هل تبدأ الحرب العالمية الثالثة في اللاذقية؟
خضر سعاده خرّوبي
على مدار الأعوام الماضية، لم يكن هناك ما يعكّر صفو اللقاءات الرسمية بين قادة روسيا وتركيا سوى غبار المعارك المتصاعد في سورية. هناك، لم يكن للأميركي وحده، من بين القوى الدولية، تحديد قواعد اللعبة ورسم الخطوط الحمر. فالقيادة الروسية كانت لها حساباتها على أرض «الحليف القديم»، وخطوطها الحمر أيضاً. وقد مثّل التمادي التركي خلال الأسابيع الأخيرة في مناطق الشمال السوري، ولا سيما في إدلب وجسر الشغور، تجاوزاً لها على نحو دفع موسكو منذ ذلك الوقت إلى وضع مسألة تدخلها العسكري على الطاولة، تمهيداً لوضعها في الأجواء كما يجري الآن، وربما في الميدان لاحقاً، كما يتوقع البعض.
وفي كلّ مرة تقابل فيها الزعيمان الروسي والتركي، ترقّب العالم دخاناً أبيض، لعله يتصاعد من إحدى قمم بوتين ــــ أردوغان، إلا أنّ العقل الاستراتيجي الروسي البارد لم يفلح في إقناع الأتراك بجدوى الإقلاع عن سياساتهم تجاه سورية، كما لم تساعد انتهازية أردوغان الحارة على الرفع من حظوظ الأخذ والعطاء مع موسكو لتخفيف اندفاعته تجاه دمشق، لأسباب شتى، منها أنّ الأخير نصّب نفسه سلطاناً على الأزمة.
لطالما شكل الحفاظ على حزمة التباينات بشأن الأزمة السورية، والاحتفاظ المتزامن بحقيبة المقاولات والمشاريع الاقتصادية المشتركة إحدى أبرز العلامات الفارقة المميزة في العلاقات المثيرة للجدل.
في الواقع، وكما تنقل بعض التقارير، فإنّ غزل موسكو لأنقرة أزعج أحياناً بعض أحبابها كطهران، التي انتهجت سياسة «الحرد المكتوم» حيال تطورات العلاقة التركية ــــ الروسية. وبدا تزامن التحليلات الغربية حول سيناريوات استبدال الأوروبيين موسكو بطهران غازيّاً، على المديين المتوسط والبعيد عقب الاتفاقات النووية مع إيران، أحد الحوافز من أجل دفع روسيا الغالي والنفيس في سبيل تطوير العلاقة مع الأتراك والبدء معهم بمشروع «تركيش ستريم» الذي من المفترض أن تنقل عبره إمدادات الغاز إلى أوروبا.
اليوم يبدو هذا المشروع مهدّداً، ومع تصدر ما وصف بـ «المماحكة» التركية الروسية للأحداث، يبدو أنّ أفق العلاقات بين البلدين المرتبط بـ «تركيش ستريم» غير واضح، معطوفاً على حالة غياب الاستقرار داخل تركيا. في الرابع من تشرين الأول الحالي، حدث بين الروس وتركيا ما كان متوقعاً حدوثه بينهم وبين الأميركيين فوق سورية. مواجهة افتراضية بين طائرة مجهولة من طراز MiG-29 وعدد من طائرات F-16 تابعة لسلاح الجو التركي، وعلى الأثر، تداعت تصريحات المسؤولين الأتراك.
على المستوى السياسي، كان رئيس الحكومة التركية يُذكّر بـ «قواعد الاشتباك»، مؤكداً، في الوقت عينه، أن لا وجود لتوتر بين تركيا وروسيا في شأن سورية. فيما لم يبدُ بيان القوات المسلحة التركية مصدقاً رواية روسيا في شأن أحوال الطقس، بل أعطى إشارات حول وجود نية روسية مبيتة من وراء المواجهة الجوية مع أنقرة. وأبدت موسكو، من جهتها، استعدادها للحديث ليس فقط مع أنقرة، بل مع واشنطن أيضاً من أجل تفادي وقوع أي حوادث عسكرية في المستقبل، وهي إذ تجد دخولها ثقيل الوطأة على بعض القوى الإقليمية والدولية، فهو يوفر فرصة لعودة الحرارة إلى قنوات الاتصال بينها وبين الغرب، عسكرياً وديبلوماسياً، بعد تأزم على خلفية الوضع في أوكرانيا.
ربما تقف أنقرة هذه الأيام على قارعة طريق الانتخابات البرلمانية المقبلة، والأجواء الميدانية الحامية فيها على خلفية الحرب ضدّ حزب العمال الكردستاني لا تبدو مؤاتية لتفجّر الأوضاع بين القوات الروسية والتركية. إلا أنّ الرئيس التركي الذي بات يهوى «أدوار البطولة» الحربية من أجل شحن الشارع التركي، لمصلحة مكاسب انتخابية وحسابات سياسية ضيقة، يراهن عليها في الفترة المقبلة قد يحاول الاستفادة مما جرى، لا سيما حين أشار، بنبرة تحذيرية، إلى تبعات خسارة روسيا صداقة بلاده. من هنا، فمن غير المستغرب أن يستغل أردوغان حادثة «الطائرة المجهولة» في حملة تصعيد إعلامي وسياسي ضدّ روسيا، أما قرار التصعيد في الميدان، فيدرك كثيرون أنه قرار «ناتوي» أكثر منه تركي.
نبرة التصريحات العالية على الجانب الأطلسي تعكس حالة من عسر الهضم الاستراتيجي للواقع الإقليمي الجديد المتسارع الخطى لواقع إقليمي جديد تحاول روسيا وضعه على السكة، في إطار حربها الجدية على الإرهاب، وليس اللعب على حباله كما تفعل واشنطن منذ عام. فحلف «ناتو» الذي سحب بطاريات صواريخ «الباتريوت» من تركيا قبل فترة وجيزة، يعقد العزم أيضاً على ترتيب قواعد اشتباك جديدة مع روسيا وعدم ترك المبادرة لها بعد انخراطها عسكرياً في الحرب ضدّ الجماعات الإرهابية في سورية. أما بعد الاشتباك الافتراضي الأخير، فربما يكون الوقت مناسباً لذلك من البوابة التركية، وقد يحتاج الأمر إلى شيء من التصعيد. الجميع يحسب ويتحسّب للفترة المقبلة، فهل تُحلّ عقدة الصدام الدولي في سورية، أم أنّ خطأ في حسابات اللاعبين هناك سيترتب عنه الأسوأ؟
يروق للغرب أن تكون الحملة الروسية على الإرهاب في العالم بشكل عام، وفي الشرق الأوسط تحديداً، مأزقاً يستحيل معه النجاة. ولكنه في الوقت عينه يشعر ببالغ القلق من أنّ تحوّل روسيا ما يُخيّل إليهم على أنه ورطة إلى فرصة ولا في الأحلام لتثبيت المواقع وفرض الوقائع.
فهل ستبدأ الحرب العالمية الثالثة في اللاذقية كما تساءلت صحيفة «برافدا» الروسية قبل نحو أسبوعين، أم أنّ زمن التسويات يقترب؟