المتحدة عاجزة أمام حل قضايا عادلة أبرزها قضية فلسطين. وغالباً ما تخضع مؤسسات الأمم المتحدة لمصالح الدول الكبرى التي انتصرت مصالحها في الحرب العالمية الثانية، تحركها أو تجمد حركتها بحسب مصالح وقوة الأقطاب أو القطب المهيمن عليها، وهكذا يغيب السلام عن منطقتنا ويحل العنف.
لكن أخطر ما يحدث اليوم هو شن الحروب وتدمير المجتمعات واستباحة الشعوب الأضعف لنهب ثرواتها وضرب وحدتها وترويج صناعة الأسلحة وتجارتها لتنشيط اقتصادات الدول الغازية، وكل ذلك باسم السلام وباسم الديمقراطية وباسم حقوق الإنسان، وتصوير الدول المعتدية نفسها كدول قيّمة على هذه القيم السامية وحارسة لتطبيقها في العالم، وهي دول كواسر، في تاريخها صفحات سوداء من انتهاك القيم وحقوق الإنسان وزرع الموت بين البشر. يبقى أن نرى حاجة مجتمعنا إلى ثقافة السلام وحل نزاعات الجماعات والمواطنين فيه على الأسس والمبادئ التي وضعتها الأمم المتحدة والتي تمليها مصالحنا الوطنية.
2 – السلام حاجة داخلية ضمن المجتمع: تفكيك بنية العنف وتجفيف مصادره.
لا يحيا مجتمع أو يستقر إذا سادته ثقافة العنف والعنف المضاد. وقد عرفت البشرية مجتمعات تمجد العنف والحروب، ومنها المجتمعات التي تتوسل القوى الماورائية وتستقوي بها على أعدائها، وهذا يؤدي الى مأسسة العنف دينياً، ومنها المجتمعات التي تمجد سيطرة الذكورة على الأنوثة وتربط قيمها بتمجيد الرجولة واحتقار المرأة، ومنها مجتمعات تمجد الديكتاتورية وعبادة الفرد في السلطة، وهنالك الأنظمة التوتاليتارية والإيديولوجيات العنصرية التي تقوم على التفوق العرقي والسيطرة على سائر الأعراق.
هذه مجتمعات يسودها مبدأ العنف وتنمو فيها الأهداف الاستعمارية والاقتصادية واستعباد المجتمعات الأخرى لإخضاعها ونهب خيراتها.
وللعنف داخل المجتمعات أوجه مختلفة، منها العنف العنصري النخبوي كأن يرى كل مكون من مكونات المجتمع المختلفة أنه جماعة ممتازة عن الأخرى بأصلها العرقي أو تاريخها أو مميزاتها الثقافية وتقدمها الاجتماعي، أو يشبّه لكل مكون أنه مغبون في ناحية ما من نواحي الحياة الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية فتنشأ لديه مواقف نفسية سلبية هي أقرب إلى العقد النفسية التي يشخصها ويهتم بها علم النفس الاجتماعي.
فإذا نظرنا الى واقعنا اللبناني نرى أن طائفة بكاملها يعبر عنها رئيسها الديني أنها لديها هواجس، وطائفة تضطرب فتثور لديها فكرة مظلومية أهلها، وأخرى أنها محرومة وأخرى أنها خائفة لأنها أقلية. وهكذا يمدّ كلٌ منها يده إلى الخارج لتستقوي به على زميلاتها في مجتمع يزداد انقساماً عند كل استحقاق.
ومن أشكال العنف الأخرى العنف الاقتصادي الذي يشلّ المجتمع ويهمّش أجزاء منه ويقلص إنتاجية أفراده وينهب ثرواته فيحوّله الى مجرد جسم مستهلك. وهنالك العنف الجنسي المتمثل في احتقار المرأة وسيطرة الرجل، والعنف الطائفي المستخدم للسيطرة والمحاصصة والمستعد أبداً للاشتعال بإشارة من الخارج أو باستقواء به… والعنف السياسي الذي يحتكر مواقع القوة في المجتمع ويقتسمه وفق مصالح الإقطاعات المسيطرة على حياتنا السياسية… والعنف الاجتماعي الذي يخلق في المجتمع تفاوتات ومشاعر تهميش وغبن تغذيها قوانين متحيزة.
والخطير في هذا العنف، بكامل أشكاله، أنه عنف منظم وراءه مؤسسات تمارسه، كالحكومات والأحزاب ودور التربية من مدارس وجامعات وغيرها.
إن تفكيك بنية العنف الداخلي ضمن المجتمع، وإحلال ثقافة السلام مكان ثقافة العنف المغذية للشقاق والانقسامات، عمل يستهدف أجيالاً ولا يتم بمجرد إصدار قانون أو مرسوم، ولكنه عمل ضروري وحاجة ملحة.
وثقافة اللاعنف هي ثقافة سلبية بينما الحاجة الى ثقافة سلام ديناميكي يفعّل قوى المجتمع الحية ويصون وحدته الداخلية. ويبقى السؤال: كيف نرسخها في حياتنا؟
ثانيا: ترسيخ ثقافة السلام الداخلي
للخارج تأثير كبير في مجتمعنا لا يمكن إغفاله، بخاصة إذا ادّعى صداقتنا فصدقناه وصدقنا أن السياسة الخارجية صداقات وعواطف لا مصالح.
إن لعامل الاطماع الخارجية دوره الأول في تفسيخ مجتمعاتنا، منذ سايكس- بيكو الأولى ومروراً بمشروع الثانية التي نشهدها في أيامنا هذه والذي طال مخاضها منذ ثلاثين سنة وأكثر، شهدنا خلالها الحروب والتفجيرات الأمنية الخارجية والداخلية الممنهجة. وقد يكون لفلسفة «القوة موجودة فلماذا لا نستعملها» التي عبرت عنها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت، دورها في الميل إلى إنشاء الصناعة العسكرية الضخمة والى إخضاع الدول والتلاعب بمصائرها وإعادة تشكيلها.
لكننا نرى في العامل الداخلي مساعداً للإرادات الدولية أو ممانعاً. فإن كان الداخل موحداً متجانساً واعياً لمصالحه في البقاء كانت قوته في صد الأطماع الخارجية أقوى وإلا كان ضعفه مثار تآمر ومصير قبر.
إن ترسيخ السلام الداخلي وإحياء ثقافة السلام وترسيخها أمر نرى أنه يتم على صعد مختلفة كما تضمنها الإعلان الصادر عن الجمعية العمومية للأمم المتحدة بتاريخ 13 أيلول 1999 وخطة العمل التي أعقبته والتي تناولت مروحة عمل من ثماني نقاط تتناول ثماني أصعدة يتم عبرها ترسيخ ثقافة السلام وهي:
– تقوية ثقافة السلام عبر التربية.
– تشجيع النمو الاقتصادي والاجتماعي المستمر.
– تشجيع احترام حقوق الإنسان كافة.
– تأمين المساواة بين النساء والرجال.
– تشجيع المشاركة الديمقراطية.
– تطوير التفاهم والتسامح والتضامن.
– دعم الاتصالات التشاركية والتداول الحر للمعلومات والمعارف.
– تشجيع السلام والأمن العالميين.
وهذه المواضيع بالغة الأهمية، وبخاصة مسألة تأمين المساواة بين النساء والرجال وتعزيز دور المرأة كمربية أجيال وحاضنة للمواهب الجديدة وحافظة لتماسك المجتمع وكذلك مسألة تأمين المشاركة الديمقراطية وهي أساس الأمن السياسي والاستقرار الذي لا يهمّش المكونات الأخرى والذي يؤمن التمثيل الصحيح عبر قانون انتخاب عصري. وكذلك دور القانون في إقامة العدالة والمساواة في المجتمع وحلّ النزاعات لضمان حقوق الأفراد والجماعات. وبالعمل من أجل العدالة يتحقق السلام الداخلي، إذ لا سلام حقيقياً بلا عدالة. من دون أن ننسى دور الإعلام الخطير والمهم في نشر ثقافة السلام.
وعلى أهمية هذه الصعد والأخرى الباقيات، فإننا نختار هنا بحث التربية كعامل تثقيفي وكأداة تفاهم وتضامن في المجتمع 1 إلى جانب دور المجتمع المدني 2 .
دكتور في الحقوق
هوامش
1. ص 311 الرازي، محمد بن أبي بكر بن عبد القادر: مختار الصحاح. عني بترتيبه محمود خاطر
2. الفيروز ابادي، محي الدين محمد بن يعقوب: القاموس المحيط. الجزء الرابع. دار الجيل. بيروت 1952م. ص132
3. R solutions des Nations Unies A/RES/52/13:Culture de la paix et A/53/243:D claration et Programme d action sur une culture de la paix, approuv e en octobre 1999
4. Le droit humain a la paix dans les texts existants des droits dev l homme. www.graines-de-paix.org/fr/outils-de-paix
5. ٌRes.33/73
6. D claration sur les droits des peuples a la paix. www.ohchr.org/fr
7. www3.unesco.org/iycp
8. Res.53/243
9. www.institutidrp.org 16 oct.2014