«أخضر في سهول الجراد» لغسان علم الدين قصائد مشاكسة لعالم مرصوص
هناء حاج
يقدّم الشاعر غسان علم الدين في كتابه الخامس «أخضر في سهول الجراد» تجربة مختلفة في الشعر الحديث. إذ يتخذ من عناوينه حروفاً براقة يهديها الى من امتلكت حركة روحه «سارة»، والتي نصّها بين عامَي 2004 و2005، حين كان مترحلاً بين لبنان وأستراليا.
غيّر علم الدين الأنماط التقليدية في الإصدارات وعاكس بعض الواقع المعتمد في كل ما قد يرِد في الكتب. إذ بدأ كتابه بملاحظة قد تكون غريبة في مضمونها، فسمح لكل من يريد إعادة طبع الكتاب وتخزينه بالشكل الذي يراه مناسباً… وسمح بترجمته وطباعته إلى كل اللغات، ونسب القصائد لمن يرغب بها، من دون ملاحقته قانونياً. ويمكن بيع الكتاب على الأرصفة وفي الشوارع وحتى في الحانات ودور البغاء ودور العبادة، واستثنى من هذا السماح دور النشر. وقد تكون هذه سابقة في عالم إصدارات الكتب الشعرية الحديثة.
أما في المضمون، فيشهد نصّ علم الدين ثورة شعرية مغايرة للتقليد الأدبي المتعارف عليه نصّاً وواقعاً. إذ يتعرض في نصوصه إلى مقاربات واقعية لا تخلو من الصور التشبيهية في مواقع كثيرة عايشها وصاغها أفكاراً قائمة على الشعرية. وفيها، وعلى متونها وعلى تخومها وفي شعرية شعريتها أيضاً بطريقة معاشة من حياة الكائن الحديث، وفي الوقت عينه نافرة وبعيدة وقصية حتى عن متناول يده.
في قصيدته الأولى «لوحة كأنها امرأة، كأنها رجل، كأنها كائن ما» يقول:
أحاول النظر إلى وجهي ولو لبرهة:
الأشياء تتغيّير
اللحظات كصوت مِحدلة في صيف
قرية فقيرة
القطة المنزوية فوق جلد خروف
الجلد يتغيّر
والخروف أيضاً
الدموع، الوفاء، الوحدة، التخاطر
يتعمّد غسان علم الدين أن يجعل من مفرداته مفردات كأنها محكية متداولة في الحياة اليومية لعامة الناس، وفي الوقت نفسه يرفعها ليصنع منها تعابير أدبية لها مكانتها خدمة للفكرة وللنص الشعريّ، مثلما ذكر في قصيدة «عكس ما اشتهي» بقوله: بأسراب شهوات معطلة، بماء الأمل
بالدموع… برغوة البيرة أيضاً
أغسل رغبات العالم
تتفتح عيناي
عكس ما اشتهي
بالمقلوب أرتدي ملابسي
الهاتف يرن
أهرع لأفتح الباب!
كطفل يقوده أبوه
قراءة الصحف صباحاً
الكلمات السّود
فنجان القهوة السوداء
عصارة أرواح الذين أبيضّ شعرهم
وأمانيهم وعيونهم أيضاً
هذه النسائم
ماخر المنخرين والشعاب الهوائية والصدر
الشفافية التي تلفّ القصائد تنقل إلينا وجداناَ قصده الشاعر بروحية الإنسان المرهف، المتشوّق لتغيير حالات تشكل لدى غيره صراعاً في كيفيات التعبير عمّا وقع من ظلم انزلوه بالانسان، إلا أن صوره تضع أمامنا معادلات وحقائق الحياة، ما يجعلها أكثر وضوحاً وسلاسة بين أيدينا كما في قصيدته «أخضر في سهول الجراد» التي حملت عنوان ديوانه. إذ نعثر في الكثير من الصياغات والتعابير على كلمات نتادولها في حياتنا بشكل يومي، فترسم لنا أياماً على شكل لوحات تجاورنا ونتعايش معها على أنها موجودة ككائنات نحبها، نحدّثها وتحدثها وتحزن وتفرح معنا:
الغبار أيضاً كان هناك
ولوازم المعاقين
وحياة انفتاحها الأول ابتدأ بانفصالات
لا أعرف ماذا اقول لك؟
لماذا ما كان حطّاباً
أو صاحب بولدوزر
أو فلّاحاً… أو حفّار قبورٍ، أو مفسّر أحلام؟
وفي القصيدة نفسها، تبدو الطبيعة مأسوية وكأنها عواطف تتنقل بين عواصف تتصارع. فالمعاول تتكسر على أعتاب الحروف، ثم تقوم من انكساراتها وكأنها كائنات تحاول البحث عن سبل تقاوم الخراب المتراكم في عالم علم الدين الذي سماه «أخضر في سهول الجراد». كائنات وحشية متنافرة لكنها تسعى إلى أن تكون منسجمة لتكوّن تعابير تصف حقيقة مشاعر متصارعة، لتهدأ في ختام القصيدة على جمر ونقمة وغضب وتبرؤ من دعوات التحريض والثورة:
لا تتوقد
لا تترقب
لا تغضب
إذا أردت طبعاً
أو أقول لك؟
إغضب
لكن تذكر إذا استطعت طبعاً
الرنين الموحش سيتواصل
وستتكاثر القوارض
وأنت وحدك الأخضر في سهول الجراد.
عالج علم الدين في قصيدة «عمَّ كنّا تحدّث؟» مرارة الحياة بتفاصيل دقيقة كأنها علقم مزدان بصفات الحضارة، لا يبرر من خلال مشاعره المنصوصة خوفه على محبوبته الأبدية «سارة»، إنما يؤكد حرصه على إبقائها في صومعته البيضاء المشعة عاطفة، والمجبولة بدموع مخفية بين ثنايا الكلمات، ليبدأ وكأنه استكمال للحوار بينهما:
وليكن يا سارة
عمّا كنّا نتحدث؟
على الكنبة تنقاد عيوني
مشكاة كلاليب صورٍ وعجائب
تلفزيون!
الاستلقاء عمل مفرح
أفلام… قصور… جنائن… يخوت
آلهة وعرائس بحار… مارقون… سارقو شعلات
وذهب ومومياءات
هناك لا تبغ ولا أدوية مهدئة
والأنكى
لا خمور!
يشتل الخوف أظلافاً في وجوه المدمنين
وأنفاق عيون المستلقين
المنقادين إلى صندوق الغرائب والدهشة
في رؤوس كانت حانات وأرصفة…
ليتابع في حواره الموجع «عمّا كنا نتحدث؟» عن رجل زاره ليلاً:
طردته
حاملاً علب سردين ومازات لشرب كأس
حدثته عن شوارع وغرباء
الرجل مات
وروحه ستذهب إلى مكان ما
ليس إلى قلب المرأة زوجته
طبعاً
إلى شروش الشجرة ربما
لا يخفي بوصفه الشاعري أفكاراً متضاربة مؤلمة موجعة إلى حدّ التخدّر من ألم المشاعر…
تتراقص قصائد غسان علم الدين في «أخضر في سهول الجراد» على جراح الكلمات، كأنها المشاكسة بين الفكر والأدب. لا تحدياً، إنما أشبه بانتفاضة تحقق أهدافها الثقافية المطلوبة في عصر التطور التكنولوجي وسرعة التعبير المطلوبة، حتى في النص الشعري. تكسر قاعدة التقليد لتكون القصيدة العصرية هي سيدة القصر الأدبي، وتترسخ كمدرسة لغوية جديدة ذات أنماط وأشكال وصيغ وتعابير لا تغفل حق أصول المنطلقات الشعرية سواء من حيث المبنى أو من حيث المعنى.