الصخر ينطق بين يديه بتاريخ الأمّة العريق

ملبورن ــ حسين ريدان

للتاريخ ذاكرةٌ لا تخون حقاً، فلا بدّ لها من أن تشهد يوماً على عظمة أفعال كبار الوطن الذين خاصروا عوالمهم بذودٍ منقطع النظير، فاحتملوا كلّ تحامل، مسدّدين ضرائب العناء، مجاهدين حتى الثمالة في إطلاق شعلة أفكارهم المتقدة المولودة من معين نتاج قرائحهم الغضّة، فيسكبون عطاؤهم زاداً على موائد حضورنا ومناوئه، فنتغذى به، محاولين الاحتذاء ولو بنزر يسير من فيض وخصب ملامح النجابة، وعوالم الخلق والإبداع، ودلائل الرقي والتبصر الذي يحظون، فنكون بذلك قد آثرنا يقظتهم الثائرة الهادفة، وتأثرنا بوافر أعمالهم المعطاءة التي تدخل بصروحها لجج الحياة بكل عظمة وجلال، فتغدو خير محجّة ومأثرة، لتستقر في سماء التاريخ كوكباً ضليعاً ذا غايةٍ رفيعةِ المقام تبلغ شأوها في مضمار الارتقاء.

مما لا ريب فيه أنّ الفنان النهضوي النحّات وائل أبو عاصي الذي بلغ بأعماله الفنية أوج الرقي اتخذ من بيئته وحاضره كل وحي وإلهام، مصوّراً واقعه المعاش بدقةٍ وفنٍ مُتقنين، مُرسملاً لوحاته بمداد الوفاء الذي يشكل برهاناً وجيهاً عن عمق إحساسه بحب الولاء والانتماء القوميّين لأرضه، التي عرف فضيلة الانتماء إليها مذ أبصرت عيناه النور في مسقط رأسه وحنينه عروس حرمون، عين عطا، التي احتضنت شبابها الواعد مثل رؤوم تزفهم إلى عرين الحياة فيتآخون مع المجد والسؤدد.

هكذا إذن، قُدِّرَ لذلك الفنان»العطواني» وائل أبو عاصي أن يشيّد لوحاته على أساس فني وطيد، ساكباً من روحه صفوة العطاء، مُبعداً بذلك مختلف أنواع الاقتباس، نابذاً سمفونية التقليد، خارجا ًمن حلبة البذخ الزائف في فنه إن شكلاً أو مضموناً، مطلقاً العنان لريشة سامية القصد تعي ما تريد، وإزميل أجاد بين يديه ليقدّ من الصخر الصلد لوحات تبدو لرائيها غاية في الجمال كأنها تحاكي عصوراً من الزمن، يرتفع بها إلى مسارح الخيال المطلق مقتفياً كلَّ تجدّد، ملامساً بفنه الموجه الهادف في آن واحد ناطحات المجرّة، ناهلاً من معين فكره الخلاق كل روعة. كيف لا وهو المؤمن إيمانا وثيقاً بنقل الواقع المعاش إلى جنائن غناء تليق بأبناء شعبه الذي يودّ السير وإياهم إلى هضاب مغمورةٍ بنور الحياة، عوضاً عن عالم أصبح القتل فيه لغة يومية، والموت مسلسلاً دموياً عنيفاً نأمل في انتهاء فصوله.

لكنّ الفنان أبو عاصي، الساعي دوماً وبكبر مقاصده ومُثُلها إلى العطاء اللامقرون بمنّة أو اغترار، تراه دوماً في حالة إشهار لما يؤمن، «أود أن أقدم لبلادي الكثير»، « سأخرج من حالة القوقعة»، «سأحاول أن أضع عند كل قرية تمثالاً أو لوحة فنية «، ليؤكد بذلك فعل قيم الحق والخير والجمال في نفسيته السورية، عاملاً على إخراج فنه من ردهات الاحتضار ومعتقدات التحجر، بعين فنية شاخصة نافذة وريشةٍ ناقدةٍ طليقةٍ بارعة ويدٍ ماهرةٍ حالمةٍ بتقويض أساسات العوائق كافة في سبيل انتصار الحياة .

هو ذا وحده الفنان النحات وائل أبو عاصي، يستقرئ كتاب الحياة، ينهل منه، متبنِّياً بالروح ونحو الأرقى كلَّ نضال وجهاد، بمواهبه الفذة التي لم تستكن يوماً، مجاهراً بها كقائدٍ لحضوره الفني، محرراً إياه من أيّ ارتهان، راسماً به إشارة النصر على ثغر كل مكان، تاركاً للوحاته الفنية المتسامية علاءً، حرية التجذر في أرض الواقع، لتورق في سماء حياتنا جمالاً لا يضاهى وسيفاً نستلّه لمقارعة أعداء البيئة والتراث.

مَنْ يقرأ الفنان «النحات» وائل أبو عاصي في لوحاته الفنيّة كأنما يقرأ عصوراً من تاريخ سوري عريق، لم ولن تنضب حكاياه النابضة عزَّاً وفخاراً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى