حوار مع صديق عشيّة انعقاد الدورة 25 للمؤتمر القومي العربي في بيروت
معن بشور
سألني صديق ونحن على أبواب انعقاد الدورة 25 للمؤتمر القومي العربي في بيروت يومي 20 و21 حزيران الجاري: «ما سرّ صمود مؤتمركم طوال ربع قرن من زمن كان مليئاً بالعواصف والزلازل، بالارتدادات والتحوّلات، بحروب الخارج واحتراب الداخل».
ابتسمت وأنا أجيب عن السؤال الصعب: «يا صديقي إنّ بنيان هذا المؤتمر يشبه الأبنية في اليابان المصمّمة لمواجهة الزلازل مهما بلغت قوتها، فهو يقوم على «خلطة» لا تتوافر للكثير من أطر العمل في بلادنا، خلطة مركبة من شفافية تحصّن الاستقلالية، وحكمة تمكّنه من معالجة أصعب الاختلالات، ورصانة في الخطاب تمنعه من الانزلاق في التوترات العصبية التي ترافق عادة التطورات العصيبة، وحسن تقدير للموقف يتيح له قراءة دقيقة ومتوازنة للحوادث من نواحيها كافة، وتغليب لمنطق الحوار بين أعضائه، على ما بينهم من تباين يبعده عن اعتماد نهج الإقصاء والانفراد وإلغاء الآخر».
أضفت شارحاً لصديقي: «تعرّض المؤتمر القومي العربي منذ لحظة تأسيسه، ولا يزال، لمختلف أشكال الضغوط، وأنواع التهم، وصنوف التجنّي، لكن لحسن حظه كانت هذه الضغوط تختزل بعضها بعضاً، والاتهامات المتناقضة يردّ بعضها على بعضها الآخر، وبات الرأي العام العربي يدرك أنّ الهجوم على المؤتمر واستهداف رموزه هو جزء من الهجمة المتواصلة منذ عقود على فكرة العروبة الجامعة الحاملة مشروع نهوض وحدوي تصغر أمامه جميع الصراعات والحزازات المريضة، بل العروبة الجامعة التي إذا دُمّرت فإنّ الباب يصبح مشرّعاً لسائر المشاريع والمخططات التي تستهدف تفتيت الأمة وتمزيق كياناتها الوطنية ومجتمعاتها المتنوّعة، وفي مقدمها مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي كان المؤتمر القومي العربي من أوائل الذين نبّهوا إلى أخطاره وسعى إلى مجابهته ومقاومة محاولات التطبيع كافة مع العدو الصهيوني المرتبطة به، بل ومقاومة جميع المخططات الرامية إلى احتلال إرادة الأمة بعد احتلال أراضيها».
استطردت قائلاً: «يا صديقي،إنّ الحرب على العروبة هي حرب على هوية تتسع لجميع أبناء الأمة وتياراتها ومكوّناتها، بل هي حرب على العروبة التي بتكاملها مع الإسلام كمضمون حضاري وثقافي لها إنما تتسع أيضاً لمكوّنات العالم العربي الكبير كلّها، الإثنية والعرقية والدينية، على قاعدة المواطنة والمساواة والاعتراف بخصوصية كلّ مكوّن وثقافته، فلا يمكن أن تكون قومياً عربياً وتمنع على ما يساكنك الأرض ذاتها، ويشترك معك في الحضارة عينها، أن يجاهر بانتمائه القومي وبثقافته وتراثه الحضاري المشترك معك». لذلك يا صديقي فإنك تجد نفسك في اجتماعات المؤتمر القومي العربي أمام مختلف الأفكار والآراء الموجودة في وطننا الكبير، إسلامية كانت أو يسارية عروبية، أو ليبرالية وطنية، أو قومية كلاسيكية شرط التزام أصحاب هذه الأفكار والآراء بعناصر المشروع النهضوي العربي، قولاً وفعلاً، رؤية وممارسة، لا سيما أنّ مفكرين ومثقفين من سائر التيارات ساهموا في صوغ هذا المشروع…، ما يسمح للمؤتمر بأن يكون في معنى من المعاني برلماناً للأمة يتيح لكلّ عضو فيه أن يفصح عمّا يختزنه من مكنونات، بل أن يتعرّف أيضاً إلى مكنونات أخيه في الأمة وشريكه في الوطن الكبير، فينطلق الجميع من المشتركات التي تجمع في ما بينهم، وهي كثيرة، ويدخلون منها إلى مساحات الاختلاف، وهي محدودة، لمعالجة نقاط التباين في إطار من الحوار الحضاري المتحرّر من الأحكام المسبقة والعصبيات الضيّقة على أنواعها، فالفكر هنا يحصّن الممارسة، والثقافة ترتقي بالسياسة، ومنطق التكامل يرتفع فوق لا منطقية الانقسام بأنواعها ومستوياتها كافة».
هنا قاطعني صديقي قائلاً: «ألا تعتقد أنك ترسم لنا عالماً أفلاطونياً مثالياً لا مكان له في الواقع…. ثمّ ألا تظن أنّ ما تعتبره تجميعاً لمتناقضات ليس إلاّ نوعاً من «التوفيقية الساذجة» التي تجعل من مؤتمركم بلا طعم ولا لون ولا رائحة ولا حتى أيّ تأثير؟».
هنا أجبت صديقي بشيء من الحزم: «لو كان الأمر كذلك لماذا ازداد كلّ عام عدد الراغبين في الانضواء تحت لواء المؤتمر، ولماذا هذه الحرب عليه بعد كلّ انعقاد، وأحياناً قبله، بل لماذا استهداف رموزه ومؤسّساته بالتشهير حيناً، وبالحصار دائماً، بل وبإدراجهم على لوائح المطلوبين من أعداء الأمة، لو كان المؤتمر عديم التأثير؟».
استطردت موضحاً: «ألا يقول الجميع إنّ هناك مؤامرة لتفتيت الأمة وتمزيق كياناتها ومجتمعاتها، فهل يمكن إسقاط هذه المؤامرة إلاّ بخطاب جامع، وإطار حواري يتسع لكلّ من يلتزم أهداف الأمة من دون أن يغرق في صراع مكوّناتها الاجتماعية أو العقائدية أو الفئوية أو الحزبية التي تتناحر طويلاً لتكتشف أنها جميعاً كانت خاسرة. ثمّ أليس من حق جمع من مثقفي الأمة ومناضليها وناشطيها أن يقدّموا إلى شعبهم واحة تلاق وسط صحارى التناحر وكوابيسه الرازحة على الصدور، بل أن يقدّموا إلى أمتهم نموذجاً للتفاعل والتكامل وسط عواصف الإقصاء وإلغاء الآخر… صحيح أننا نلتقي أحياناً على الحد الأدنى من الأمور، ولكن أليس هذا اللقاء أفضل من الانسياق إلى الحدّ الأقصى من الصراع الذي يأخذ هذه الأيام أبشع أشكاله دموية ووحشية قسوة وإرهاباً.
ثمّ ما الذي يمنع أن يلتقي من خلال المؤتمر أعضاء يوفر المؤتمر لهم فرصة للتعارف واللقاء، فيجتمعون على ما هو أكثر من الحدّ الأدنى، بل يشكلون في ما بينهم أطراً للعمل بالحدّ الأقصى، فإذا تجمّعوا ارتقوا بالمؤتمر الذي وصلوا إليه بعملهم، وإذا فشلوا، كما هي حال البعض، أضافوا تجربتهم إلى خبرات زملائهم في المؤتمر وأطر العمل القومي كلّها، خاصة أنّ المؤتمر أكّد منذ تأسيسه أنه ليس حزباً جديداً ينافس الأحزاب القائمة فيه حزبيون من جميع المدارس الفكرية النهضوية، وهو ليس مركز أبحاث يُضاف إلى مراكز الأبحاث الأخرى وينافسها في عملها، ولا حتى اتحاداً نقابياً أو جمعية متخصصة، بل هو محاولة لبعث روح جديدة في الأطر القائمة ليخرج الترهّل منها من ترهّله، ويساعد المرتبك منها في ابتداع رؤية تخرجه من ارتباكه، وتؤكد للجميع، داخل المؤتمر أو خارجه، أنه ما زال هناك في الأمة إطار جامع يلتقي فيه نهضويون مسكونون بهموم الأمة من جميع الأقطار والأفكار والأجيال والبيئات، يعلنون ببساطة تامّة انه إذا كان ممكناً لجمع من أبناء الأمة أن يلتقوا، فما الذي يمنع الأمة كلّها من التلاقي والتكامل على طريق وحدة الأمة كلها».
ختمت حواري مع صديقي قائلاً: «لا تظن أنني لا أعرف حجم العوائق والمعوّقات التي تحيط بالمؤتمر وتحاصره سياسياً ومادياً وإعلامياً، ولا تظن أنني جاهل بما يعتور المؤتمر من ثغر وشوائب ونواقص وسلبيات، إذ تكشّف معظمها لي من خلال مشاركتي في دورات المؤتمر الخمس والعشرين من دون استثناء ومن خلال مواكبتي اليوم لمسيرته، وقد سعيت، ولا أزال، مع إخواني، وعبر الحوار والعمل والمتابعة الدؤوبة، تحت سقف المؤتمر، إلى معالجتها وتجاوزها لكي نقول للذين ينعون العروبة يوميّاً ومنذ عقود: إنّ عروبتنا ما زالت حية تنبض في العروق، بل هي أبقى من كثير من الذين عاشوا أو تعيّشوا على العداء لها، وأعلنوا وفاتها باسم هذا الشعار أو ذاك».
المنسّق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبية