روسيا: واثقة الخطى نحو نظام عالم الأقطاب

وليد زيتوني

دشّن التحرك الروسي الأخير إلى سورية، بداية الخروج من مخاض ولادة نظام عالمي جديد، إلى عالم متعدّد الأقطاب. بعد أن وضعت الولايات المتحدة يدها بشكل منفرد على النظام السابق لمدة ربع قرن بالتمام والكمال. لقد كانت الولادة عسيرة مع ما تحمل من مضاعفات باعتبارها قامت في رحم مشروع الولايات المتحدة الأميركية الإقليمي المتمثل بالشرق الأوسط الكبير.

لقد كانت النقلة الاستراتيجية الأساسية في المكان والزمان الصحيحين، رغم المناورات الأميركية المتعدّدة على الأجنحة في كلّ من أوكرانيا واليمن، ومع ذلك لم ينجرّ الروسي إلى التوقيت الأميركي ولا إلى الزمن الأميركي، بل هو مَن حدّد الزمان والمكان الصالحَيْن، طبعاً بالتنسيق الدؤوب والتشاور مع الحلفاء في الصين ودول «بريكس».

لقد صبرت روسيا طويلاً حتى نضجت معظم العوامل الملائمة لضربتها الكبرى. لقد صبرت حتى استبدلت منظومة أسلحتها الموروثة من أيام الاتحاد السوفياتي برياً وبحرياً وجوياً. وصبرت حتى استنزف العالم خطة أوباما في «حربه على الإرهاب». وعضّت على جرحها في ما خصّ انخفاض أسعار النفط، لأنّ الانخفاض الذي فرضته الولايات المتحدة لمعاقبة روسيا وإيران ارتدّ سلباً على صندوق الولايات المتحدة المتمثل بدول الخليج العربي كمموّل أساس لحرب أميركا الناعمة. لقد انتظرت روسيا طويلاً حتى غطس حلفاء أميركا في اليمن وأوكرانيا وشمال أفريقيا في حروب قد تدوم وتدوم حتى قيام النظام العالمي الجديد. وانتظرت حتى توقيع الاتفاق النووي بين إيران والدول الغربية. وراهنت روسيا بشكل أساس على صمود الجيش السوري الأسطوري وعلى الشعب السوري في الحرب العالمية التي شُنّت عليه.

وانتظرت حتى بلوغ الصين عتبة الصدارة في الاقتصاد العالمي في منافسة واضحة وحادّة للولايات المتحدة الأميركية والتعاون الوثيق مع دول «بريكس» لتشكيل حلف اقتصادي، وبالتالي سياسي وعسكري لمواجهة منظومة النهب العالمية.

في الواقع لا يمكن الحكم على الأداء العسكري الروسي في سورية انطلاقاً من البدايات، غير أنه ومنذ اللحظة الأولى عرّى وبشكل واضح كلّ ادّعاءات الإدارة الأميركية، وخططها لمحاربة الإرهاب، وأثبت بصورة قاطعة أنّ هذا الإرهاب ليس صنيعة الولايات المتحدة وحلفائها فقط وإنما هو الأداة المباشرة، والجيش السري لتنفيذ حربها الناعمة على دول المنطقة وربما العالم. وإنّ الولولة والصراخ والتصريحات النارية والخطابات الاسترحامية لاوركسترا التبعية، بدأت قبل البدء بالعمليات الفعلية على الأرض. وإنّ القول بأنّ التدخل الروسي سيستدعي المزيد من الإرهاب إلى المنطقة ليس إلا تبريراً مسبقاً لزجّ قوى إرهابية إضافية ومحاولة أخيرة لتحقيق توازن في غير محلّه وأوانه.

لقد أجهض الدخول الروسي العسكري على خط الأزمة في سورية الحرب الناعمة غير المكلفة بشرياً ومادياً للولايات المتحدة ووضعها أمام خيارات جديدة. إما التدخل عسكرياً وبشكل مباشر وهي غير قادرة على تحمّل هذا التدخل حالياً، انطلاقاً من وضعها الاقتصادي المتردّي من جهة ونظراً لعدم قدرتها على صوغ استراتيجية بديلة عن استراتيجية أوباما – رايس في المدة المتبقية من ولاية أوباما الحالية. وإما القبول بالوضع الراهن على قاعدة حرب باردة ذات وتيرة خفيفة لمشاغلة الوجود الروسي في المنطقة. غير أنّ الخيار الأخير أيضاً سيفسح المجال للروسي العازم على إنهاء الحرب بسرعة لتركيز قواه خارج الجدار الصاروخي الأميركي. كما سيسمح للصين بكسر جدار التطويق العسكري الأميركي لها تمهيداً لضربها اقتصادياً وعسكرياً من الداخل. ربما هذا يفسّر إرسال قوى بحرية صينية إلى شرق البحر الأبيض المتوسط.

فالدخول العسكري الروسي إلى سورية ومن ثم إلى العراق لاحقاً سيؤسس لحلف عسكري إقليمي دولي رباعي يمتدّ من إيران إلى الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط. هذا الحلف يقف سداً منيعاً في وجه حلف النهب على المسرح الاستراتيجي الوسيط، وبالتأكيد سيقيّد حركة قيادة المنطقة الوسطى الأميركية. وعليه سنشهد حراكاً أكثر سخونة وربما أكثر فعالية على الساحتين العراقية واللبنانية.

وفي الخلاصة نستطيع الجزم بسقوط نظرية «الفرد ماهان» البحرية لمصلحة نظرية «سميرنوف» القائمة على تغيير المعادلة الاستراتيجية استناداً على القوى الجوية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى