متى تكفّ الأبواق السياسيّة والإعلاميّة المحلية عن تزوير حقائق التدخل الروسي في سورية ؟
وجدي المصري
بالرغم من ضعف ذاكرة الكثيرين فإنّ بعض الأفعال يصعب أن يطويها النسيان خاصة إذا كانت قد تركت بصمة على مجريات الأحداث. فالتصريح الذي أدلى به جيفري فيلتمان، والذي أشار فيه إلى أنّ الولايات المتحدة قد صرفت مبلغ 500 مليون دولار في لبنان لتشويه سمعة حزب الله، والذي كان كافيًا لكي يتحرك القضاء ليحقق مع من ارتشى وباع نفسه للقيام بهذه المهمة، وهم كثر لم يُخفوا الوجوه وفضحتهم ألسنتهم، وبنظرة سريعة إلى ما يجري اليوم ندرك بأنّ هذه الملايين لا تزال تفعل فعلها ولكن توسعت لتشمل محورًا جديدًا. فمنذ أسبوعين، ومع بداية التدخل الروسي في سورية، والذي فاجأ الجميع، وبعد استيعابهم للصدمة بدأ كذب الساسة الغربيين، يساندهم إعلامهم، بدسّ الأخبار التي تقول بأنّ القصف الروسي لا يستهدف سوى 5 من مواقع «داعش». وسرعان ما تلقف بعض الساسة والإعلاميين اللبنانيين هذه الأنباء ليبنوا عليها تحليلاتهم غير آبهين بكلّ المعلومات الدقيقة التي تؤكد أنّ ما أنجزه القصف الروسي خلال عشرة أيام يفوق بكثير ما أنجزته غارات التحالف الأميركي خلال سنة.
والسبب يعود إلى حقيقتين: الأولى تتمثل في الأساس بكذب هذا التحالف الغربي الذي كان يصوّر ضرباته على أنّها تستهدف تنظيم «داعش» الإرهابي ومحاولاً تبييض صفحة «جبهة النصرة»، وهو بالفعل كان يقوم بقصف غير مركّز من جهة، ومن جهة أخرى كان يلقي العتاد والمساعدات لتنظيم «داعش» لكي يستمرّ بإرهابه في محاولة لتحقيق الغاية الأساس من إطلاق شرارة الأحداث في سورية، وهي إسقاط الرئيس بشار الأسد وصولاً إلى تقسيم سورية إلى ولايات طائفية تكون مبررًا لقيام الدولة اليهودية. والحقيقة الثانية هي الغطرسة الأميركية الرافضة للتعاون مع الحكومة السورية في عملية مكافحة الإرهاب وبالتالي كان من الطبيعي أن يبقى تدخلها محدود النتائج، هذا إذا ما سلّمنا سلفًا بحسن النوايا، لأنّه لم يترافق مع تحرّك برّي يستفيد من القصف الجوي للإطباق على الإرهابيين.
انطلقت هذه الأبواق المأجورة لتدين التدخل الروسي وتقلّل من أهميته ونتائجه وهي مدركة وواعية للتغيّر الحاصل ميدانيًا. وهؤلاء ينقسمون إلى قسمين: القسم الأول غبي غير مستعدّ لتقبّل الحقائق السياسية المستجدّة، رهانه على الغرب لن يتغيّر حتى لو رأى بأمّ العين بأنّ مرحلة جديدة بدأت معالمها ترتسم في الأفق وهي تتجه إلى غير ما تشتهي مواقفه والتزاماته. والثاني حقود وهو على استعداد أن يسبح بعكس التيار، يكابر ويكذب على نفسه وعلى الآخرين، يزوّر الحقائق لإبقاء الرأي العام غافلاً عمّا يجري حوله. والقسمان وجهان لعملة واحدة ارتهنت لخدمة الأجندات الخارجية المشبوهة، لم تعد قادرة على التراجع والرضوخ للحقائق التي فرضت نفسها.
برأينا ليس من الضرورة بأن تكون محللاً سياسيًا بارعًا لكي تدرك خطورة المؤامرة الكونية على سورية والعراق تحديدًا، وعلى العالم العربي بشكل عام، ومن لم يدرك أبعاد هذه المؤامرة لغاية الآن فهو مصاب بالحَوَل الفكري، لأنّ الجميع بات يدرك بأنّ غُرف المخابرات الأميركية والغربية كانت تعمل منذ عشرات السنوات وصولاً إلى ما نشهده اليوم، أمّا المخابرات «الإسرائيلية» فإنّها الأقدم بوضع مخططات تفتيت سورية الطبيعية التي تعتبرها «إسرائيل الكبرى» التي وعدهم إلههم بها في أساطيرهم التي حوّلوها إلى كلام مقدّس على كلّ المؤمنين العمل على تحقيقه.
لقد تلاقت غايات الصهيونية العالمية مع غايات الغرب الاستعماري، مع الأهداف الأنانية لمعظم الحكام العرب، على تدمير العراق وسورية بغية الوصول إلى غايات ثلاث: الأولى تتمثّل بتهيئة كلّ الأسباب لتثبيت يهودية الكيان «الإسرائيلي» الغاصب من خلال ضرب كلّ القوى المعارضة والممانعة. والثانية تدمير الحضارة السورية القائمة في بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام لأنّها تفضح، من خلال ما تمّ اكتشافه في باطن الأرض لغاية اليوم، زيف الادّعاءات «الإسرائيلية» التي صدّقها الغرب والتي تقول بأنّ هذه الأرض لهم لأنّها وعد من الله، وبأنّهم أصحاب الحضارة الإنسانية الأولى. لذلك رأينا أنّ الاحتلال الأميركي للعراق، وبطلب من «إسرائيل»، قد أوعز للعصابات المنظّمة ببدء عملية نهبّ كلّ المتاحف العراقية خاصة كلّ ما يشير إلى عمر حضارة بلاد ما بين النهرين التي تعود إلى أكثر من ألفيتين على ظهور القبائل «الإسرائيلية» البربرية في أرض كنعان. والغاية الثالثة تكمن بمعرفة القوى الاستعمارية بغنى هذه المنطقة بالمواد الطبيعية التي يحتاجون إليها، وبأهمية موقعها الجغرافي الاستراتيجي الذي يؤهّلهم السيطرة على كامل منطقة الشرق الأوسط للاستمرار بنهب خيراتها.
إنّ التدخل الروسي هو الوحيد الذي يُعتبر تدخلاً شرعيًا من جهة، قادرًا على إحداث تغيير بالمعادلة وليس باللعبة كما جاء على لسان مسؤول في الاتحاد الأوروبي. هو شرعي لأنّه جاء بطلب من الحكومة السورية، هذا الطلب الذي حتّم تنسيقًا عسكريًا بين الجو والبرّ فسح في المجال أمام الجيش السوري والقوى المساندة إلى بدء الهجوم المعاكس لاسترجاع الأرض من الإرهابيين خطوة خطوة. إنّ القلق الذي أبداه وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي من جراء التدخل الروسي بالغارات على «المعارضة المعتدلة» ليس إلاّ ذراً للرماد في العيون. إذ لا يمكن أن نصف أية معارضة مسلحة بالمعتدلة. فالمعارضة يجب أن تكون سلمية من خلال الدستور كما هي في بلدانهم. وهل يمكن لأحد من هؤلاء الوزراء الإجابة على هذا التساؤل: ماذا تفعل حكوماتكم إنْ قامت المعارضة في بلدانكم بحركة مسلحة لتسلّم الحكم؟ ألا تواجهونها بقوة جيوشكم لمنعها من تحقيق أهدافها؟ ألا تستعملون أشدّ أنواع القمع؟ فلماذا ما هو مسموح لكم ممنوع على غيركم؟ المملكة السعودية لا تقبل إلاّ برحيل الأسد وإلاّ! وتوفد إلى روسيا أحد أمرائها علّه يُقنع القيادة الروسية بالتوقف عن التدخل في سورية. هل ساءلت السعودية نفسها عمّن سمح لها بالتدخل في البحرين واليمن؟ وحتى في العراق وسورية؟ هذا مع الفارق الكبير بين التدخلين. وهل سألت الولايات المتحدة نفسها أيضاً كيف يحق لها التدخل في فيتنام، وكوريا، وباكستان وأفغانستان، وأميركا الجنوبية، والعراق وسورية؟ وكيف يمكن أن نسمح لوقاحة الساسة الأميركيين بالقول إنّ التدخل الروسي في سورية يشكل خطراً وجوديًا على الولايات المتحدة؟ نعم هو يشكل خطرًا على إرهاب الولايات المتحدة، وعلى استغلالها لثروات الشعوب في المنطقة، وعلى ربيبتها «إسرائيل» حامية مصالحها في المنطقة، وعلى أذنابها حكّام بعض الدول العربية الذين تدعم بقاءهم على عروشهم شرطًا لاستمرارها بنهب خيرات شعوبهم.
إنّ أي تدخل من قبل أية دولة في شؤون دولة أخرى يُعدّ بحسب القوانين الدولية تعدّيًا على سيادة هذه الدولة إلاّ إذا جاء بناء لطلب من الدولة المعنية. وعادة ما تطلب بعض الدول المساعدة من دولة صديقة، والمساعدة لا تكون أبدًا مجانية لأنّ الدولة لا تعقد صداقات طوباوية، بل تستند إلى مصالحها. مصالح روسيا واضحة ولا لزوم لتكرارها، لكنّ الفارق واضح بين التدخل الروسي والغربي، لأنّ الأول يحقق المصالح الروسية إلى جانب المصالح السورية والإنسانية عبر التخلّص من الإرهاب، أما الثاني فلا يحقق إلاّ مصالح «إسرائيل» ومصالحه.
التدخل الروسي قلب المعادلة رغم أنف المكابرين، وإلاّ لماذا بدأت المواقف تتبدّل خاصة لجهة القبول بدور موقت للرئيس الأسد، علمًا أنّ الرئيس الأسد لا ينتظر إذنًا من كلّ الذين ينادون برحيله لأنّه يحتكم فقط لشعبه، وبدور لروسيا بعدما تمّت محاصرتها لسنوات ومنعها من العودة لأخذ دور على مسرح الأحداث العالمية، وبالتالي كسر القرار الأحادي الأميركي. التبدّل بدأ يحدث أيضًا بمواقف بعض السياسيين الأميركيين وبعض الإعلاميين أيضًا، حيث بدأت الأصوات المنتقدة لأوباما ترتفع مترافقة بالإعجاب بالمواقف الصلبة للرئيس بوتين. وهذا هو العثماني الجديد أوغلو يصرّح بالأمس أيضًا بأنّه سيتحدث مع روسيا وإيران حول حلّ سياسي في سورية.
لقد آن الأوان للأبواق المحلية على الأقلّ أن تدرك خطأ رهانها على الغرب الذي بشرّها بسقوط الأسد بعد أسابيع من بدء ما أسموه «ثورة»، أو «ربيعًا عربيًا»! ألم يُدركوا بعد أنّ «المعارضة السلمية» تنعّمت ما يكفي من الإقامة في فنادق أوروبا؟ وأنّ كل من حمل السلاح ساهم بتخريب سورية وقتل شعبها الآمن وتدمير حضارتها؟ المطلوب وقفة وجدانية موضوعية علّ الأسابيع المقبلة تحمل إلينا المزيد من المعطيات التي يمكن أن تساهم في إقناع المكابرين بأنّ الربيع الحقيقي لن يكون إلاّ بإخراج الإرهابيين من ربوع أرض مهد الحضارات التي قال عنها توينبي بأنّها يجب أن تعطي كلّ إنسان الحق بحمل جنسيته الأساسية، والجنسية السورية لفضل سورية الحضاري على الإنسانية جمعاء.