هكذا هجرَتْني نفسي
هكذا ابتعدتْ عنّي ذاتي التي حاربتُ بضراوةٍ لتحقيقها. وهُزِمتُ شرَّ هزيمةٍ في معركةٍ غير متعادلة: أنا، والجميع خصومي!
أحاول أن أعود بطيّات ذاكرتي إلى أيّ شيءٍ كان من اختياري. وجدتُني تابعةً لهم لا أكثر!
منذ إطلاقي صرخةَ إنذارِ قدومي إلى عالم البؤس البشريّ، لم أكن أملك أدنى حرّيةٍ للاختيار، بما في ذلك اختيار ولادتي في هذا التاريخ. اختاروا هم اسمي وجنسيّتي، ووسموني بالديانة التي يعتنقون، وربطوني بِاسم العائلة التي إليها ينتمون. نجحوا في سلب أبسط حقوقي في الاختيار فكان ذلك مقدّمة لدرس الخنوع ونسيان كلمة… «لا».
رسموا لي الطريقَ التي يريدون فمات الحلم، واستقال الطموح، وصار الخيال طريقي الخاص الذي أسلكه لأهرب من سلطتهم إلى عالمي الوهميّ الذي حقّقت فيه ما كنت أصبو إليه في ذاتي الأصلية، التي أخفيتها من شوائب أيديهم!
عشت صراعاً بين نفسي التي أريد أن أكونها، ونفسي التي يريدونها. حتى وصلت إلى حلّ يرضي الجميع إلّاي: أصبحتُ في الواقع ما أرادوا أن أصبحَه، ودفنت ذاتي في مقبرة خيالي الذي أدمنتُه!
جعلت من نفسي كائناً ليليّاً يهوى العزلة والظلام وسرمديّة الكآبة، غير آبهٍ بتجاهلهم، ولامبالٍ بأحدٍ منهم. عاشقاً البردَ مسكّنَ الآلام ومجمّدها!
وها أنا أمضي بحثاً عن ذلك الدفءِ مطبّب الجراح، ومعالِج الكسور وملصق الخيبات. ذلك الدفءِ المختزل في شخصٍ واحدٍ به أحقّقُ ذاتي التي أضعتها منذ سنين، وأمارس للمرّة الأولى حقّي في الاختيار والقرار. وأجرّب وقع تلك الكلمة التي لم أقوَ حتى على لفظها من قبل: «لا» لكلِّ شيءٍ. و«لا» للظروف. و«لا» لتحقيقِ ما عجزوا عن إنجازه من خلالي. و«لا» لمحاولتهم إجباري على الابتعاد
فما عادت الطرقُ المستقيمة الآمنة تثيرُ فضولي!
لانا أبو جودة