سورية… صراع المعروض الروسي والإشباع الأميركي
د. محمد بكر
بعد جولاتٍ وصولاتٍ أقلّ ما يمكن أن توصف بالحامية لطائرات السوخوي الروسية في السماء السورية دكّت خلالها معاقل لتنظيم «داعش» وغير «داعش» مما يصنّف أميركياً بأنه معتدل، وبعد سلسلة من الطلعات و«البلاءات» الحسنة، التي تبدو «كجرعة» دوائية مبدئية لتقليل الهيجان في جسد الولايات المتحدة وحلفائها، تدخل روسيا في «فاصل» سياسي لإعطاء قسط من التشاور والبحث السياسي، تصدر خلاله جملة من الرسائل السياسية لتكرّس فيها نظرتها الثابتة السياسية منها والعسكرية حيال الأزمة السورية، لم يجد الرئيس فلاديمير بوتين أيّ حرج في أن يقولها للرئيس بشار الأسد: كما دعمناكم في العملية العسكرية سندعمكم في العملية السياسية، كلماتٌ كان يدرك الأسد ويتلمّس سماعها، كيف لا وهو الذي سافر إلى موسكو كما يقول يارون شنايدر محلل الشؤون العربية في القناة «الإسرائيلية» الثانية ليضع مفاتيح المفاوضات السياسية في يدي بوتين، مضيفاً: «إنّ الأسد حصل على الحصانة»، هذه المفاتيح التي صنعتها المؤسسة العسكرية السورية وحلفاؤها من خلال يوميات الميدان السوري، بالتزامن مع الطلعات الجوية الروسية التي وجدت وتلمّست من خلالها وزارة الدفاع الروسية ما سمّته التغيّر الجذري على الأرض، ومن هنا نفهم المعروض الروسي الحاضر في ساحة الكباش السياسي مع أميركا وحلفائها لناحية الاتصالات التي أجراها بوتين بعد لقائه الأسد مباشرة، مروراً بمؤتمر فالداي، ثم محادثات فيينا التي دعا فيها لافروف إلى ضرورة توسيع دائرة المشاركة لتشمل كلاً من إيران ومصر والإمارات وقطر، هذا المعروض الذي رسم قوامه وموجوداته التدخل الروسي بالطبع لجهة ماهية الحلّ السياسي الذي سيصاغ خلال المرحلة المقبلة وفق المعايير الروسية وبمشاركة أميركية، لكن وفق محدّدات روسية أولها بقاء الأسد.
وحده الصراخ والزعيق والسقف العالي للسعودية وفرنسا وتركيا يبقى الأكثر حضوراً في المشهد السياسي الحاصل، وبالطبع هو انعكاس بشكل أو بآخر للإرادة الأميركية التي لا تزال عينها تبحث عن موقع مؤثر في بحث العملية السياسية كما أعلن كيري.
يقول الكاتب والمحلل السياسي في صحيفة «كوميرسانت» الروسية سيرغي ستروكان: «إنّ التدخل الروسي في سورية جاء ليحدّد من يضع قواعد اللعبة الدولية ومن يدير المسرح، مضيفاً أنه بعد «إذلال» الاتحاد السوفياتي وانهياره على يد الولايات المتحدة، ونجاحها في تظهيره كقوة ضعيفة آنذاك هو ما يشكل الدافع لموسكو اليوم في لعب دور دولي أساسي في ملفات ومشكلات المنطقة»، وهذا القول يشكل في اعتقادنا توصيفاً دقيقاً لماهية التحرك الروسي الحاصل في الساحة السورية، فما أسّس بطبيعة الحال لتحالف متين بين روسيا وسورية والذي هو موجود سابقاً منذ عقود، لكن ما أكسبه الزخم الحاصل هو ما أفرزته الحرب السورية من مشاهد شكلت في حيثياتها الفرصة الذهبية لإعادة الأيام الخوالي للاتحاد السوفياتي، والانتقام من الخصم اللدود الحاضر بقوة في الساحة السورية عبر الأدوات القاعدية التي تجرّع من خلالها السوفيات كأس العلقم في أفغانستان، وهو ما يدركه الأميركي جيداً وتصل خلاله فحوى الرسائل الروسية جراء التدخل العسكري في سورية، وهو يتلمّس كذلك أي الأميركي جدية الروسي في طريقة تعاطيه مع «داعش» وأخواتها، على قاعدة «القضاء المبرم والنسف الكلي لتلك المجاميع».
من هذه الزاوية نفهم ونقرأ توقيت ومدلولات ما أعلنه وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر في اليوم نفسه الذي انتهى فيه لقاء فيينا لجهة أنّ التحالف أسقط أطناناً من الأسلحة والذخيرة لمن سمّاهم السوريين العرب من المعارضة، إذ لا يزال الأميركي يصرّ على عدم الانخراط في المعروض والرؤى الروسية التي تحقق «منفعة» دون مستوى الإشباع السياسي الأميركي منها تحقيقاً لتوصيف كيري لجهة البحث عن موقع مؤثر في الحلّ السياسي.
صحيح أنّ واشنطن قد فوّتت على نفسها فرصة قيادة الحرب على الإرهاب بالاشتراك مع الروسي، لكنها لن تخلي المكان لروسيا في سورية بحسب طلب السيناتور الجمهوري تيد كروز، وفي اعتقادنا أنّ استمرار السياسة الأميركية بهذا العناد السياسي وعدم التسليم بنصيحة ثعلبها هنري كسينجر لجهة أنّ التدخل الروسي قد غيّر الهيكل الجيوسياسي للمنطقة الذي بقي ثابتاً منذ حرب تشرين، وأنّ على أوباما الاتفاق مع بوتين، لن يفوّت على أميركا فقط فرصة قيادة الحرب على الإرهاب بل سيجرّها إلى مطارح أكثر انهزامية، ولا سيما بعد ما أعلنه بوتين لجهة أنّ الأسد يرحب بمشاركة المعارضة المسلحة في الحرب على الإرهاب، وذلك لاستقطاب ما قد تعوّل عليه أميركا في المرحلة المقبلة على الأرض، إضافة إلى توحد رؤى ونظرة المجتمعين في قمة فالداي لجهة التسليم بعدم وجود جهد دولي لمكافحة الإرهاب، والإجماع على عقيدة وعزم إيران الراسخ في محاربة هذا الإرهاب، ما يؤمّن بالضرورة مفاعيل وازنة سياسياً وعسكرياً للحراك الروسي.
ما بين معروضٍ روسي يقدّم صيغة تشاركية للحلّ السياسي في سورية وجملة من المنافع السياسية لكي يتقاسمها الجميع تظهيراً وتدعيماً لمعادلة رابح ـ رابح، وبين مماطلة أميركية لا تُشبع فيها الرغبات السياسية إلا باستمرار نزيف الدم وتكثيف الفوضى الأميركية في المنطقة، يمضي الروسي قدماً في تفصيل مقاساته العسكرية والسياسية والاقتصادية في المنطقة ولسان حاله يردّد: شاء من شاء وأبى من أبى.
كاتب فلسطيني