موسوعيّ توزّعت كتاباته على مختلف العصور القديمة والوسطى والحديثة وكتابه عن محمّد علي هو المرجع الأوفى
مصطفى عبدالله
حافظ على استقلاليته رغم أنه أحد أبناء المدرسة الوطنية في التأريخ لمصر، تلك المدرسة التي ضمت لطفى السيد، وطه حسين وسليم حسن ومحمد كامل مرسي ومصطفى عبدالرازق، إلاّ أنه تتلمذ مباشرة على يد المؤرخ البريطاني الأشهر أرنولد توينبي الذي أشرف على رسالته لنيل درجة الماجستير من جامعة لندن، وكان موضوعها «بدايات المسألة المصرية وظهور محمد علي».
إنه الدكتور محمد شفيق غربال الذي لا يعرف كثر منا أنّ حي «غربال» في الإسكندرية يحمل اسم عائلته، وولد فيه في عام 1894.
يقول المؤرخ الدكتور أحمد زكريا الشلق في تقديمه للمجلدين الضخمين الصادرين لدى مركز تاريخ مصر المعاصر في دار الكتب والوثائق القومية، تحت عنوان «تراث محمد شفيق غربال.. البحوث والمقالات»، وقام بجمعه وتحريره ودراسته الدكتور حسام أحمد عبدالظاهر: بدأ «غربال» تعليمه الإبتدائي في هذا الحي، وواصل تعليمه الثانوي في مدرسة رأس التين، والتحق بعد ذلك بمدرسة المعلمين العليا في القاهرة، تلك المدرسة التي خرّجت لمصر عددًا من رواد النهضة الأدبية والعلمية بينهم الدكتور أحمد زكي وإبراهيم عبدالقادر المازني والشاعر عبدالرحمن شكري ومحمد فريد أبوحديد وعبدالحميد العبادي وآخرون. وأتم دراسته فيها عام 1915 ليحصل على بعثة حكومية لدراسة المواد الإجتماعية والتاريخ في جامعة ليفربول في إنكلترا، حيث نال درجة البكالوريوس بمرتبة الشرف عام 1919، وعاد إلى مصر ليعمل مدرسًا في التعليم الثانوي في الإسكندرية لنحو ثلاث سنوات، ثم أرسل مجدداً إلى إنكلترا لاستكمال دراسته العليا فالتحق بمدرسة الدراسات التاريخية التابعة لجامعة لندن».
في مقدمة هذا الكتاب يوضح لنا الدكتور الشلق أن شفيق غربال التقى في جامعة لندن بالمؤرخ الكبير أرنولد توينبي الذي أعجب بكفاءته، فأشرف على رسالته التي نشرت في لندن عام 1928 ولم يقدر تترجم إلى العربية رغم أهميتها، ليس لأنها أهم أعماله الباكرة فحسب، بل لأنها كانت من الكتابات الرائدة الموثقة التي عالجت فترة مهمة من تاريخ مصر بين حملة بونابرت عام 1789 وصلح بوخارست بين روسيا والدولة العثمانية عام 1812، فربطت الدراسة بين حوادث مصر والموقف الدولي، كما ربطتها بالمسألة الشرقية وتاريخ الدولة العثمانية. وأهدى «غربال» رسالته إلى توينبي باعتباره «معلمًا عظيمًا وأستاذًا ملهمًا».
بعد نيله درجة الماجستير لم يقدر لـ»غربال» إتمام دراسته لمرحلة الدكتوراه، إذ انتهت مدة منحته، فعاد إلى مصر عام 1925 ليعين مدرسًا للتاريخ في مدرسة المعلمين العليا حتى عام 1929 عندما نقل أستاذًا مساعدًا للتاريخ الحديث في كلية الآداب بالجامعة المصرية، في حين كان الأساتذة الأجانب يحتلون معظم كراسي الأستاذية في التاريخ الحديث، خلفًا للمؤرخ الإنكليزي آرثر غرانت، ليصبح أول مصري يتولى هذا المنصب الرفيع. ثم لم يلبث أن انتخب عميدًا لكلية الآداب عام 1939 خلفًا للدكتور طه حسين، وسرعان ما نقل إلى وزارة المعارف بعد سنة ليعمل في خدمة التربية والتعليم كوكيل مساعد للوزارة حتى عام 1942، فأعادته وزارة النحاس باشا للعمل في الجامعة مرة أخرى لمدة ثلاث سنوات، وعاد مستشارًا لوزارة المعارف، فوكيلاً لها، ثم نُقل وكيلاً إلى وزارة الشؤون الاجتماعية لفترة قصيرة، وإن حرص على أن يظل أستاذًا غير متفرغ في الجامعة حتى بلغ السن القانونية عام 1954. وكان واضحاً أن حفاظه على استقلاليته وعدم تورطه في الحياة الحزبية كانا وراء كثرة تنقله بين الجامعة ووزارة المعارف.
يشير الشلق إلى أن غربال كان عضوًا نشطًا في جمعية الآثار القبطية المصرية والجمعية الجغرافية المصرية والمجمع العلمي المصري ومجمع اللغة العربية، وكان عضوًا مؤسسًا في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الإجتماعية، والمجلس الأعلى للآثار، ومثل مصر في عدد من المؤتمرات التاريخية العالمية، وانتخب عضوًا في المجلس التنفيذي لليونسكو بين 1946 و1950 ممثلاً للشرق الأوسط.
كرمته الدولة فمنحته جائزتها التقديرية في العلوم الاجتماعية عندما رشحته جامعة عين شمس عام 1960 لنيلها، أي قبل وفاته بسنة تقريباً، وكان دعا أستاذه توينبي إلى مصر لتمضية عطلة الشتاء، لكن القدر لم يمهله فتوفى في تشرين الأول 1961 بعد مرض قصير، فرثاه أستاذه بمقال في جريدة «التيمز» رثاءً علميًا رفيعًا فور علمه بوفاته، وعندما جاء إلى مصر شارك في حفل تأبينه في مجمع اللغة العربية.
يستهل الباحث الدكتور حسام أحمد عبدالظاهر مشروع نشر تراث غربال بطرح عدة أفكار توضح لماذا لم يجمع غربال بنفسه بحوثه ومقالاته ومحاضراته بين دفتي كتاب في حياته، والمشاكل التي واجهت الباحث في إخراج هذا التراث للنور. ويكشف أنه على امتداد نصف القرن الفائت لم يجمع أحد تراث هذا المؤرخ الكبير، رغم أن عدداً كبيرًا من المفكرين والمبدعين طالبوا بضرورة الاهتمام بجمع تراثه، وفى مقدمهم الدكتور محمد أنيس والأديب محمد فريد أبوحديد وعملاق الأدب العربي عباس محمود العقاد الذي قال: «كان للتاريخ من فكره القويم حظ عظيم، وإن من حقه على التاريخ أن يكون له حظه العظيم بين صفحاته وآثاره، وهذا هو الجزاء الحق الذي يتولاه خاصته وذووه وتلاميذه ومريدوه، وهم، بحمد الله، كثيرون يستطيعون ـ وفاءً له وللتاريخ الذى أحبه وأحبوه ـ أن يمدوا في علمه بالاجتهاد في جمع آثاره واستقصاء المطبوع والمخطوط من كتبه وأوراقه، وكلها منتظر نافع، وكلهم قادر على أداء هذه الأمانة والوفاء بهذا الواجب، عسى أن يكون فيه بعض العِوض عن عمله الذي انقطع».
يسجل الدكتور حسام أحمد عبدالظاهر أن هذه الدعوات للاهتمام بتراث الرجل التي ارتفعت في السنة نفسها التي رحل فيها شفيق غربال، لم تتحقق إلاّ في عمل واحد، وهو قيام «المراقبة الثقافية بالإذاعة المصرية» بجمع بعض أحاديثه الإذاعية وطبعها سنة 1962 في كتاب تحت عنوان «من زاوية القاهرة»، وما عدا ذلك لم نجد من يتصدى لجمع تراث الراحل الكبير طوال العقود الماضية! وفي النهاية يرجع الباحث أسباب عدم قيام شفيق غربال نفسه بجمع تراثه إلى طبيعته التى جبل عليها، والمتمثلة في صفاته العلمية لناحيتي التدقيق الشديد ومعاودة الفحص في كل ما يكتبه هي التي حالت بينه وبين جمع بحوثه ومقالاته.
يوضح الدكتور حسام عبدالظاهر أن ما يضمه هذا الكتاب هو ما استطاع العثور عليه خلال سنوات عديدة من بحوث ومقالات غربال، وهو ما يزيد على مئة وعشر مواد مكتوبة لهذا المؤرخ الرائد تتوزع على بحوث ومقالات ومحاضرات وتقارير وأحاديث إذاعية وحوارات صحافية، وعروض وتحليلات لبعض الكتب، ومقدمات كتبها لكتب بعض أصدقائه وتلاميذه وبعض خطط المشاريع العلمية.
يؤكد الباحث موسوعية شفيق غربال من خلال المادة التي جمعها من آثاره، وتتوزع على مختلف العصور التاريخية القديمة والوسطى والحديثة، ما يشير إلى أنه كان مؤرخًا موسوعيًا شاملاً، لا يحصر نفسه في إطار ضيق، بل يملك الأدوات التاريخية المناسبة ليكتب ويدلي برأيه في أي قضية تاريخية إلى أيّ زمن انتمت. فمن مقالاته في التاريخ القديم ما كتبه عن تاريخ الحضارة المصرية، وما كتبه في التاريخ الإسلامي والوسيط بحثه عن الآراء والحركات في التاريخ الإسلامي، ومقالاته عن «العرب في التاريخ»، و»الحضارة العربية في إسبانيا»، وكذلك مقالته في دائرة المعارف الإسلامية التي يرد بها على المستشرق «لامنس» في ما كتبه عن الشام. وممّا كتب في التاريخ العربي والإسلامي الحديث «التجمع والتفرق في الشرق العربى» و»تونس المعاصرة» و»الجمهورية التركية»، وممّا كتبه في التاريخ الأوروبي الحديث «حديث وكتب عن إيطاليا الحديثة» و»الدستوران الإنكليزى والأميركي».
يلاحظ الباحث أن لمصر موقعاً متميّزاً في إنتاج شفيق غربال، فبالإضافة إلى ما كتبه في التاريخ المصري، ثمة مقالات أخرى تظهر مكانة مصر ومركزها وثقلها ودورها الحضاري، ومنها مقالته «مركز مصر السياسي»، ويتصل بذلك اهتمامه بدراسة جذور فكرة الاستقلال المصرية، ويتمثل ذلك في تلك المحاضرات التي ألقاها في الجمعية الجغرافية تحت عنوان «الجنرال يعقوب والفارس لاسكاريس ومشروع استقلال مصر سنة 1801»، كما أن متتبع بحوث غربال ومقالاته يلاحظ اهتمامه الكبير بالتاريخ المصري في القرن التاسع عشر، وبخاصة عصر محمد علي، الذي اهتم به على نحو كبير، ويؤكد هذا الاهتمام أنه بجانب كتابيه المعروفين «بداية المسألة المصرية وظهور محمد علي»، و»محمد علي الكبير» له عدة مقالات وأحاديث إذاعية ومقدمات كتب تناولت جوانب مختلفة من تاريخ «محمد علي» لم ينتبه إليها من أعادوا طبع كتابه عن «محمد علي»، وكان الأجدر إرفاق مثل هذه الكتابات الطبعات الجديدة للكتاب.
اهتم شفيق غربال كذلك بتاريخ وادي النيل ووحدته في العديد من أعماله، فكتب عن «أبناء الوطن المصري السوداني في القرن التاسع عشر» و»السياسة البريطانية والوطن المصري السوداني»، فضلاً عن مقدماته لبعض الكتب مثل كتاب «البكباشى المصري سليم قبطان والكشف عن منابع النيل» لنسيم مقار، وكتاب «معالم تاريخ سودان وادى النيل» للشاطر بصيلي عبدالجليل، وكتاب «المنافسة الدولية في أعالي النيل 1880 ـ 1906» لعلي إبراهيم عبده. ويذكر أن هذا الكتاب الأخير كان في أصله الرسالة العلمية التي حصل عنها مؤلفها على درجة الدكتوراه من كلية الآداب في جامعة الإسكندرية سنة 1957 تحت إشراف محمد شفيق غربال.
في المجلد الأول الذى يقع في 508 صفحات نقرأ فصولاً من السيرة الذاتية لشفيق غربال سجلتها عدة أقلام، بينها ما كتبه عبدالتواب عبدالحي على صفحات مجلة «الإذاعة» وتستهل باعتراف لغربال قائلاً فيه: «أنا لا أصنع التاريخ، ولكني أكتبه… كتبت عن جميع الناس، ولم أكتب مرة عن نفسي». وتتواصل فصول هذه السيرة بقلم غربال نفسه في كتاب «علمتنى الحياة» الذي أشرف على إصداره الدكتور أحمد أمين وصدر عام 1953 عن دار الهلال فيقول: «علمتني نفسي أن أتعلم من الحياة أنها تستحق أن أحياها، ولا أدرى علي وجه التحقيق كيف ومتى، ولم بدأت ذلك. أكان هذا لسعد الطالع ـ إن صح أنه كان سعيداً ـ أو كان لنوع المزاج الذي وهبته ـ إن كان هناك معنى لما يقال في أنواع الأمزجة وآثارهاـ أو كان للبيئة السعيدة التي نشأت فيها. وربما كان هذا العامل الثالث أقوى ما أعدني لتعلم الدرس. على أني أعلم علم اليقين أنني منذ أن وعيت، ومنذ أن جاهدت لأقيم أفعالي على أساس من المعقولية، ولأوجهها لغايات مفهومة، وأنا موقن أن الحياة تستحق أن أحياها، وأن نظرتي هذه إليها خليقة بأن تكون دستوراً سلوكياً في فترة العمر، وأن ينظم على أساسها ما بيني وبين الناس».
تتوالى مواد هذا السفر الضخم فنقرأ «الصحراء في الحياة القومية» عبر المحاضرة التي ألقاها غربال في المجمع المصري للثقافة العلمية عام 1950. كما نسترجع أهم الحوادث في تاريخ مصر الحديث من خلال محاضراته في الجمعية الجغرافية الملكية عام 1946.
يضم الكتاب أيضاً نماذج من تعريف شفيق غربال بما لفته من الإنتاج الفكرى لمعاصريه، وفي مقدمتة كتاب «سندباد بحري» للدكتور حسين فوزي قائلاً: «عاد السندباد المصري ـ يقصد الدكتور حسين فوزي ـ من سفره الطويل، وقد عودنا أن يعود محملاً بالطرائف، وأن يشرك قرّاءه في التمتع بلذة الذكرى والفرج بعد الشدة وما عانى من مشقات الطريق. ويحاول الدكتور فوزي أن يخفي ما عانى، فيزعم أن لا فضل له في هذا الكتاب سوى أنه رسم خطته ونظم فصوله، وأضاف أمرًا آخر له خطورته مؤداه أن الحقيقة في مسائل الرأى بعيدة المنال».
كما يورد تاريخًا مجملاً للحركة العلمية في مصر في العصر الحديث، ويكتب عن تاريخ مصر العام وتاريخها قبل عصر محمد علي، وأثناء عصره، وبعده، وعن مصر في القرن العشرين.
أما المجلد الثانى من هذا الكتاب، في 718 صفحة، فهو توثيق دقيق لأوراق غربال المبعثرة في بطون الدوريات ومنشورات الندوات ومحاضر اللجان والمؤتمرات التي ساهم فيها بفيض وافر، ومنها ما كتبه عن التاريخ والمؤرخين، والتاريخ المصري القديم، والتاريخ الإسلامي الوسيط، والتاريخ الأوروبي الحديث، والتاريخ العربي المعاصر. وما كتبه عن الجامعات والتعليم في مصر، وعن منظمة اليونيسكو، ومتفرقات لمواضيع أخرى.
يذيّل الدكتور حسام عبدالظاهر هذا السفر بكشافات تحليلية متعدّدة: كشاف للأعلام، وآخر للأمم والشعوب، وغيره للألقاب والوظائف والحرف، وكشاف للأماكن والبلدان والنواحي، وكشاف القوافي، والكتب والصحف، وكشاف للمصطلحات، وكشاف زمني للبحوث والمقالات.