العلاقات الصينية ـ البريطانية: «ما مضى مقدّمة لرواية»

إنعام خرّوبي

هي زيارة تاريخية رأى مراقبون أنها فاتحة عصر ذهبي للعلاقات بين البلدين، تلك التي قام بها الرئيس الصيني تشي جين بينغ الأسبوع الماضي إلى بريطانيا، والتي جاءت بعد أسبوع من زيارة وزير المالية البريطاني جورج أوزبورن إلى الصين.

وعلى الرغم من وجود خلافات حول مسائل متعلقة بحقوق الإنسان ومستعمرة «هونغ كونغ» البريطانية السابقة، إلا أنّ الصين تكنّ تقديراً لدفاع بريطانيا القوي عن التجارة الحرة ورفع العراقيل أمام الاستثمار في الصين، مع الإشارة إلى أنّ العلاقات بين بكين ولندن شهدت فتوراً في العام 2012، عندما استقبل رئيس الوزراء البريطاني دايفيد كاميرون الدالاي لاما.

وفي حين تُعدّ بريطانيا المقصد الأكبر للاستثمارات الصينية في أوروبا، تعدّ الصين ثاني أكبر شركاء بريطانيا التجاريّين من دولة غير عضو في الاتحاد الأوروبي على الصعيد العالمي.

وأشار الرئيس الصيني خلال الزيارة إلى أنّ توثيق العلاقات الاقتصادية مع بريطانيا هو أولوية بالنسبة إلى الصين، حيث فاقت قيمة العقود 60 مليار دولار، وهي عقود تشمل قطاعات الطاقة، الفضاء، والتجزئة، فيما يتوقع أن توفر نحو 4000 فرصة عمل. أما رئيس الوزراء البريطاني دايفيد كاميرون، فقد أعلن عن اتفاقات جديدة مع الصين في مجال النفط والغاز تزيد قيمتها عن 12 مليار جنيه استرليني. ومن الاتفاقات الموقعة خلال زيارة الرئيس الصيني، هي تلك التي وقعت بين شركة بريتيش بتروليوم «بي بي» وشركة «خواديان» الصينية بقيمة 10 مليارات دولار لتوريد الغاز الطبيعي المسال لتوليد الكهرباء. وبموجب الاتفاق ستورّد «بي بي» ما يصل إلى مليون طن من الغاز الطبيعي المسال سنوياً على مدى 20 عاماً إلى خواديان. كما وقعت «بي بي» اتفاقاً مع مؤسسة البترول الوطنية الصينية سي إن بي سي من أجل التعاون في استكشاف الغاز الصخري وإنتاجه في حوض سيشوان، بالإضافة إلى تجارة الوقود بالتجزئة في الصين.

ورأى متابعون للزيارة أنها فرصة لا يجب على بريطانيا تفويتها، وذكر تقرير لمؤسسة «بينسنت ماسونس» للخدمات القانونية ومقرّها لندن أنّ «الشركات الصينية تمتلك قدرات هامة وسجلات بارزة في بناء المطارات والسكك الحديدية ومعالجة المياه وطاقة الرياح البحرية ومحطات الطاقة النووية وغيرها من المشروعات»، لافتاً إلى أنّ الشركات الصينية والبريطانية «يمكن أن تتكامل مع بعضها البعض داخل قطاعات البنية التحتية والعقارات».

تتطلع الشركات البريطانية بإيجابية نحو آفاق السوق الصينية وعائداتها المحتملة على المدى الطويل، على اعتبار أنّ البلاد تمرّ حالياً بعملية إعادة توزان اقتصادي، ما يسفر عن كمّ هائل من الفرص في قطاعات مثل الرعاية الصحية والتمويل والصناعات الإبداعية وتجارة التجزئة، لافتة إلى أنّ تعزيز العلاقات بين البلدين لن يعود بالفائدة عليهما فحسب، وإنما يسهّل أيضاً التعافي والتنمية الاقتصاديّين لأوروبا والعالم بأسره.

وفيما يتوقع أن يساعد توقيع عدد من الاتفاقات التجارية في تأمين العلاقات التي تمّ الارتقاء بها، فتحت هذه الزيارة التاريخية أيضاً فصلاً جديداً للعلاقات بين الصين والغرب وضخت قوة دفع جديدة في التعاون بين العملاق الآسيوي وأوروبا. ويرى محللون أنه في الوقت الذي تواجه فيه التنمية الاقتصادية العالمية أوجه عدم يقين، تشير زيارة تشي إلى أنّ التعاون بين الصين وبريطانيا في الاقتصاد والتجارة وغيرهما من المجالات بات وثيقاً على نحو أكبر مقارنة بأيّ وقت مضى، وهو ما يصبّ في صالح البلدين وأوروبا والعالم وسيمنح الانتعاش الاقتصادي العالمي حيوية كبيرة.

وتضمّن الإعلان المشترك حول إرساء «شراكة استراتيجية عالمية وشاملة للقرن الـ21»، العمل على جعل اليوان الصيني عملة عالمية، وتحرير التجارة بين الصين والاتحاد الأوروبي.

وتجدر الإشارة إلى أنّ الرئيس الصيني اعتبر أنّ لندن ستلعب دوراً حيوياً كمحور لاستخدام «الرنمينبي» في الأسواق المالية بعد هونغ كونغ، وستصبح، في الوقت عينه، نقطة دخول مثالية بالنسبة للمستثمرين الصينيين إلى بريطانيا والاتحاد الأوروبي. وعلى هذا الأساس، ربما جاءت «نصيحة» الرئيس الصيني للبريطانيين بالبقاء ضمن الاتحاد الأوروبي.

وقد تجاوز حجم التداول الشامل للرنمينبي في لندن الضعف في عام 2014، بزيادة نسبتها 143 في المئة مقارنة بعام 2013 حيث بلغ متوسط حجم التداول السنوى 61.5 مليار دولار، وهو أكبر بواقع ست مرات تقريباً مما تمّ تسجيله في المسح الأول الذي أجرى في عام 2011، وفقاً لتقرير رسمي بريطاني نُشر في حزيران الماضي.

ويعدّ التطور السريع للأعمال التجارية في لندن باستخدام الرنمينبي نبأ مثيراً للشركات الصينية والبريطانية، فضلاً عن الشركات في البلدان الأوروبية الأخرى وما وراءها، مع أخذ وضع لندن كمركز مالي في المنطقة والعالم بأسره في الاعتبار.

وإذ ينظر البريطانيون باهتمام بالغ إلى مساهمة الصين بنسبة 30 في المئة من تكلفة بناء محطة نووية في بلادهم، يشتكي هؤلاء من أنّ الصين تغرق أسواقهم بمنتجات صلب رخيصة أدّت إلى فقدان عدد كبير من الوظائف ويهدّد بنهاية هذه الصناعة. كما يشكك البعض في ما إذا كان يمكن الوثوق بالشركات الصينية لبناء محطة نووية في بلادهم بينما تتعرّض الصين لانتقادات بالتجسُّس وانتهاك حقوق الإنسان.

ربما يكثر الغرب بين الفينة والأخرى الكلام في «السياسة»، إلا أنه يتصرّف، وعلى نحو أكثر براعة، وفق لغة المصالح. وهي لغة، على ما يبدو، تفهمها الصين وتعرف تماماً كيف تخاطب الغرب بها.

يذكر أنّ الصين قامت بتنفيذ 112 مشروع استثمار أجنبي مباشر في بريطانيا، وأصبحت رابع أكبر بلد مساهم بالاستثمارات الأجنبية المباشرة في بريطانيا خلال السنة المالية 2014/2015، والتي انتهت في آذار 2015، وفقاً لتقرير صادر عن التجارة والاستثمار في المملكة المتحدة.

هي الزيارة الأولى لرئيس صيني منذ عشرة أعوام، حيث زار جين تاو لندن عام 2005. حظي تشي باستقبال رسمي لافت: عشاء مع الملكة ولقاءات مع أفراد العائلة المالكة وعقود بالمليارات، وخطابات امتزجت فيها السياسة بالحضارة والأدب وكرة القدم، حيث أشار تشي إلى تأثير وليم شكسبير عليه في شبابه. وقال نقلاً عن أستاذ الأدب البريطاني: «وأنا واقف في شبابي على أرض شنشي الطينية الجرداء، لطالما تأملت في مسألة أكون أو لا أكون ». وأضاف: «في النهاية حسمت أمرى بأن أكرّس نفسي لخدمة وطني وشعبي».

وبالعودة إلى التحوّلات والانعطافات للعلاقات الصينية ـ البريطانية خلال القرنين الماضيين، استشهد تشي مرة أخرى بشكسبير: «ما مضى مقدّمة لرواية»، ليفتح بتلك العبارات فصلاً جديداً في العلاقات بين قوتين عظميين في الشرق والغرب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى