«العربة الرمادية» لبشرى أبو شرار عندما تنمو الرواية في الذاكرة

يوسف حطّيني

«هل صار حزني مادةً للكتابة»؟

سؤال تضعه الساردة أمام القارئ في رواية «العربة الرمادية» للروائية الفلسطينية بشرى أبو شرار، تاركةً له أن يبحث عن الإجابة في تضاعيف رواية تُظهِر، منذ صفحاتها الأولى، ولعاً بكل ما هو ماض، ولعاً يمتد مسايراً للألفة، منطلقاً من السيارة الرمادية ذاتها، إلى الحقيبة القديمة، إلى السرير المتهالك، مؤشراً إلى غربة نازفة، ووطن يعيش في الوجدان، وينتمي إلى زمن مفقود.

«العربة الرمادية» هي العنوان، وهي الرمز لكلّ مفقود، ولكلّ شيء يمرّ عليه الزمن، حتى للشخصيات التي فقدت الساردة تفاصيلها، مثل صديق المدرسة والطفولة أنطون عيّاد الذي أضاعت السنوات ملامح براءته الأولى. تلك العربة التي خرجت من حياتها، ولم تخرج من قلبها، فقد كانت الملاذ في الصقيع وتحت زخات المطر: «عربة رمادية غادرتني، وأخذت معها بهجتي وزهو أيامي. كلما مرّ بي يوم يسكنني يقين لا يغادر أنني رحلت يوم رحيل عربتي الرمادية». العربة التي تحتل العنوان تشغل مساحة معتبرة في النص الروائي إذ تحضر متكررة، ملحّة، رامزة من خلال تفصيلاتها المختلفة المجلة، المذياع، صورة نجيب محفوظ . إلى زمن هارب من الذاكرة، مثلما يهرب الماء من بين الأصابع، لذلك كان طبيعياً أن تشعر الساردة بالغربة عن سيارة ابنها التي تقودها، وكان طبيعياً أيضاً ألا تفكّر أن تضع كتاباً أو صورة لنجيب محفوظ فيها، فـ«المكان لم يعد لي»، كما تقول، ولا أدري لماذا تقفز بي لغة المكان نحو فلسطين، حيث البيت في دورا لم يعد للساردة ولا المؤلفة، وحيث البيت في غزة أضحى حلماً بعيد المنال، وحيث البيت في عمّان أضحى كبيت الأشباح. هي هجرة أخرى إذن، ولن يهدأ الحنين إلا عند العودة للبيت الأول الذي شكّل كينونتها الأولى.

فإذا جاوزنا العربة الرمادية إلى ما حولها وجدنا الكاتبة تهتم بتأثيث كل ما هو قديم، وكل ما هو ماض، لتدخله من خلال مختبرها السردي إلى لاوعي البطلة لتنداح مشاعرها الفياضة، وتتفرع أغصاناً على شجرة الوجع، ويصبح قرط أمّها القديم والسرير المتهالك الذي ينخره السوس، والأريكة التي تئنّ حناياها، حوامل ذات بعد ماضوي أثير، وتصبح الحقيبة القديمة كياناً أليفاً، في مواجهة حقيبة جديدة لا تعني سوى الاغتراب عن الذات والآخر:

«تخايلني حقيبة يدي القديمة، وشوق لتمرير أناملي على جلدها الناعم الذي حفظ مسامات يدي ورائحة ملابسي. حين أضمها إلى صدري، وألقيها على كتفي، تطير معي لكلّ مكان، أمدّ يدي لجيوب خفيّة، من دون أن أنظر لمستقر لها. أما ما أحمله هذا المساء فهو حقيبة جديدة لامعة، ولكنها تجهلني وأنا أجهلها، تراودني فكرة حين أصل إلى البيت أن ألقيها وأفرغ ما فيها، وأعيد حقيبتي القديمة إلى كتفي لتطير معي من جديد».

مثل هذا الشوق إلى الماضي والتشبث به، على رغم الإحساس الطاغي بأنه ضاع في زحمة الزمن، كما ضاعت دورا ووادي التفاح، ولّد في النص إيقاعاً عالي النبرة، هو إيقاع الفقد الذي يحكمه خوف من الزمن تسوّغه الكاتبة بفوبيا التلاشي في العدم: «أمي وأمها، أنا وابنتي، جميعنا نقبض على الخيط ذاته غير المرئي لزمن يمضي بنا على ساعة الوقت، نتحايل عليه، نستحلفه لأن يبقى فلا تتلاشى أرواح أو تفنى أجساد»»

وقد تبدّى هذا الفقد بشكلين أساسيين تجاه الشخصيات فقد تَرحل الشخصيات أو يُرحل عنها، إلى مكان ناء، كما بالنسبة لجارة الشقّة وأنطوان عيّاد، وقد ترحل نحو عالم الأبدية، على نحو ما نجد في موت الفرخ الجديد في القفص، وفي موت زوجة بائع الجرائد، وصديق الساردة، وجدّتها وأبيها وأمّها، وإن كانت ذكرى الراحلين الثلاثة الأخيرين حاضرة دائماً، فالجدة تحضر من خلال حكاياتها المتوارثة، والأب من خلال عطائه، فيما تحضر الأم من خلال أشيائها التي لا تموت: «رحلت أمي وبقي شالها».

وفي كلتا الحالتين لا يغني الحاضر عن الغائب، ولا يسعى الأشخاص المحيطون بها إلى كسر حدة التشبت بحاضر لا تستسيغه ذاكرة الساردة، ولا تتآلف معه، فالزوج يحبّ التغيير، تغيير البيت والسيّارة ورفيقة الفراش، والابن لا يحب البيت الذي تقيم فيه الأسرة لأنه متهالك وقديم، أما البنت فتتأفف من حكايات معادة مكرورة، على رغم أنّ أمها تجد نفسها وأهلها ووطنها في تلك الذكريات.

في هذه الرواية، لا تقدّم الروائية الحدث في ذروة نمّوه، ولا في سعيه نحو النمو إذ ليس ثمة شخصيات تتجه به من نقطة بداية الحكاية إلى نهايتها على المحور الأفقي للحدث، ولكنّ الذي يتم ويتطور إنما يفعل ذلك في داخل الشخصية الرئيسية، عبر حفر عمودي، يضع القارئ أمام مجموعة من المحطات الحدثية التي تنتمي لذاكرة البطلة الساردة، ويلقي في مواجهته مجموعة من الشخصيات الهشة التي تظهر على مساحات السرد مثل ندف الثلج، إذ لا يبقى من هشاشتها إلا إيقاعات حزنٍ متوالية، تُجذّر الإحساس الرئيسي الذي تسعى الكاتبة إلى ترسيخه، بوصفه معادلاً للساردة ذاتها، وهو إيقاع الفقد الذي أشرنا إليه، بوصفه ناجماً عن الإحساس بالضياع نتيجة عيشها في زمن ومكان لا تنتمي إليهما إلا بجسدها، بعدما غادرت الروح نحو زمن ومكان موغلين في الألفة والبعد.

ولا توارب الروائية نفسها، ولا تختفي خلف مقولات الساردة، بل تندمج معها منذ اللحظة الأولى، وإذا كان النقد يسعى إلى الفصل بين السارد والروائي، فإن بشرى تسعى إلى التماهي بينهما منذ عتبة الإهداء، فالإهداء يأتي على الشكل التالي: «إلى روحي التي هناك… إلى روح غيّبها رماد الأرض»، وهذا الإهداء كما هو واضح يحيل إلى الرمادي الحاضر في العنوان مثلما يحيل إلى الـ«هناك» في الماضي في مواجهة الـ«هنا» في الحاضر.

وبين الـ«هنا» المنفى الحاضر: الأردن ـ مصر ـ النمسا ـ فرنسا ـ الخليج والـ«هناك» الوطن الماضي: دورا ـ غزة تنوس تفاصيل العمر، وتتسرب السنوات من محيط الذاكرة.

غير أن الأمل يحيا في كل مرة بوساطة استرجاع الـ«هناك»، عبر «براعم ستكبر في محيط نافذتي»، وعبر عشبة الميرمية التي «تزيل أوجاع المعدة، وتهدهد منامات صبيتي، عشبة أعرفها وتعرفني»، وعبر فاكهة المشمش التي تأكلها ابنتها في فرنسا، فتنهض صورة الوطن من أعماق الذاكرة: «عادت الصورة تنهض من قاع ذاكرتي، تكبر أمامي: المشمش ونوى كنت أحتفظ بها في قبضة يدي الصغيرة، أحفر الأرض وأدفن النوى ظنّاً مني أنه سيكبر ويصير شجرة وارفة. المشمش في وادي التفاح حيث مدينتي البعيدة، وظلال ضمّتني وحنت على روحي من وهج الشمس».

بشرى أبو شرار تجرّ «العربة الرمادية» باتجاه الوطن، فيما يحاول الآخرون إبعادها وإبعاد عربتها عن الاستمرار في ذلك الطريق الطويل.

كاتب فلسطينيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى