الفوضى اللغويّة
سارة بن مزيان
«بداية الإسلام علّمت أوروبا الرياضيات بلغة العروبة». هذا ما اعتقده مولود قاسم نايت بلقاسم الذي كان من دعاة التعريب في بلد كان اسمه جزائر الاستقلال.
إن اللغة التي قادت العالم من قبل كما كان يردّد مولود قاسم يجب أن تعود إلى قيادته مرّة أخرى. فالعربية في نظره ليست لغة دين فحسب، إنها لغة علم وحياة. وهذا ما عاش من أجله الرجل الذي أسّس للتعليم الأصلي من خلال مدارس أثبتت تفوّقها على المدارس العادية، والذي ألغي في ما بعد على يد الميثاق الوطني الجزائري. كما كان لا يقرأ ولا يردّ على أيّ بريد أو مراسلة بلغة أجنبية، حتى أنه كان يحمل معه طلاءً في سيارته ليصحّح به الأخطاء اللغوية في اللافتات العمومية.
نعم، إنه الأمازيغي المتيّم باللغة العربية، والذي لم يكتف بهذا فحسب، إنما ذهب إلى أبعد من ذلك، حين أراد تعريب الجامعة الجزائرية، إذ جلب الرجل كتباً من دمشق والعراق. وهيهات أن يتحقّق حلم العاشق، فسرعان ما اختفت من مقرّ جبهة التحرير الوطني بهدف إفشال المشروع، وكان لهم ذلك. فضاع الحلم ومات نايت بلقاسم بحسرته، بعدما اكتشف أن فرنسا غادرت تراب الجزائر لكنها بقيت في أذهان أبنائها.
فكما عمد الاستعمار الفرنسي إلى محو اللغة العربية بكل وسائله من أجل طمس الهوية الوطنية الجزائرية، تأبط هذا المبدأ مؤسسات وأفراد من بقايا الكولون، وهذا ما عبّر عنه مالك بن نبي من خلال مقولته: «أخرجوا المستعمر من نفوسكم ليخرج من أرضكم». وشتّان بين ما عمل من أجله نايت بلقاسم وبن نبي، وبين ما اعتقده أبناء فرنسا الجزائريون الذين تمسّكوا باللغة الفرنسية كلغة رسمية للبلاد. فيا ليت أنّ هذه الجماعة تبنّت أفكار الرجلين ووحّدت الجهود لإلغاء كلّ ما هو فرنسيّ من الجزائر، بما في ذلك اللهجة الجزائرية التي تحمل الكثير من الكلمات الفرنسية، فتمخض عن ذلك لسان جزائري عاجز عن تكوين جملة من دون كلمة فرنسية، حتى بات جلياً عجز لهجتنا في الحوارات التلفزيونية والسنيمائية، فاستبدلت بلغة شبه عربية اصطدمت بالجماهير الذين تولّد لديهم شعور بعدم الانتماء إلى هذه اللغة.
وإذا تطرّقنا إلى المناهج التعليمية اليوم في الجزائر في كل الأطوار، نجد أنّ العربية تدرَّس كلغة شعر جاهليّ. حتى إذا اختيرت نصوص نثرية، لا يكون الاختيار على أساس انتقائي لنصوص ترسّخ لايديولوجية فكرية عقائدية ما، وهذا ما يفترض أن يبنى عليه التعليم في أيّ بلد عربيّ إسلاميّ. أمّا ههنا فيقتصر تدريس اللغة العربية على بعض النصوص السطحية التي تجعل عقل الطالب يعتقد أنّ لغتة بسيطة غير مجدٍ تعلّمها على عكس اللغات الأجنبية التي تدرّس من خلال مناهج تكرّس لنشر أعلام الفكر الغربي أمثال فيكتو هيغو، شكسبير، شارلزدي، كانز، وإميل دوركايم، وترسيخهم، حتى أصبح الطالب الجزائري مقتنعاً بأن الحضارة لا تليق إلّا بالشعوب الغربية، ما ولّد لديه انبهاراً فكرياً ونفسياً جعل منه الإنسان التابع والمقلّد كلّ ما هو غربيّ، إنّما كوّن لديه تساؤلاً دائماً وشغفاً وتعطشاً لكلّ ما هو غربيّ. ونستحضر هنا محمد علي باشا الذي اعتبر الثقافة العربية من الدعائم الفكرية لنهضة الأمة ورقيّها، إذ تجلّى ذلك في انتقائه البعثات الطلابية التي يرسلها إلى أوروبا، آخذاً في ذلك مقياساً وحيداً، يتمثل بثقته الكاملة بأن الطلبة متشبّعون بالثقافة العربية الإسلامية قبل تلقّيهم العلوم الأوروبية، فلا يذهبون إلا وهم مكتملو النضوج والثقافة ليستطيعوا أخذ العلم الأوروبي، متفادين في ذلك الاصطدام بالجانب السلبي والميت من الحضارة الغربية. ومن هنا يستطيعون النهوض ببلادهم، وهذا ما نقوم بعكسه اليوم، إذ نصرّ على تعليم الثقافة الغربية في الطور الابتدائي فالأساسي، ثم الثانوي. في حين كان من الأصحّ أن يأخذ الطالب في هذه المراحل الحساسة من العمر التعليمي لغته الأمّ فقط، ما يجعله متشبثاً بهويته العربية. أما اللغات الأجنبية التي يدرسها في الأطوار المقبلة، فتكون في اعتقاده وسيلة لمواكبة التقدّم العلمي والتكنولوجي الذي نشهده، لا غاية كما يراها اليوم.
كاتبة من الجزائر