مدينتي هويتي… القامشلي نموذجاً 2/2

نظام مارديني

الإهداء إلى «زكي نظام الدين وحنا ايشوع وصالح العمر»

كيف تتسنى لنا متابعة تطوّر مدينة كالقامشلي وتنميتها في ظل الحياة المعاصرة؟ وكيف يمكن تذليل الصعاب وكشف المعوقات التي قد تحول دون تطورها وازدهارها؟ والسعي إلى تقديم الحلول التي يمكن أن نتفاعل معها في مجال تنميتها، وننتظر أن يكون مستقبلها أكثر إشراقاً وازدهاراً وتطوراً؟

من المفيد أن يكون تغيُّر هوية المدينة بطيئاً عبر الأجيال، لتبقى في استقرارها النسبي بيئة حاضنة لمواطنيها، ومُسهمة في بقائها ونقائها لكي لا تكون بيئة طاردة. بمعنى أنه لا بد من إيجاد تنوع واختلاف يكون مصدر ثراء في تكوين مثل هذه البيئة الحاضنة التي تنهض عليها المدن كالقامشلي التي تمثل لسورية الهوية التاريخية الخاصة بها فهي جزء من شخصية هذه الدولة أمام العالم الخارجي. ولعلنا هنا نتذكّر مشروع ما سُمّي بـ «الحزام العربي» في العام 1974، وهو جغرافياً بطول 275 كم، وعمق يتراوح 10-15 كم، استوعب عدداً من العائلات المستقدمة والتي وثقت رقمياً بحوالي 4000 أربعة آلاف عائلة من ريف الرقة، بعدد سكان إجمالي يقدر بأربعين ألف نسمة، أما مجموع القرى المتضررة داخل مشروع الحزام فبلغ 335 قرية، بتعداد سكاني تجاوز حينه مئة ألف نسمة. شُيّدت في هذا المشروع عدد من قرى الغمر بلغ عددها 36 ستاً وثلاثين قرية بين 1974 – 1975. وقد أطلق على عملية التعريب الممنهجة هذه الشاعر والروائي السوري سليم بركات من القامشلي ، بـ «تشريد المكان». ومنطق «الحزام العربي» يقيم دولة المكوّنات لا دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية وهو يضع حدوداً «جغرافية» ونفسية بين النسيج الشعبي في تلك المنطقة، ويمثل دعوة من حيث لا تدري السلطة إلى تكريس حالة الانقسام داخل المجتمع السوري. وليس غريباً هنا التشابه بين منطق السلطة هنا مع منطق السلطة العراقية أيام حكم الرئيس الراحل صدام حسين في مسألة كركوك. وهكذا فمن يريد أن يقتل وطناً ليس عليه سوى أن ينتهج هذا المنطق القسري نظاماً سياسياً يحكم به البلاد. ولعل التداعيات السلبية لهذا النهج نتلمس ظواهرها الآن في المدينة ما بعد تفجير الأزمة في سورية، كما تلمّسنا تداعياتها في كركوك بعد الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003، هذا الاحتلال الذي أدى إلى تفكيك نسيج المجتمع في العراق باسم الحرية، ولعلنا هنا قول الروائي توني موريسون في روايته «العين الأكثر زرقة»، حيث قال: «كنا نتوهّم العنف شغفاً، ولم نميز بين العطالة والراحة واعتقدنا أن التهوّر هو الحريّة».

من الضرورة التأكيد أن مدينة القامشلي ظاهرة إنسانية تشكلت صورتها من خلال مزيجها الاجتماعي وتفاعل جماعاتها لذا فإن ما تحمله الصورة عنها يعكس تماماً طريقة التفكير في إنتاج هذه الصورة، خصوصاً أن للمدن دوراً مهماً جداً في تكوين شخصياتنا كأفراد وجماعات، فهي فضاء صقل للهوية الفردية وكذلك الجماعية بالدرجة الأولى. وعليه فالموقع الجغرافي للمدينة، مناخها، عدد سكانها، المستوى الثقافي لهذا المتحد، المؤسسات الثقافية والإدارية والسياسية الموجودة فيها، الأسواق والدروب والأحياء والملاعب والحدائق.. كلها محددات لشخصية ابن المدينة ـ المتحد، وللمقيم فيها وللهوية الجماعية لقاطني هده المدينة. وبذلك تبقى القامشلي، كما هي الشأن لدى الكثير من المدن، مدينة وهوية في الوقت نفسه.

ولما كانت ولكن من الضرورة رؤية أن بنية مجتمع القامشلي لا تزال بنية بطركية بامتياز تحمل الطابع القروي والقيم الريفية في العلاقات وفي التصورات، فإن مفهوم «الثقافة الوطنية» لم يبرح يعاني تطفل مظاهر تلك «الثقافات الفرعية» للجماعات المذهبية والطائفية والإثنية، التي استمرت تتعاطى مع المفهوم بصيغة مخلفات فولكلورية وترسبات مخيالية مؤرشفة في السيكولوجيا الاجتماعية ومخزونة في الذاكرة التاريخية. بحيث صعُب على مفهوم الثقافة الوطنية / السورية أن يستردّ عافيته ويستعيد شخصيته ويسترجع هيبته، عبر التخلص من زؤان تلك الثقافات التحتية المحشوة بالتخلف والمعبأة بالعنف.

ما يحيل المدينة إلى أشبه ما تكون بـ «المصهر الحضاري»، هو الإسهام بإعادة بناء شخصية الإنسان المديني بما لا يسمح لبقايا مخلفاته وترسباته الطوائفية والعرقية المتطرفة، أن تبقى عالقة في ذهنه ومتشبثة في وجدانه فلا تعيق عمليات نضوج وعيه وارتقاء ثقافته وتحسن سلوكياته من جهة. كما ويقوم، من جهة أخرى، على إلزام نسيجه جماعته بمراعاة انبثاق قيم جديدة مختلفة نوعياً عما كانت تعتقد وتراعي من مُثُل سيادة سلطة الدولة بدلاً من سلطان الإقطاعية، وفرض هيبة القانون بدلاً من سطوة العشيرة، وتثبيت مبدأ المواطنة بدلاً من نعرة الطائفة، وإحياء مشاعر الولاء للوطن بدلاً من الاحتماء بعصبيات عرقية أو مذهبية، والانتماء للجغرافيا الكلية بدلاً من الاتكاء على شظايا النزعة التفتيتية، وشيوع رموز الثقافة العليا بدلاً من ذيوع الثقافات الدنيا، الخ. وهكذا فالمدينة وفقاً لتصور الباحث الأميركي «بول كلافال» باتت «توجد طريقة جديدة للتأطير الاجتماعي . فهي تهدم كلياً الطرق التقليدية للحياة المحلية وهو ما لم تفعله الدول الأكثر قوة، وتحل بشكل أفضل محل الإقطاعيات القديمة».

فما هي يا تُرى تصورات المواطن في القامشلي فضلاً عن مواقفه، حيال مفهومه عن المدينة وطبيعة الدلالات التي تحملها له والإيحاءات التي تثيرها فيه؟!

بداية نقول إن مفهوم المدينة في عُرف الإنسان السوري فرداً أو جماعة ، لا يتخطى أعتاب تصورها كامتداد سكاني وكانعكاس قيمي لجغرافيات الأرياف والقرى التي ولد فيها وانحدر منها. فهي بالتالي لا تحيل على أية دلالة يفهم منها معنى التمدن و التحضر – كما لمسناه لدى الفاهمة الغربية – طالما أن هناك صراعاً قديماً ومتواصلاً من الكرّ والفرّ بين قيم البداوة ونظيرتها الحضارة، حيث أشار إليه مراراً وتكراراً العالم العراقي الراحل «علي الوردي» في سياق حديثه عن العراق، والذي طبع التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي للجماعات بطابعه الموسوم بالحساسيات والتوترات!

فالأمور هكذا جرت وتجري في جميع المجتمعات والشعوب، وهكذا تمّ نحت الخيارات عبر مختلف الأزمنة والعصور، إنما أسّ الإشكالية في حالة سورية والعراق سوراقيا يتركز في طبيعة العلاقات والذهنيات، وماهية القيم والرمزيات، وأنماط الأعراف والعادات، وخصوصية السرديات والاعتقادات، التي ينقلها معهم أولئك المعنيون بالهجرة إلى حواضر المدن، ليس فقط كخزين روحي وإرث تاريخي يجري تداوله بين أعضاء المجموعة المعنية فحسب، وإنما كقواعد موجّهة للسلوك مع «الآخر»، ومنطلقات محددة للتصرف مع «الغير»، وكمعايير ملزمة لتقييم الـ»هُم».

من هنا بدأ مسلسل المحن الاجتماعية والإحن السياسية بالاستطالة والتفرع لأكثر من مجال ومستوى وقطاع، وهو الأمر الذي وصفت أوالياته العالمة النفسية اللبنانية «كريستين نصار» بالقول «في الواقع ، تجلب الجماعات المهاجرة معها، دائماً، ثقافتها الأصلية إلى البيئة الجديدة التي تنتقل إليها فتعمد لدى وصولها لبعث المظاهر الخارجية لثقافتها، وتسعى جهدها لخلق ظروف مماثلة لتلك التي خلفتها وراءها في بلادها الأصلية، ولا تُدخل من التغييرات إلاّ القدر الذي تفرضه عليها بيئتها الطبيعية الجديدة وحتى المشكلات الجديدة الناشئة عن هذه البيئة، فإن كل جماعة تُحلّها بطريقة مختلفة تبعاً لثقافتها الأصلية».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى