جردة الحساب العونية… الأرباح في الاستراتيجيا والخسارة في التكتيك
هتاف دهام
أجرى رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون عملية تقويم شاملة لحصاد السنوات العشر الماضية، وهو على وشك أن يجري تقويماً شاملاً للسنوات الـ25 منذ 13 تشرين الأول 1990.
يحصد العماد عون بحسب مصدر مقرّب من الرابية نتائج مسيرته النضالية ويؤكد أنه على خط صحيح ومستقيم على رغم كلّ ما حفلت به تلك السنوات العشر من تعرّضه لمكائد كثيرة بدءاً من محاولات استئصاله ما إنْ وطأت قدماه أرض مطار بيروت الدولي، إلى رهاناته الخاطئة على تسوية الدوحة في عام 2008 مع قبوله بانتخاب الرئيس ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وعلى تيار المستقبل أيضاً بشخص الرئيس سعد الحريري الذي انقلب على ما تمّ الاتفاق عليه في حوارهما في مسألة التعيينات الأمنية والعسكرية وفي استحقاق رئاسة الجمهورية.
يخوض الجنرال مواجهة واسعة مع هذا التيار تبدأ في بيروت وتنتهي في الرياض، فكلّ المحاولات التي قامت بها الرابية للتفاهم مع بيت الوسط باءت بالفشل ولم تسمح المملكة بها فحسب، إنما وضعت فيتو عليها. وجعلت من الثلاثي الرئيس ميشال سليمان، حزب الكتائب، والوزير بطرس حرب أدوات في الحرب ضدّ عون، مبقية تيار المستقبل في الصفوف الخلفية، وعلى رغم ذلك استطاع العماد عون أن يصمد ولا يزال الأقوى مسيحياً والأكثر تمثيلاً وطنياً.
يشكل عون قوة توازن داخل الصف المسيحي وداخل لبنان إزاء فريق 14 آذار، الذي كان قبل عودة عون عام 2005 بحالة صعود وإمساك بالوضع المسيحي على الأقلّ ظاهرياً. حقق الجنرال بحسب الوزير السابق كريم بقرادوني الأمن القومي من خلال جرأته على التفاهم مع حزب الله في عام 2006 على رغم كلّ المزايدات المسيحية وثبت تحالفاً ضمن الأمن السياسي، كان من نتيجة هذا التفاهم أن واجه تكتلاً من التحالفات ضدّه، كأيّ قائد قوي أعداؤه كثر.
لقد كان عون في المرحلة الأولى من عودته الى لبنان محاصراً من الجميع، من الحليف والخصم، كان محاصراً من فريق 8 آذار لأنه ينتمي إلى فريق 14 آذار الذي من جهته يحاصره تحت عنوان «تسونامي عون»، وكانت هذه الفترة قاسية عليه وأظهرت حجم القرار الدولي والاقليمي والمحلي بتهميشه على الصعيد الوطني، لم تنفع معه النسب العالية من الأصوات التي حصل عليها. لم يستطع أن يصرف الانتصار الانتخابي عام 2005 بسبب الحصار المطبق عليه، ما دفعه إلى البحث عن حلفاء خارج 14 آذار، فهو لمس أنّ المكونات الأساسية في هذا الفريق لا سيما «المستقبل» والنائب وليد جنبلاط كلها ترفض وجوده، أضف إلى ذلك التحالف الرباعي الذي تشكل قبيل انتخابات 2005، ليجد عون نفسه أمام خيار من ثلاثة إما البقاء في 14 آذار مهمّشاً وكأنه منفي في الداخل والقبول بإعلان وفاته سياسياً والانتحار، وإما تشكيل حالة مستقلة عن 8 و14 وهذا الخيار لا يراهن عليه، أو التحالف مع فريق 8 آذار أو أحد مكوناته. استفاد عون من التحالف الرباعي الإسلامي ضدّه، فحصد عطفاً مسيحياً إضافياً أوصله لتشكيل أول تسونامي مسيحي على الصعيد الوطني، وهذا ما لم يتوفر لأيّ شخصية مسيحية على مساحة «الجغرافيا المسيحية».
قرأ عون في عقله الاستراتيجي أنّ الخيار الأفضل هو بالتحالف مع حزب الله، ووجد في حزب الله متكأ وطنياً وأوراق قوة ستدخله الى السلطة. أما حزب الله فقام بمراجعة سريعة للتحالف الرباعي وأدرك أنّ مفاعيل تلك اللحظة وقتية وليست استراتيجية، فسارع إلى خيار أكثر انسجاماً مع الذات فوجد في التفاهم مع البرتقاليين فرصة سانحة للاتفاق مع شريك مسيحي لكسر الحصار المذهبي المفروض عليه، فكانت وثيقة مار مخايل في شباط عام 2006 مصلحة للطرفين على حدّ سواء، أهمّ محطة مرّت في السنوات العشر من حيث المواقف الاستراتيجية والوطنية، إذ أثمر التفاهم التفافاً عونياً حول المقاومة خلال عدوان تموز 2006 وبعده وأثبت عون لحزب الله أنه على قدر الطموح الاستراتيجي والأمل الذي راهن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عليه.
لم تهتز ثقة عون بحليفه المقاوم أثناء الحرب «الإسرائيلية» على لبنان، بقي على موقفه الصلب، لتشكل حرب تموز أول امتحان بالنار للتفاهم، بحيث نقلت العلاقة الى مستوى غير مسبوق بالذهاب الى خيارات وطنية كبرى، على رغم أنّ هذا التفاهم لم يؤدّ مفاعيله على صعيد المفاصل الداخلية، إذ بقي عون خارج السلطة، واشتدّ الحصار عليه مع استقالة الوزراء الشيعة من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة في تشرين الأول عام 2006، لتعزز تظاهرات وسط بيروت التي أقيمت على باب السراي الحكومية في 1 كانون الأول 2006 الشراكة بين التيار الوطني الحر وفريق 8 آذار بكلّ مكوناته، وتشكل تجربة الساحات والخيم أول تجربة انسجام للعونيين مع فريق 8 آذار.
تعززت العلاقة التحالفية بين عون وفريق 8 آذار مع تشكيل المحكمة الخاصة بلبنان، وانتهاء ولاية الرئيس إميل لحود في 23 تشرين الثاني من عام 2007 وبقاء منصب الرئاسة شاغراً مدة سبعة أشهر بسبب تعنّت تيار المستقبل في تلك الحقبة بانتخاب رئيس من 14 آذار مراهناً على الدعم الدولي الكبير الذي حظي به بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ما أدّى إلى تعطيل الانتخابات الرئاسية، لتصبح أكثر متانة مع قراري حكومة السنيورة في 5 أيار إقالة العميد وفيق شقير من جهاز أمن المطار وتفكيك شبكة اتصالات حزب الله واندلاع أحداث 7 آيار.
أثبتت الأحداث التي حصلت أنّ علاقة العماد عون مع حزب الله هي العلاقة الأكثر رسوخاً في تاريخ الحياة السياسية منذ العام 1943 حتى اليوم. فالتحالف الاستراتيجي والتكامل الوجودي لم تبدّده المشاكل الآنية المتعلقة بالتمديد للمجلس النيابي لولايتين أو لقائد الجيش العماد جان قهوجي، فكلاهما متفقان أنه مهما كانت الخلافات الداخلية أو الطارئة فهي لن تمسّ جوهر التحالف، كذلك الأمر بالنسبة للعلاقة مع الرئيس نبيه بري فالخلافات التكتيكية بين عين التينة والرابية مضبوطة تحت الرقابة، يمسك حزب الله كرة النار بين عون من جهة والرئيس بري من جهة أخرى، ويحاول ضبط ايقاع التباين لكي لا يقع في أزمة بينهما، وفي الوقت نفسه ترك لهما الهوامش التي لم تؤثر على جوهر العلاقة. فالتحالف هو تحالف استراتيجي على مستوى الخيارات الإقليمية بعكس المواقف المتباينة على مستوى لعبة السلطة، فمواقف بري لا تلزم عون والعكس صحيح، إذ لا يوجد موقف موحد سواء من قانون الانتخاب أو الحكومة أو المجلس.
وصلت العلاقة بين عون وحزب الله الى ذروتها في الدوحة. كسب الجنرال من اتفاق الدوحة الاعتراف به أنه مكون من المكونات الرئيسية في البلد التي لا يمكن تجاوزها داخل السلطة وخارجها، وانه يشكل حالة للبناء عليها سياسياً، قَبِلَ عون جراء المعادلة الاقليمية والدولية أن يلعب دور الرئيس الظلّ بناء على وعد الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي بقانون انتخابي عادل ويحقق التمثيل الصحيح.
كان الجنرال يظن أنه والرئيس سليمان في الخندق الوطني نفسه، غير أنّ خيبته كانت كبيرة من الأخير الذي قبل أن يتولى مهمة محاصرته بوكالة حصرية من تيار المستقبل. ذاق جنرال الرابية في السنوات الست من عهد سليمان الأمرّين، فهو موجود في السلطة، وفي الوقت نفسه لا يستطيع ان يفعل شيئاً، يتمثل بـ 10 وزراء في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، بيد أنّ هذه الحكومة كانت أسوأ من حكومة الرئيس سعد الحريري. دفع فاتورة التحالف الذي ضمّ سليمان والنائب وليد جنبلاط والرئيس ميقاتي ضدّه، ومنعه من التنعّم بالمواقع والمناصب التي حصل عليها. أبقى سليمان على سياسته العدائية له على رغم انتهاء ولايته، فوزراؤه كانوا خير تمثيل له في حكومة الرئيس تمام سلام في تعطيل وعرقلة أيّ قرار أو آلية يطالب بها وزراء تكتل التغيير والإصلاح، وكل ذلك لمصلحة تيار المستقبل، فاللقاء التشاوري وحزب الكتائب توحدا واتفقا لمنع امتداده في الفضاء المسيحي الوطني، ما جعل عون الذي قبل تسوية الدوحة على مضض، يقول أنّ الرهان على سليمان كان سقطة استراتيجية لن تتكرّر، ولهذه الغاية تتكثف اجتماعاته المعلنة والبعيدة عن الإعلام مع حزب الله الذي خاب أمله من الدوحة أيضاً درءاً لفتنة جديدة كما تقول مصادر الوطني الحر.
وإذا كانت حكومة الرئيس سلام ثمرة حوار عون الحريري، وأتت كإحدى النتائج الواعدة له، غير أنّ رئيس تيار المستقبل أخلّ بالتزاماته ولم تستكمل مسيرة شهر العسل، فكلّ ما وعد به تراجع عنه وأخلّ به لا سيما في ملف التعيينات الأمنية والعسكرية وفي الملف الرئاسي، على رغم كلّ محاولات عون مسايرة الحريري وفتح باب التفاهم معه والتضحية إلى حدّ ما بالجهود والإنجازات التي تمثلت في كتاب الإبراء المستحيل الذي عاد من جديد الى الواجهة مع نزول العونيين الى الشارع.
ينظر عون بمكيال واحد إلى سياسة القوى المسيحية في 14 آذار، غير أنه على رغم الثلاثين عاماً الحافلة بالتناقضات والصراعات الدموية والحروب الإعلامية مع القوات البنانية، قرّر التحاور مع رئيسها سمير جعجع، وشكل التقارب العوني القواتي خطوة وحيدة إيجابية على الصعيد المسيحي بين الأقطاب الموارنة، بغضّ النظر عن أنّ الحوار هدنة إعلامية ليس لها أيّ نتائج ملموسة. لقد حدّ إعلان النوايا من النزاعات الإعلامية المسيحية المسيحية إلا أنّ هذا التقارب المحدود الأبعاد لن يتحوّل إلى مشروع سياسي، فالمشكلة بينهما تكمن في قراءة متناقضة لما يجري في المنطقة لجهة تأثير ذلك على مسار الرئاسة الأولى، فـ»القوات» لا تزال تقرأ المعطيات على أساس الأهداف الغربية، أي إسقاط الدولة السورية ورئيسها بشار الأسد، الأمر الذي يرجح الكفة الرئاسية لصالح فريق 14 آذار، في حين أنّ العماد عون يقرأ المتغيّرات في صمود الرئيس الأسد والدخول الروسي بالمعركة ضدّ الإرهاب الى جانب محور المقاومة دعماً ومعنويات جديدة لصالح المحور الذي ينتمي اليه.
نجح عون في الاستراتيجيا وفشل في التكتيك، لم يحقق الكثير من التغيير والإصلاح الذي ينادي به، لكنه لم يدخل إلى نادي المحاصصة ولا أصبح من حيتان المال، لذلك اصطدم بجدران سميكة من الفساد تقف حداً فاصلاً أمام تفعيل عمل المؤسسات وإقرار قانون انتخابي يحقق العدالة وصحة التمثيل على المستوى الوطني بعيداً عن زواريب الطوائف والمذاهب.