موسكو و»الجيش الحرّ»
ناصر قنديل
– يبدو الفارق بين الديبلوماسية الروسية ونظيرتها الأميركية تجاه الحرب في سورية شبيهاً بالفارق بين الدبابة الأميركية «أبرامز ام60 أي1» والدبابة الروسية «تي 14 أرمانا»، فكلتاهما تملك تصفيحاً ممتازاً ورشاقة قتالية عالية وسرعة وتسديد مزوّد بشاشات إلكترونية وبنوك أهداف ترتبط بالأقمار الصناعية وسلاح الجو ومدافع رشاشة فعّالة، إضافة إلى المدفع المضادّ للحصون والدروع المعدّ للقصف المباشر والمنحني، لكن الدبابة الأميركية معدّة كجيل أبرامز كله للتمدّد في الجغرافيا بسرعة ثم التموضع والتسديد والرمي ثم التمدّد ثانية والتموضع والتسديد والرمي، تماماً كحركة الذئب، تربُّص وانقضاض وحركة فتربّص وانقضاض وحركة بينما أرمانا الروسية آخر منتجات جيل دبابات «تي» المتسلسل وصاحبة الرقم 14 المتأخر عن زميلاتها التي بلغت قبلها الـ82 والـ72 والـ62 فتعتمد كبنات جيلها على الرمي وهي بأقصى سرعتها على بنك أهداف مسبق تتزوّد به قبل الانطلاق، وتمتاز عن شبيهاتها من جيل «تي» أنّ تصويب رمايتها يتمّ وهي تمضي سريعة بواسطة الأقمار الصناعية وسلاح الجوّ لتكمل الرمي والتسديد وهي تقطع المسافات بأقصى السرعة، تماماً كما النسر يخطف سمكة سمينة من تحت الماء وهو ينقض بسرعة 60 كلم في الساعة ويمضي صاعداً بسرعة 40 كلم في الساعة.
– قبل عام ونيّف أعلنت واشنطن الحلف للحرب على «داعش» فكان التسلسل زيارات وجولات وإعلاناً وبدء تنفيذ غارات متفرّقة، بعدما تمّ صدّ هجمات «داعش» على أربيل من دون أن يكون التحالف قد ولد، ومنذ ذلك التاريخ والدبلوماسية الأميركية تتعب وتركض وتُجهد نفسها للجواب عن سؤال: هل لديها خارطة طريق لقتال «داعش»؟ والجواب لا يزال سلبياً، فواشنطن تقول وتكرّر أنّ الشرط الرئيسي لذلك هو وجود قوات يُعتمد عليها في الحرب البرية، وهي لا تملك بين حلفائها مَن هو جدير بذلك، وعلى طريقة أبرامز توضّعت الديبلوماسية الأميركية وسدّدت ورمت وهي لم تتزوّد أهدافاً جديدة لتتحرك نحو هدف جديد وتسدّد وترمي في المقابل بدا خلافاً لواشنطن أنّ موسكو قامت فجأة بالوجود العسكري في سورية وبدأت غاراتها، وأعلنت عن وجود حلف مع سورية وإيران والعراق بعد ذلك، وتابعت سيرها العسكري لتدمير قواعد وتشكيلات لـ«داعش» و«جبهة النصرة» و«جيش الفتح»، ثم بعد أيام فقط بدأ الهجوم البري للجيش السوري بغطاء جوي روسي، والحملة الغربية العربية على روسيا ودورها تتصاعد، فلم تنخرط روسيا بالردود الإعلامية كجبهة تتموضع للقتال وراءها وتنتظر، فتتقدّم الديبلوماسية مثل الدبابة أرمانا تسرع وتسدّد وترمي وتواصل السير وتسدّد وترمي، فكانت في قلب السجال، مفاجأة القمة الروسية السورية التي ضمّت الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والسوري بشار الأسد، وما فرضته من وقائع في السياسة والتفاوض، وتلتها الدعوة للتنسيق الإقليمي الدولي عبر اجتماع فيينا ثم توسيع فيينا، بضمّ مصر وإيران، والحرب تستمرّ وفقاً للخطة المرسومة، أرمانا الديبلوماسية تواصل تقدّمها وتفرض مساحات جديدة للتفاوض، تماماً مثلما تحتلّ الدبابة أرمانا مساحة جديدة من الجغرافيا، فيعلن الرئيس السوري أمام وفد روسي برلماني، عن انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة بعد النجاح في القضاء على الإرهاب.
– مثلما يلهث العالم وراء الحركة العسكرية وجديدها منذ الدخول الروسي على خط الحرب، يلهث وراء المبادرات الديبلوماسية التي يلقيها صنّاع السياسة، ومثل أرمانا الدبابة العسكرية تسير وترمي، الدبابة الديبلوماسية تسير وترمي، ومثلما يناقش العسكريون الأميركيون مساحات التداخل الجوي مع الطائرات الروسية فتفاجئهم الوقائع بتنسيق عراقي روسي سوري إيراني يضرب أحادية الاحتكار الأميركي للجبهة العراقية وعليهم معالجة الفتق الجديد في «البدلة» الأميركية، فيتوجّهون نحوه، وإذ أكراد سورية بتشكيلات لجان الحماية الكردية تنضمّ للحلف الذي تقوده موسكو فيركض العسكريون الأميركيون يعالجون فتقاً جديداً، وفجأة يصل نبأ تدمير الطائرات الروسية مواقع تكتّل العزم الذي سلحته واشنطن من متفرّعات «القاعدة» سراً شمال حمص، فيحار العسكريون الأميركيون بما يجب فعله، وهكذا لم تكد الديبلوماسية الأميركية تلتقط أنفاسها مع مبادرة روسية لحلف دولي إقليمي وتتراكض مع حلفائها لتحديد جداول التفاهمات والخلافات، حتى تدحرجت رمانة جديدة من السلة الروسية، تتحدّث عن مرحلتين واحدة للحلف ضدّ الإرهاب لتأهيل المهيّئين للمشاركة في الحلّ السياسي، ثم مرحلة الحلّ السياسي ومحورها انتخابات، والمحدلة العسكرية تتقدّم لمن لا يعجبه أن يكون شريكاً.
– وبينما أبرامز تتأمّل حالها المرتبك وهي متموضعة بعيداً عن خط النار، أرمانا تتقدّم بسرعة نحو أهداف جديدة وترمي أهدافاً جديدة، فعندما تحدّث وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن الاستعداد للتحدّث مع «الجيش الحرّ»، وتحييد مواقعه لكن أعطونا خارطة هذه المواقع متقصّداً السخرية، ظنّ الأميركيون أنّ الأمر سيقف هنا، فتابعت روسيا أنها مستعدّة للتنسيق مع «الجيش الحرّ» ضدّ «داعش» إذا أراد، وأرمانا تتقدّم ولا تنتظر الجواب والردّ، فيعلن نائب وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف أنّ وفداً من «الجيش الحرّ» زار موسكو وأنّ تنسيقاً سيجري، بينما كان الرئيس بوتين قد نقل عن حليفه الرئيس الأسد أنّ مشاركة وحدات من المعارضة المسلحة في الحرب على الإرهاب بمنوّعاته ستلقى منه الاستحسان، وتبدو حكاية «الجيش الحرّ» مدخلاً لفهم الأمر.
– رمانة جديدة تتدحرج من السلة الروسية وتربك أقدام الخصوم، فروسيا التي تعرف أغلب الضباط السوريين المتخرّجين من جيل الثمانينيات، تعرف بين الذين خرجوا بوهم ثورة أو تأثير مغريات أو أوهام تسلّم مناصب الكثير الكثير، ومثلما قرّرت واشنطن بلا خطة أن تنشئ معارضتها المعتدلة، وفشلت، قرّرت روسيا وستنجح أن تنشئ هي معارضتها المعتدلة، فلم لا تستخدم يافطة «الجيش الحرّ» التي لم يعد أحد يملأها بعدما أفرغتها «القاعدة» مع خروج جماعتها من صفوفه وبقائه مجرد يافطة، وكأنّ روسيا بدأت تجمع من هؤلاء من يريدون العودة إلى بلدهم ودولتهم بعرض تضمن قبوله من الدولة السورية والجيش السوري، تعالوا كونوا أنتم «الجيش الحرّ» وانخرطوا في الحرب بدعم روسي وتنسيق مع جيشكم الأم، وبعد نهاية الحرب سيكون لكم فرصة الدمج بالجيش أسوة بالدفاع الوطني، كما تقول المبادرة الروسية، وانشطوا وسط الجنود والضباط الفارّين أو المنشقين الذين يتذمّرون من تحوّلهم أدوات بيد المنظمات المتطرفة والدول المتربّصة ببلدكم وتجمّعوا وفقاً لتشكيلات تحمل اسم «الجيش الحرّ»، ويبدو أنّ «الجيش الحرّ» كما الحرب على الإرهاب، يافطة صنعتها أميركا ستحسن روسيا استخدامها، وأرمانا لا تزال ترمي وتتقدّم بينما أبرامز تقف مكانها في حال ذهول.