غازي قهوجي… وداعاً!

شيّعت مدينة صور أمس الأحد، جثمان أحد أبرز أعمدة الثقافة والفنّ والأدب في لبنان، المفكر الدكتور غازي قهوجي، الذي خسرته الساحتان الثقافية والفنية اللبنانية أول من أمس السبت، إذ وافته المنيّة بعد صراع مع المرض.

شارك في موكب التشييع حشد من الوجوه الثقافية والأدبية والفنية والتربوية والاجتماعية، ورؤساء بلديات ومختارين، يتقدّمهم رئيس الحركة الثقافية في لبنان بلال شرارة ممثلاً رئيس مجلس النواب نبيه برّي، مدير عام الريجي المهندس ناصيف سقلاوي، مفتي صور ومنطقتها الشيخ مدرار حبّال، رئيس بلدية صور حسن دبوق ونائبه صلاح صبراوي وأعضاء البلدية، رئيس جمعية تجار صور ديب بدوي وأعضاء الجمعية، رئيس جمعية البرّ والإحسان حسين بيطار، رئيس دائرة أوقاف صور الشيخ عصام كساب، رئيس جمعية الوسط الإسلامي اللبناني الشيخ حسين اسماعيل، كما حضر ممثّلون عن جمعية متخرّجي بلغاريا.

انطلق موكب التشييع من منزل الفقيد باتجاه مسجد صور القديم، حيث أمّ الصلاة عن روحه المفتي حبّال وإلى جانبه كل من الشيخ اسماعيل والشيخ كساب ليوارى بعدها الراحل في الثرى في جبّانة صور.

غازي قهوجي، رجل المسرح الذي افتخرت به مدينته وأبناؤها المثقفون لِما حققّه على صعيد المسرح والشعر والنثر بالأسلوب الراقي الذي رفعه أعلى الدرجات في محيطه الفنّي، هو اللبناني الأول الذي نال إجازة جامعية في فنّ ديكور السينوغرافيا وعلم البصريات الفنيّة، وهو من مواليد عام 1944، وكان أستاذاً أكاديميّاً في الجامعة اللبنانية، والمشرف الفنّي لفرقة الرحابنة والسيّدة فيروز، ومؤسس الحركة الثقافية في لبنان، وكان يعدّ ويقدّم برنامجاً إذاعياً اسمه «قهوجيات».

غازي قهوجي حطّ رحاله وسار نحو الركب الأعلى، آخذاً معه جداريات المدينة بأحزانها وأفراحها، وتاركاً فينا ريشة خالدة كتب فيها أحلامه وحبّه، وجمالات قلبه.

يرحل غازي، وتطوي معه صور صفحةً مشرقةً من الرجال القلائل الذين ارتبطت أسماؤهم بِاسم مدينتهم.

كان شامخاً بقامته، راسخاً بأشكال حكاياته القديمة ومسرحه المزيّن بِابتسامات الخوالي، ودموع لن تغادرنا مع كل ذكرى جميلة.

غاب قهوجي، بوجهه الهادئ، وبمشيته الصامتة، وبابتسامته المشعة، وبظرفه وسخريته، ورجاحة عقله واعتدال فكره، وبشاشته وحضوره الذي ينضح عقله بتاريخ بيروت، وصيدا، وصور. ابن عدّة مدن غازي وأليفها، ورفيقها وحبيبها، في أوقات الشدّة والحروب، وفي أوقات السلم، إنما بهذا الحسّ المدنيّ العالي، وجمالياته وإبداعه، وتاريخ غازي، طفولته وشبابه وحتى رحيله، من تاريخ المدينة، بمراكز إبداعها وقامات مبدعيها، ورساميها ومسرحييها، وإعلامييها، وكتّابها. شارك في صنعها، وشاركت في تكوينه. أخلص لها وأخلصت له في عمقها الحضاري الاجتماعي الخلّاق.

كان قهوجي شريكاً وصديقاً للرحبانيَين الراحلَين عاصي ومنصور، ووضع تصاميم عددٍ من مسرحياتهما، سواء ما قدّم في بعلبك، أو في بيروت، أو في أمكنة أخرى. وعمل كذلك مع زياد الرحباني في مسرحيات متنوّعة، خصوصاً في بداياته، وقدّم تصاميم سينوغرافية لمسرحيتين أخريين ليعقوب الشدراوي في «الطرطور»، ثم اشتغل بطريقة متواصلة في المسلسلات العربية واللبنانية، لا سيما تدريس مادة السينوغرافيا في الجامعة اللبنانية، وجامعة «القديس يوسف»، إلى أن نقل سخريته المرّة أحياناً، واللاذعة أحياناً أخرى، والظريفة البيضاء مراراً، إلى الكتابة. فراح ينشر إما دورياً، أو متقطعاً مقالات نالت إعجاب الناس والمثقفين، بخفّة ظل صاحبها، وبطراوتها، وبمألوفها، وغريبها، وطريفها، وجديدها، وتليدها.

فنان الجمالية في المدن، وفنان الحكاية، وفنان الرؤية، وفنان الفكرة والكلمة، وفنان السلم والجلسة في المقهى، والمشية في الشارع. كأنّما كانت حياة غازي قهوجي منذ السبعينات وحتى اليوم مشغولة بهاجس الابتكار والتجديد، زاخرة بالرؤى الجمالية، وبذلك الاعتدال في التعاطي مع الأمور الاجتماعية والسياسية، مع تمسّكه بمواقفه ومبادئه ومرتكزاته الفكرية والأخلاقية والوطنية والحياتية والعائلية. انسجم مع نفسه، ولم يقارعها أو يجالدها بتناقضات وتقلبات وتحزبات ضيقة وشلليات مغلقة.

انفتح قهوجي على كلّ ما يخدم الإبداع، من دون تزمّت ومن دون تعصّب، وكان جزءاً من تنوّع مذاقات بيروت وصور وصيدا. وفي مستويات كثيرة متصلة بالشأنين الإبداعي و الإنساني. ومن وفائه لإصدقائه وانتماءاته ومدنه، صاغ رؤية معتدلة لتعاطيه ولعلاقاته ولآرائه. اشتغل مع الرحبانيين وقدّم ما يثري نصوصهما المسرحية والموسيقية والغنائية في جمالية تصاميمه وعمقها درامياً واستعراضياً وكوريغرافياً.

وهذا ما فعله مع يعقوب الشدراوي، إذ ابتكر في مسرحية «الطرطور» سينوغرافيا طالعة من عمق الرؤية النصية والإخراجية، لتصير جزءاً أساسياً معبّراً عن مناخاتها ومدلولاتها. والسينوغرافيا جمالية المدلول واللون والشكل والنصّ. وكاتباً، عرف كيف يصوغ أسلوبه الخاص، الجامع بين البسمة الرحبة والسخرية المبطنة.

وقد نعت رئيسة الهيئة الإدارية للجنة الدولية لمهرجانات صور رندة عاصي برّي، والهيئة الإدارية في الحركة الثقافية في لبنان، الفنان غازي قهوجي، وتقدّموا من عائلته وأهالي صور والنقابات الفنية، بأحرّ التعازي. كما نعى معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، قهوجي، الأستاذ السابق في المعهد. واعتبر رئيس الجامعة اللبنانية الدكتور عدنان السيد حسين، أنّ خسارة قهوجي، هي خسارة أكاديمية وفنية، نظراً إلى الإرث الفنّي الغنيّ الذي تركه الراحل الكبير.

كتب الراحل مقالات عدّة في صحف لبنانية وعربية، وعُرفت كتاباته بالساخرة، التي طاولت ظواهر عدّة، اجتماعية وسياسية وفنية. ما حدا بـ«هيئة الثقافة البلغارية»، أن تختاره كأحد أهمّ الكتّاب العرب الساخرين عام 2012، وسبق أن اختير الدكتور قهوجي من قبل مجموعة «أعلام من بلاد الأرز» عام 2013 من أهم الشخصيات الفاعلة في التعليم الجامعي الهندسي وفي التصميم المشهدي والسينما والتلفزيون.

وفي ما يلي، تعيد «البناء» نشر مقالين للراحل.

السيّد نعّوم الفصيح!

كنتُ في سنّ اليفاعة، عندما اختارني رئيس النادي الرياضي، الذي أنتمي إليه، لأن أكون في عِداد الوفد، الذي سيزور السيّد «نعّوم البهاليلي»، أحد المغتربين الذين استطاعوا جمع ثروة طائلة، بعدما أمضى في المهاجر النائية في أفريقيا، زمناً تخطَّى الخمسين سنة متواصلة من دون أي زيارة إلى أرض الوطن.

كانت زيارتنا إلى دارة السيد «نعّوم» التي تمّت بناء على موعد مسبق، تهدف «تكتيكياً» إلى أمرين متباينين، ليسا بالأهمية نفسها، هما: تهنئته بسلامة الوصول من المهجر إلى كَنَف عشيرته، وإلى من تبقَّى من أهله وأقاربه وأنسبائه.

ثمّ ـ وهذا هو الهدف «الاستراتيجي» ـ الطلب من حضرته بأن يقدّم للنادي مساعدة ما، والأفضل أن تكون مادّية ـ ماليّة ـ وكما أخبرنا كل من زاره قبلنا واستمع إليه، أنه من الأشخاص معدومي الثقافة، على «تَيْسَنَةٍ» واضحة، ترفدها ادّعاءات معرفيّة هشّة، وإصرار كبير وعناد أكبر على التخاطب باللغة العربية الفصيحة!

هذا إلى جانب تمتّعه بلكنة صوتية «مطعوجة»، ترافقها «خَنَّة» مُزمنة تنطلق كموسيقى تصويرية لملافظه وألفاظه! يُتوّجها جهل فطري في جوهر الكلام ومعناه وتركيب العبارات.

وكان كعددٍ من أبناء جلدتنا، ممّن أصابوا ثروات هائلة من دون أن يغتربوا، ويضربوا في أربع رياح الأرض! والذين ظنّوا ويظنّون أنّ المال يمنحهم ويهبهم «الشهادات والدبلومات»، لأن يكونوا عباقرة العصر في كل الأمور والشؤون والشجون.

دخلنا إلى البهو الكبير، وكان السيّد «نعّوم» جالساً في الصدر، ومن حوله رهط من المزارعين البسطاء المذهولين بحديثه عن مغامراته في الأدغال، وعراكه مع أشرس الحيوانات، وتآلفه مع كل فصائل القرود وأنواعها!

وما إن لمَحَنا، حتى وقف بقامته المربوعة المربّعة، إذ بَرَز «كرشُه» إلى الأمام، فسلّمنا عليه، واستسلمنا لمناخ حضوره، لأننا «طُلّاب حاجة»! بعد السلام، ساد الصمت للحظات، ما لبث رئيس الوفد أن قطعه وباللغة العربية الفصيحة قائلاً:

«سيّد نعّوم، الموفور الاحترام، حفظكم الله، وجعلكم عَلَماً يُشار إليه بالبنان والراحات المفتوحة الممدودة نحوكم بالدعاء، وبدوام جودكم وكرَمكم، وكما قال الشاعر:

هو البحرُ من أيّ الجهات أتيتهُ

فلجّتهُ المعروف والجودُ ساحلُه

تعوّدَ بَسْطَ الكفّ حتى لو أنّهُ

ثناها لِقبْضٍ لم تُطعهُ أناملُه».

ثمّ أَكملَ كلامه سائلاً: «هل كنتم سيّد نعّوم طوال فترة اغترابكم تتاجرون؟ أو، بماذا كُنتم تتعاطون؟».

وبشيء من العنجهية الساذجة أجاب «نعّوم»: «نعم نعم أيها الأستاذ وألف نعم كنّا «نتاجرون»! ويا ما يا ما كنّا نفلحون ونزرعون ونحصدون»!

في تلك اللحظة، انتفخت الخدود، واحمرّت الآذان من جرّاء ضغط الضحك في الأفواه والحناجر على هذه اللغة، فخيّم سكوت عجيب غريب مريب أخفى ذاك الضحك الخبيث المفخَّخ، الذي ما لبث أن انتبهَ السيد «نعّوم» إليه، واعتبره نوعاً من الاستهزاء والمسخرة!

هذا، إلى جانب استشعاره عن «قُرب» بأنّنا من صنف «الشحاذين» المتعلّمين! فجابَهنا برفض مدّ يد العون والمساعدة، وقال بلغة عربية «جديدة»، فيها كل دلالات الاستنكاف والرفض مع «خنّة» الصوت: «يُفشَل، وليس يوجد اطلاقاً بتاتاً قطعياً فقط»!

وعلى إثر هذا الكلام، انفجرت كلّ عبوات الضحك المفخَّخة! ومن دون وداع خرجنا خائبين من دار «سيبويه»، تلاحقنا شتائمه وبأكثر من لغة فصيحة!

«أجدَبْ هوّز…»!

من المعروف أكاديمياً، أن اللغة هي الوسيلة الفضلى والمثلى، التي تحقّق التواصل بين البشر، وأثبت مرور الزمن لزوم وجود اللغة كحاجة وضرورة في شرح القصد وتوضيح المقصود، هذا إلى جانب الحتمية في ممارسة الاتصال بالآخر، حتى لو كانت اللغة «إشارية» باليدين وعضلات الوجه والعينين، أو كانت «دلالية» مختزلة برموز وصوَر وإيماءات.

وعبر آلاف السنين، غطس علماء اللغة واللهجات في هذا الأمر الشائك، وغاص جهابذة «الألسنية» والنحاة عميقاً في الجذور بهدف الإمساك بـ«سنسفيل» إرَم آلاف اللغات لتحليلها ولملمة مفرداتها كافة. وجاءت حصيلة جهودهم المضنية، لتقول إن اللغات المنطوقة وغير المنطوقة على حدّ سواء، ليست وقفاً وحكراً على «بني آدم» الميامين، وإنما هي موجودة منذ بدء الخليقة في عالمَي النبات والحيوان، وأن عالمنا البشري ينضح ويفيض بمئات الألوف من اللغات التي يسعى أولو الأمر والثقافة والآداب إلى بذل أقصى الجهود لحمايتها والمحافظة عليها من الضياع والانقراض، وذلك لما تحمله من المزايا والأمور المرتبطة بالتجمّعات الضاربة في عمق الزمن، وبالمجتمعات والمدنيات الغابرة. وأشار تقرير إحصائي للأمم المتحدة إلى أن المكسيك تحتضن ـ وحدها ـ حوالى 350 لغة محلية! وأن نحواً من العشرين منها على طريق الانقراض! وأضاف التقرير بلغة شبه «جنائزية» ملؤها الأسى، أن لغة من اللغات على كوكبنا الدريّ تختفي كل أسبوعين تقريباً! وأن إحدى اللغات المحلية في جنوب المكسيك مهدّدة اليوم بالزوال، لأن الشخصين الأخيرين الذي ينطقان بها تخاصما بشكل عنيف! ورفض كلّ منهما بعناد بلغ حد «التتييس» التحدث إلى الآخر! ونقلت هيئة الإذاعة البريطانية «B.B.C» هذا الخبر على لسان رئيس المعهد المكسيكي للغات المحلية، فقالت: «إن رجلين تجاوزا السبعين من العمر، تلاسنا وتشاجرا لخلاف على أمر تافه، وما عادا يتحدثان مع بعضهما بعضاً بلغة الزوك التي لا يتحدّث بها سواهما! ويحاول معهد اللغات هذا بكل أنواع المغريات والحوافز لتشجيع السكان المحليين على تعلّم لغة الزوك غير المكتوبة والتحدّث بها، آملاً من الرجلين أن يتصالحا ويتوافقا ويتحابّا ليعلّما أفراد عائلتيهما هذه اللغة ـ على الأقل ـ وذلك حفاظاً على هذا الموروث الشفاهي النادر، على اعتبار أن انقراض وفناء هذه اللغة سيقطع الحوار في تلك المنطقة، وسيسمح بدخول لغة ثانية غير الأصلية تحمل منطقها وقانون تركيبها وقواعده، إضافة إلى مناخها وخصوصيتها. لذلك فإن السلطات المكسيكية جادّة إلى أبعد الحدود في إجراء مسألة الصلح والوفاق بين الرجلين، وذلك بهدف إرساء الاستقرار وتعميم المشاركة وتشجيع حركة الوصل والتواصل والحوار».

ومنذ سنوات، واللبنانيون ـ ما شاء الله ـ يتكلمون بكل لغات الأرض: البشرية، النباتية، الحيوانية! وبجميع لهجاتها ولكناتها وتَوْرياتها وألاعيبها، وقد هجروا طوعاً لغتهم «التواصلية»، وأصبح كلّ فريق منهم يغنّي على «ليلاه» ومن أجل «مولاه».

وبالاستناد إلى التقرير آنف الذكر الذي يقول: «إن لغة من اللغات على كوكب الأرض تختفي كل أسبوعين تقريباً» فإن البلد المنتفخة أوداجه بجميع أصناف الخصام «التيسوني» والعراك «الجحشوني» والتناحر «البغلوني» سيفرط في أقل من أسبوعين! وسينعى العالم كله لغة لبنان التعدّدية!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى