مكتبة البناء رواية انتصار عبد المنعم… الثورة وخيبة الأمل
راصدة إلى حد التوثيق التاريخيّ ماضينا بإخفاقاته ونكساته كلها، وحاضرنا بإجهاض أحلامه، وضياع دماء ثوّاره، تستبصر الكاتبة انتصار عبد المنعم في روايتها «جامعة المشير مئة عام من الفوضى» الصادرة لدى «الهيئة المصرية العامة للكتاب» واقع ثورة 25 يناير ومآلاتها، تقدّم رؤية كابوسية ليس للحاضر الذي لم يكن يعنيها البتة وهي تسرد حكاية الثورة المجهَضة بعدما فقدت بوصلتها وغاب عنها رمزها، إنما للمستقبل المظلم والكابوسيّ وفق حوادث الرواية، في نوع من المصادرة تُصدّرها المؤلفة عبر عنوانها الفرعي «مئة عام من الفوضى». وتضحي صرخات الأم بعد فقدان ابنها كأنّها صرخات التحذير من ضياع الثورة بعدما «تصدّر أمرها مَنْ طحْلب مورِدها وقد نيط له لهم سقي القوم».
تمارِس الكاتبة نوعاً من التجريب والمغايرة، ويظهر ذلك في التعدّد الذي يعدّ السمة البارزة المشكلة لبنية النص، بدءاً من العنوان المنقسم إلى عنوان أصلي «جامعة المشير» وآخر فرعي «مئة عام من الفوضى»، أو ببنية الرواية العامة التي تبدو كأنها «بنية الرواية داخل الرواية» فثمّة قصتان تسيران متجاورتين، الثانية نتيجة للأولى رغم الفرق الزمني بين حدوثهما، عبر سرد يأخذ إيقاعاً ميلودرامياً في النص الأول، وإيقاع الرعب والتراجيديا الممزوج بالفانتازي في النص الثاني. ويعمد إلى التسجيل في معظمه، وبث رسائل التحذير في بعضه الآخر، بعيداً عن المبالغة والاسترسال المضلّل، فيأخذنا في نشوة تصاعد حوادثه ليصل بنا إلى ذروة السخط والغضب على المآل مروراً بالتنوّع في الأسلوب في النص الأوّل، إلى تقرير يميل إلى الغنائية في الأجزاء الذاتية والإنشائية حيث التساؤلات التي تطرحها الساردة هنا وهناك بلا جواب، ما يكشف عن حالة الصراع الداخلي بين تسجيل ما تشاهده ومحاكمة فعلية عبر الأسئلة والخطب المستنكِرة، ما انعكس على الشريط اللغوي الذي تماهى في لحظات تسجيل مشاهد الثورة مع اللغة الغنائية التي تميل إلى الشعرية، ثم اللغة التقريرية التي ترصد وتسجل، إلى قمة الدرامية في وصف الانتهاكات والترويع.
تضافر هذا التنوع اللغوي في تعرية الإيديولوجيات الكاذبة التي ادّعت ذات لحظة الثورية وفضحها، والسخرية من تكلس النظام ومواته ومن القوى الانتهازية بلا استثناء.
إنها رواية الثورة بامتياز، فمع اقتصار بؤرة السرد على الاسكندرية التي صارت «عاصمة التعذيب الأولى»، إلا أن حوادثها تتجاوز المكان لتقدّم صورة لواقع منتهَكة فيه الحقوق وغائبة فيه الحريات ومجهضة فيه الأحلام. فترصد الرواية تلك الانتهاكات التي كانت شرارة الثورة، حيث أيقونة الثورة خالد سعيد، الذي تحوّل قتله بتلك الصورة البشعة من قبل أجهزة السلطة إلى شرارة الثورة ووقودها، فتدفقت الجموع في شوارع الإسكندرية لتتآزر مع أمواج البحر، وتقدّم المارية فلذاتها كدماء تروي بها ترابها الزعفران، مازجة بين الشخصي والعام، ليتماهى الشخصي ويذوب بعدما تجاوب الجميع مع ندائها على ابنها: «أنادي عليه، فيرق قلب الثوار لي وينادون معي، وترق لي قلوب أفراد الأمن المركزي، التي حسبناها جامدة».
انتصار عبد المنعم قاسية في نبوءتها، تصدم وتوجع، وبين الصدمة والوجع تتبعثر خيوط الأمل التي انتشى بها الميدان، ضاعت الحقيقة وسيطر العفن، وفي العفن الذي عمّ ضاع الحُلم والدم، وعلى رائحة الدم رقصت الذئاب، لكن طلّت روح زرقاء اليمامة تحذّر من القادم، فهلا استقبلنا دعوتها أم تغاضينا عنها كما هي عادتنا؟ وما إن يأتي يوم نستصرخها بصوت أمل: «أسألُ يا زرقاء… عن فمكِ الياقوت عن، نبوءة العذراء»، حتى نُدرك عندئذ فقط أنه لم يتبق إلا «الموت…».