تركيا… حرق أوراق واحتراق أيدٍ!
فاديا مطر
لم تختف أهمية الدور التركي في حلف الناتو منذ انضمامها إليه في 28 شباط العام 1952 والناتجة عن توافق المصالح التركية الاستراتيجة مع مصالح دول أعضاء الناتو، لتكون هي العضو القديم في حلف الأطلسي الذي لم ينتبه الحلف إلى نشر منظومة صواريخ «باتريوت» على أراضيها رغم أهمية الجغرافية السياسية التركية ودورها كجناح جنوبي في سياسة الناتو منذ مواجهة الاتحاد السوفيتي سابقاً وصولاً إلى ما لعبته تركيا من دور بعد تفككه وانضمام دول سوفياتية سابقة إلى الحلف.
فقد جاءت حرب العراق في العام 2003 ولم ينشر الحلف هذه المنظومة الصاروخية في تركيا بل استبدلها بنشر درع صاروخية في أوروبا بذريعة خطر إيران الصاروخي، حتى جاءت تطورات سورية وما حملت معها من انغماس تركي مع مجموعات إرهابية اتخذت من الأرض التركية مقراً ومعبراً لها وبدأت معها «عثمنة» الحدود السورية عن طريق فكرة «المنطقة العازلة التي طالبت بها تركيا في الشمال السوري منذ العام 2012 في مجلس الأمن والتي رفض فكرتها كلٌّ من البيت الأبيض والناتو في 29 تشرين الأول 2014 بعد تصريح الأمين العام للحلف «ينس ستولتنبرغ» أن منطقة عازلة في الشمال السوري تطالب بها أنقرة ليست مدرجة على جدول أعمال الحلف، لكن قدوم حلف الناتو عسكرياً إلى الأرض التركية كان يشكل ذريعة مختلفة عن تلك التصريحات، فقد عمد الناتو بعد بيان لقيادة الجيش الأميركي في أوروبا ومقره ألمانيا في 4 كانون الثاني 2013 بوضع منظومة صواريخ باتريوت في قاعدة إنجرليك التركية مع مشاركة هولندية وبعدها ألمانيا في 8 كانون الثاني 2014 استعداداً لمنطقة عازلة تحت حماية أطلسية للجماعات الإرهابية في الشمال السوري، بذريعة مطالب ومخاوف تركية من تردي الأوضاع في سورية وتداعيات أمنية على تركيا. فقدمت أساطيل أميركية إلى شرق المتوسط في أيلول 2013 تحت ذريعة ملف الكيماوي السوري والذي اعتمدت تركيا في حلمها العثماني الأردوغاني عليها، وعوّلت في مخيلتها على تحقيق منطقة آمنة في سورية، لكن الأساطيل رحلت وسقطت فكرة الحرب على سورية ولم يرحل معها الإلحاح العثماني. وبعد انعقاد التفاهم النووي مع إيران ورهان الأميركيين على نفاد الوقود الروسي الذي راهن على نفاد الوقت الأميركي من العراق وأفغانستان لم يستدعِ قرار سحب الباتريوت الأطلسي من تركيا التي خسر فيها اردوغان ورقته البرلمانية في 7 حزيران المنصرم بعد أن كان راهن على ربحها بقوة المنطقة العازلة والحرب على الأكراد التي دفعت فيها تركيا عبثاً الناتو إلى دخولها بعد جريمة «سورج» والدعوة لاجتماع طارئ للناتو في 29 /7/ 2015 في بروكسل والمشاركة التركية في تحالف واشنطن الدولي التي لا تُعدّ من الناحية الاستراتيجية ذات جدوى على مجريات الحرب على «داعش»، لان مسلحي تركيا يملكون الخبرة الكبيرة في مواجهة هذه الهجمات. فالحسابات الأميركية والألمانية قبلها في التورط بالحرب مع سورية على خلفية تراجع شعبية الغرب والناتو تركياً لم تمنع تموضع الخلاف في وجهات النظر التركية مع الناتو وأوروبا في مواضيع كثيرة.
لكن الرفض الأميركي ـ الأوروبي لحرب على سورية كان أقوى من إصرار أردوغان الخاطئ ليكون قرار سحب منظومة الباتريوت الأميركية نهاية شهر تشرين الأول الحالي والقرار الألماني بسحب المنظومة الصاروخية في نهاية كانون الثاني العام 2016 علامة على تغيير في سياسة حلف الناتو والولايات المتحدة الأميركية في تعاملاتها مع لاعبين أساسيين في المنطقة تخفي تحت طياتها كلاماً أكبر مما صرّحت به، فهي رسالة لأردوغان عشية الانتخابات المقبلة بأن مستوى التهديد المفترض لتركيا منخفض، وأن تركيا ليست تحت الحماية الأطلسية التي تتجه نحو اعتبار تنظيم «داعش» تهديداً أكبر في المنطقة وهو ما يقع في الرسالة الغربية إلى أردوغان بحبرها السريّ بين سطور المتغيرات التي تشهدها المنطقة مؤخراً من دخول عسكري روسي إلى سورية لمحاربة التنظيمات الإرهابية والحديث الأميركي عن خطوط حمر استنفرت لها آراء دولية وإقليمية تتجه إلى «طلاق» لأولويات غربية في الإقليم العربي واختلاف حول التصنيف ومآله نحو تركيا والسعودية والكيان «الإسرائيلي» الذي بدأ يفقد وعيه مع انحراف البوصلة الأميركية والغربية نحو تنظيم «داعش» بدلاً من الدولة السورية إلى تبدل واضح في الأولويات نحو الخطر الإرهابي بدلاً من الأمن القومي التركي والسعودي مما يزيد افتراق وجهات نظر تسحب معها أوراق ثقيلة من سياسة أردوغان وباقي حلفاء الإقليم، خصوصاً بعد اتفاق إيران مع السداسية الدولية في 14 تموز الماضي وفتح أوراق جديدة لتموضع لاعبين سيغيرون خريطة التحالفات وتوازنات القوى.
سحب الباتريوت من تركيا يؤشر إلى تعافٍ موضعي للعلاقات الدولية مع إيران وروسيا الحليفين القويين للدولة السورية. وهي خطوات مدروسة أوروبياً وأميركياً لإعادة توزيع أوراق الساحة الإقليمية الخالية من الورقة التركية ـ السعودية التي كانت تعتمد على ثقة غربية ـ عربية أحرقتها السياسية العثمانية الفاشلة والمتعنتة، فهل وصلت الرسالة إلى أردوغان والسعودية، «ليحيى من حيى على بيّنة»؟