روسيا وسورية بصوت عالٍ: كفى لعباً بمصائر البشرية

حاتم الشلغمي

«العالم يتغيّر»… هكذا كان عنوان مقدّمة كلمة الرئيس فلاديمير بوتين ضمن أشغال الجمعية العامة للأمم المتحدة، منتقداً تقصيرها في التعامل مع ملفات العالم منذ انتهاء الحرب الباردة، مقرّراً شنّ هجوم دفاعي، مؤكّداً على ضرورة لجم الاندفاعة الأميركية بعد انكشاف استراتيجيتها في الشرق الأوسط بخاصة والعالم بعامة نحو فرض قرارها بأشكال التدخّل في شؤون البلدان السياسية والاقتصادية والاجتماعية عبر تحطيم مؤسسات الدول وتهشيم مقدّراتها وتفتيت خرائطها وتذرير نسيجها المجتمعي، خصوصاً مع تصعيد وتيرة الحرب على الدولة الوطنية السورية واتساع الرقعة الجغرافية لقوى الإرهاب «الداعشي» و«النصروي» المدعوم تركياً وسعودياً وفرنسياً و«إسرائيلياً»، في كلّ من سورية والعراق، وأمام توافر أعداد هائلة من الصينيين والروس في صفوف هذه التنظيمات، علاوة على تطوّر الأحداث في أوكرانيا والتي تعامل الغرب في ملفها مع روسيا «بشكل مهين»، كما أشار الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في لقائه على قناة «المنار»، مما يفتح المجال واسعاً أما تساؤل جدّي: هل باتت روسيا حقيقة ضمن قائمة الدول التي يراد كسرها؟

انطلاقا من هذا السؤال وأمام تكاثر الحديث والصخب حول الوجود الروسي في سورية و«الاندفاع» الحربي الروسي على الأرض السورية يمكننا تقسيم مقالنا إلى عدة وحدات عبر طرح عديد الأسئلة: ما هي رهانات روسيا في سورية؟ أيّ أفق للدخول الروسي على خط المواجهة السورية؟ وما هي أهداف روسيا في العالم؟ أو بالأحرى كيف تنظر روسيا إلى السياسة الدولية؟

روسيا بوتين وسورية الأسد

غير مستغرب أن يوجد قائدان من طراز الرئيس فلاديمير بوتين، وهو من نتاج تاريخ مجد المرحلة السوفياتية ومن عمق المؤسسة الاستخبارية الحربية الروسية، والرئيس الدكتور بشّار الأسد، من نتاج الجمهورية العربية السورية بتاريخها الحافل بمقوّمات الهوية عبر خطاب الحق التاريخي وابن مؤسسة وطنية عقائدية أضحت رمزاً للصمود والعطاء «الجيش العربي السوري»، أن يتقاسما النظرة ذاتها إلى سياسات الإدارات الأميركية المتعاقبة التي تنظر إلى «قريتنا الكونية الصغيرة» بعيون صهيونية، وتخوض حروب الداخل والخارج السياسية والعسكرية والاقتصادية وفق حسابات الكيان «الإسرائيلي» ومن منطلق مفهوم «أمن إسرائيل الاستراتيجي».

قد مثّل اللقاء التاريخي الذي كان قد حصل بين القائدين في الكرملين منذ عقد من الزمن استدارة تاريخية استراتيجية عبر إعلان موسكو، والذي يرسم للخط الروسي السوري ملامح سياسية جديدة قوامها لجم الاندفاعة الأميركية وطموحاتها الصهيونية الإقليمية والدولية التي استثمرت وقائع المنطقة فساعدت على تهيئة مناخ مساعد على نمو ونشر الإرهاب في مناطق عدة من العالم تحيط استراتيجياً بـ«إسرائيل» المُراد لها أن تكون «القوة الوحيدة المهيمنة على المنطقة ومقدّراتها الاستراتيجية». وتتجلّى مفاعيل إعلان موسكو طوال زمن أزمة «النظام العولمي» في سورية منذ قرابة خمس سنوات، حيث قامت الدولة الروسية بقيادتها البوتينية بدعم الحكومة والقيادة والشعب السوري سياسياً عبر مجلس الأمن وعسكرياً عبر تنفيذ العقود المبرمة بين البلدين، واقتصادياً عبر آليات عدّة لتعزيز صمود الدولة الوطنية في مواجهة حرب كونية وحشية تستهدف سورية الجغرافيا والدولة والموقع الجيوسياسي الرافض للسياسات الأميركية والواقف عقبة كأداء في وجه المشاريع الإخضاعية الصهيونية. بل تطوّر هذا الدعم حين حاولت الإدارة الأميركية إشعال حرب إقليمية، عبر التهديد بشنّ عدوان عسكري على سورية في شهر آب 2013، فأجهضته روسيا بحنكتها السياسية والديبلوماسية من جهة وحسمها العسكري عبر حادثة إسقاط الصاروخين الباليستيين الأميركيين وتشغيل أجهزة الاستعلامات المركزية ووضعها في خدمة الدفاعات السورية ووضع سورية تحت المظلة النووية الاستراتيجية الروسية، وصولاً الى التصعيد الأخير في وتيرة المواجهة، والذي استدعى لأن تقوم روسيا بدورها الشرعي في مساعدة الدولة الوطنية السورية والحكومة العراقية في مواجهة خطر التنظيمات الإرهابية المختلفة المتعاظم أمام تزايد أعداد العناصر الإرهابية المتوافدة على الجغرافيا السورية والعراقية.

رهان روسيا في سورية: حرب استباقية أم دفاع مشترك؟

تصاعدت وتيرة التصريحات الروسية منذ فترة سواء على مستوى الخارجية الروسية أو الدفاع أو مستوى الرئاسة حول التحذير من خطورة الوضع في الشرق الأوسط أمام تزايد أعداد الإرهابيين وتعاظم قدراتهم التسليحية من جهة، وحول عدم جدية التحالف الذي شكّلته الولايات المتحدة والذي لا يمتلك شرعية سياسية ولا قانونية على الأقلّ على مستوى الدولة السورية… بدليل توسّع الرقعة الجغرافية لتنظيم «داعش» أمام ناظري قيادة هذا التحالف الذي «نسمع عن عدد غاراته ولا نصل إلى نتائجها» كما عبّر وزير الخارجية السوري السيد وليد المعلّم في كلمته بالأمم المتحدة ممّا يؤكّد التطابق في النظرة والقراءة بين القيادتين الروسية والسورية.

ثم أمام التطورات الراهنة التي وقعت في الجغرافيا السورية وأمام ما تمتلكه الإدارة الروسية من معلومات حول مخطّط تدريب وإرسال دفعات من المقاتلين كانت مهيأة لبدء تحرّك يستهدف العاصمة دمشق، قلب العروبة النابض، وبدء هجوم تحت غطاء ناري ضمن عناوين أخرى. وهذا ما يفسّر ما وقع في جسر الشغور وإدلب كتمهيد لما كان مخطّطاً أن يحصل في السويداء كمقدّمة تستهدف دمشق. وهذا ما يفسّر أيضا تراجع القوات السورية عن نقاط محدّدة بهدف إعادة التجمّع والمحافظة على نقاط اشتباك محدّدة تزامناً مع حرب تأمين محيط دمشق غرباً وجنوباً وشمالاً.

هكذا أيقنت الإدارة الروسية، التي انتهجت الحنكة نهجاً والصبر الاستراتيجي آلية في تعاطيها مع حمق ووحشية الغرب المتطاوس بحضارة وديمقراطية وشرف مزعوم، أن الوضع في المنطقة السورية والعراقية لم يعد يحتاج إلى نسق عادي من خلال مجرّد الدعم اللوجستي. فالمستثمرون لإرهاب «داعش» على حساب الخرائط هم أنفسهم المستهدفون لكلّ نقطة للمجال الاستراتيجي الروسي، وهم أنفسهم المتفرّدون بالإدارة السياسية في العالم، والعابثون بالقوانين والمواثيق الدولية التي جعلت من مؤسسة الأمم المتحدة ومجلس الأمن مجرّد أدوات لتحقيق أهداف هؤلاء.

لذلك يمكننا القول إنّ الدخول الروسي على خط المواجهة السورية حرب استباقية لسببين هما: غلق أيّ باب في وجه أي نيّة تطاول الدولة السورية، عاصمتها ومؤسّساتها السياسية والعسكرية ودحر التمدّد الداعشي وبقية التنظيمات الإرهابية الأخرى التي تتضمّن مواطنين من روسيا أو من المنتمين الى بلدان ضمن مجال الاتحاد الروسي الذين إذا اكتسبوا خبرات قتالية وفائض عنف قد يشكّلون تهديداً جدّياً على الأمن القومي الاستراتيجي لروسيا.

أفق الدخول الروسي على خط المواجهة

بعد أولى غاراتها على مواقع الإرهابيين في حمص وإدلب وغيرها، إثر استجابتها لمطلب رسمي سوري بالتنسيق العسكري لمواجهة الإرهاب، بدأ نوع من الهستيريا الإعلامية العربية خصوصاً ونوع من إبداء «مخاوف» من بعض السياسيين الإقليميين والدوليين من «خطورة التعامل الروسي» بحسب زعمهم والذي لم يقتصر على «داعش» بل على «المعارضة المعتدلة»، التي ينفق عليها مليارات الدولارات. بعد ما أعلن هؤلاء عن «رضى مبدئي» لوجود شريك جدّي في محاربة داعش… لكن سرعان ما تبدّلت المواقف بشكل سريع ليصف الرئيس الأميركي العملية الروسية بـ«الحماقة والسقوط في مستنقع سورية» نتيجة تمسّك روسيا بدعم الرئيس الأسد، علاوة على ما صرّح به كيري حول رفض «السنّة» في المنطقة للتدخل الروسي.

طبعاً كان قد أجاب الرئيس فلاديمير بوتين على كلّ ذلك الصخب الإعلامي مصنّفا كلّ التصريحات والادّعاءات على كونها «حرباً إعلامية»، مصرّاً على أنّ روسيا ستستكمل نهجها بحسب الخطّة المرسومة، وهذا ما يجعلنا نقسّم أفق هذا الدخول الروسي، بصفته مساراً جدّياً وحيداً ممكناً لخروج المنطقة، وخصوصاً سورية، من واقع المأساة، الى أربعة أقسام:

– الأول وهو ما قامت به الطائرات الروسية، بحيث قامت بقصف أماكن تواجد قيادات أمنية وعسكرية تابعة لتنظيمات مصنّفة إرهابية بحسب الأمم المتحدة، علاوة على مراكز ذخيرة وسلاح، كانت قد أكدت الأركان الروسية تقويض بنيتها التقنية والمادية.

– الثاني ما سيحصل، وفي هذا القسم تحدّث الكثيرون في الإعلام عن أهداف روسية وإنْ بالغوا في لحظات ما، ولكننا نعتقد أنّ ما سيحصل بالعموم هو أن يتمّ التنسيق التامّ بين الجيش العربي السوري والروسي على أن يشكّل الطيران الروسي غطاء نارياً أوسع للقوات البرية الروسية مما سيساعد على أن يكون التقدّم الميداني أكثر مرونة، وهذا لا يشمل تنظيم «داعش» فقط بل كلّ هدف للجيش العربي السوري، وخصوصاً في المناطق الحدودية الشمالية والجنوبية، ولذلك التقى الرئيس بوتين كلاً من أردوغان وناتنياهو تباعاً محذّراً من أيّ نية للاشتباك، على أن يكون شكل التنسيق شرعياً وقانونياً بأبعاده السورية والروسية وعلى مستوى الأمم المتحدة. ومن هنا يمكننا القول إنّ ما سيحصل هو دحر «داعش» كدور وظيفي يهدف الى تقسيم سورية، ومن ثم الاتفاق على دحر «داعش» كتنظيم.

– الثالث ما يمكن أن يحصل، تحسّباً لأيّ تطوّر مفاجئ قد يحصل سواء تنفيذاً لخطة الهجوم على مركز الدولة السورية أو القيام بردّ فعل ما على التواجد الروسي تحت أسماء أخرى، يمكن لروسيا أن تقيم منظومة دفاع جوّي متطوّرة يقول مراقبون روس عبر مجلة غلوبال ريسرش إنّ منظومة أس-300 موجودة في مواقع سورية محدّدة منذ فترة وذلك لحماية المنشآت الحيوية السورية والروسية على حدّ سواء، وهذا ما سيجعل حركة الطيران «الإسرائيلي» محدودة جداً أو كما وصفها نتنياهو بالحذرة ، ومنعاً لأيّ تغيير لقواعد الاشتباك قد يصل الروس الى مستوى التنسيق التامّ مع حزب الله إلى جانب الجيش العربي السوري، وهذا ما تداوله الإعلام الصهيوني مؤخراً لأنه بحسب خبراء عسكريون روس: لا يمكن لغطاء جوي مهما كان نوع الطائرات أن يغيّر الموازين إلا إذا كانت وتيرة التنسيق مع القسم البرّي عالية.

– الرابع ما لن يحصل، ونجيب في هذا القسم على كلّ ذلك الصخب في الإعلام حول استقدام الجيش الروسي لجنوده وآلياته إلى سورية، وهذا ما لن يكون إلا إذا دعت الضرورة القصوى. فسيناريو أفغانستان لا يزال في الوجدان العسكري لورثة الجيش الأحمر ، لا وجود لآليات روسية بطواقمها على خطوط التماس، باستثناء ما يخصّ اتفاقيات التسليح السوري، وما يخصّ فرق الصيانة والذخيرة التي تحتاجها الطائرات الروسية في عملياتها. لا حظر جوياً على من ينسّق مع السوريين، وأيّ حديث عن غلق روسيا للمجال الجوي السوري لا صحّة ولا معنى له.

إذاً… بشكل عام، أهداف التواجد الروسي هي حماية استمرارية الدولة الرسمية الشرعية السورية بقائدها بشار الأسد وجيشها العربي السوري، من أيّ خطط تنوي إسقاط المنطقة في أيدي الجماعات الإرهابية المتعدّدة والمختلفة الأسماء والأشكال. تحديد حدود جغرافية معينة لتنظيم «داعش» بهدف تشكيل مسار سياسي توافقي على ضرورة التنسيق الجماعي لتخليص المنطقة من هذا «المارد» ثم تأمين فعالية ودور التواجد الروسي في منطقة الشرق الأوسط كشكل من أشكال تحقيق التوازن.

خلاصة القول روسيا تقود العالم إلى الابتعاد عن لغة التصابي والتسليم بمنطق التعقّل في التعاطي مع الملفات بشكل لا يسمح أبداً لإسقاط مفاهيم الدول والقانون والمؤسسات حتى وانْ كانت القيادات «لا تروق للبعض» فما بالك بدول تنتهج نهجاً مستقلاً وهذا حقّ منطقي يجب استيعابه.

تعدّدية قطبية تحتكم للقانون والمؤسسات

هكذا هي روسيا بقائد استثنائي من طراز فلاديمير بوتين حريص على استعادة مكانة روسيا وترسيخ دورها كقطب حقيقي فاعل في إدارة السياسة الدولية لا يمكن تجاوزه أو الاستهانة به بأيّ حال من الأحوال.

وهذه سورية بقائدها الصامد الواثق بشّار الأسد بنهجه السياسي الاستراتيجي الوطني الذي انتهجته الجمهورية العربية السورية منذ سنة 1970 القائم على السيادة والكرامة والاستقلال الحقيقي عبر تلاحم القيادة والجيش والشعب في مواجهة المشاريع الاستعمارية والتدميرية والتقسيمية.

هاتان القيادتان، تعيدان مع من تحالف معهما، صياغة المنطقة بعد أن أنهكتها ألاعيب المستخفّين بمصير كوكبنا،

انه حراك دولي تقوده موسكو تأسس على الصمود السوري الأسطوري الإعجازي في وجه المشروع الصهيو- أميركي الاستعماري يضع حدّاً للتلاعب بالمنطقة جراء جشع ووحشية الإدارات الصهيونية وشركاتها الاحتكارية.

هكذا غيّرت الجمهورية العربية السورية وجه العالم، حيث فرضت بصمودها شجاعة لدى حلفائها الحقيقيّين لتكريس تعدّدية قطبية مفروضة على السياسة الدولية كواقع لا تراجع عنه، مهما كلّف الأمر ومهما اتسعت الخيارات.

انّ ما يجمع بين روسيا الأرثودوكسية والصين بدينها الشعبي وإيران الإسلامية وسورية القومية العلمانية، ليس مجرّد «مصالح»، على أهميتها ووجوبيتها ومشروعية وجودها. بل هدف وحيد مشترك، انتهاء زمن اللعب بمصائر البشرية، وهذا لا يتحقّق إلا بدعم النهج المستقلّ للدول ودعم مؤسّساتها الشرعية وفتح آفاق للأمل أمام الشعوب للتقدّم المجتمعي والتقني بعد أن أغلقت السياسات الامبريالية الأبواب أمام مفهوم الحياة. ومن هذا المنطلق يكون هدف روسيا وسورية المشترك عبر الأمم المتحدة ومجلس الأمن كمؤسّستين شرعيّتين مرجعيّتين لتفعيل القانون الدولي الذي عبث به العابثون وتحقيق الأمن والسلام الدولي الذي قوّضته السياسات الصهيونية منذ تفرّد الولايات المتحدة بتشكيل القرار الدولي خدمة لمصالح ضيّقة.

هكذا قد تغيّر العالم…

كاتب تونسي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى