القومية بين التجديد والتعديل مخاض إيديولوجيات وأحزاب ٣

محمد معتوق

إن إحدى أهم النتائج التي ترتبت على سقوط الإمبراطوريات، كان تأكيد الوجود القومي كوجودٍ حقيقي، لم تقوَ السياسات الإمبراطورية على محوه، فهذه هي القوميات تعود للظهور على مسرح التاريخ وتنهض من بين تفسّخات الإمبراطوريات، لترسم مسارات عميقة الأثر في الاستراتيجيات الدولية، بل لتقود العالم بوحي المصالح القومية.

يقارب الباحث والمفكّر محمد معتوق مفهوم الأمة والقومية من خلال نظريات متعدّدة، منها الماركسية اللينينية والماوية ومساهمتها في خلق الحزب وصولاً إلى الوعي القومي المتجلّي في القومية الاجتماعية. و«البناء» إذ تنشر هذه الدراسة القيّمة فلأن تداعي الأحداث على مدى العالم عاد ليؤكد ويكرس الوجود القومي كوجود حقيقي يتجاوز مرحلة الاستيعاب الأممي التي حاولت فيها الأممية تسفيه هذا الوجود ونفيه كقوّة محركّة للتاريخ.

فـ«البناء» وانطلاقاً من هدفها في نشر الدراسات العقائدية والعلمية والفلسفية، تأمل أن تشهد صفحة الدراسات فيها حواراً عميقاً مسؤولاً وموضوعياً حول المرحلة التي تلت انهيار الأممية وعودة بروز القومية كقوّة فاعلة في صناعة التاريخ، والبحث عن أسباب هذا التحوّل بعد تطبيق النظرية الماركسية ـ اللينينية قرابة 75 سنة. إذ أن سؤالاً يطرح نفسه، وهو حول ماهية القوة الاجتماعية طبقة التي نشأت في ظلّ المرحلة الشيوعية واستطاعت أن تهدّ البنيان الشيوعي وتعود بالمجتمع إلى الحالة الرأسمالية، هل هي المادية التاريخية؟!

إن الإجابة على مثل هذه الأسئلة يوضح طبيعة فلسفة التاريخ وطبيعة القوى المحرّكة له والتي تأتي القومية في مقدّمتها.

في هذا العدد، يشير الكاتب إلى نشأة حركة القوميين العرب في الجامعة الأميركية في بيروت وكيف تطوّرت هذه الحركة شكلاً بتعدد صيغ حزبية، ومضموناً باعتناقها الإيديولوجية الماركسية اللينينية، إضافة إلى انشقاقها إلى جناحين يميني ويساري.

لقد سلّط الباحث الضوء على ما ذهب إليه اليسار اللبناني ممثلاً بالحزب الشيوعي اللبناني وحلفائه، من أن للشهابية إمكانية أن تضع لبنان على أبواب انتهاج طريق التطوّر اللارأسمالي!

إضافةً إلى ذلك، لقد تطرّق الكاتب إلى مجريات تأسيس حزب البعث وتطوّره وإلى ماهية الاشتراكية البعثية وكيفية تكوين حزب البعث العربي الاشتراكي من خلال دمج حزب البعث العربي بالحزب العربي الاشتراكي الذي أسسه أكرم الحوراني.

بين الأمس واليوم

من الكلام الذي نقلناه من خطاب سعادة يتبين أن العمل لما سمي «بالقضية العربية» كان شاغل مجموعات بشرية واسعة في المجتمع السوري وأن بين هذه المجموعات من فهم العمل نضالاً للتحرر من ربقة الاستعمار ـ وبينهم من فهمه ارتداداً الى شكل قديم للدولة الاسلامية الواحدة ـ كما ان بينهم من انطلق من فهم خاطئ لأسس العمل العربي المشترك فسقط في منزلق العرقية والتجانس الدموي.

والتصنيف نفسه يجوز على القائلين بالقومية العربية سواء انتظموا بحركة تقول بالوحدة العربية الشاملة كل أمم العالم العربي أم عملوا مستقلين في الكتابة والدعاوة. فبين هؤلاء من تربى على أنه ينتمي الى كل العالم العربي انتماء قومياً وهو يقول بالقومية العربية ويؤيد الحركات القائلة بها ـ وربما انتهى الى أحداها ـ من دون أن يعيد النظر بهذا الفهم الذي تكون مع نشأته في عائلة أو محيط اجتماعي ذات خلفية دينية لاهوتية.

كما أن بين هؤلاء من نشأ على أن القومية العربية هي الوجود الكامل والقول بغيرها عمل تجزيئي يردد في الكلام عنه ما يقوله الجهال في الفكر والعلوم. وأخيراً فبين هؤلاء سياسيون من الطقم البالي القديم افترض خلافهم السياسي مع الكيانيين أن يتبعوا خطأ فكرياً آخر فقالوا بالقومية العربية، وكان قولهم ـ الذي لا يلزمهم بأي عمل ـ ستاراً لهم من الهجمات الكلامية التي تتهمهم بالرجعية.

وقد ساعد في تسرب هؤلاء الأخيرين الى صف القومية العربية أن بعض التنظيمات التي تقول بهذه الفكرة كان سرياً وبعضها كان مفككاً أو بلا تنظيم. من هنا نجد رشيد كرامي وعبدالله اليافي وعثمان الدنا يقولون بالقومية العربية من دون أن ينتظموا في حزب قومي عربي منظم يفرض عليهم التزامات عملية تجاه انتسابهم اليه.

«وحدة، حرية، ثأر»

نشأت الحلقة الأولى المؤسسة لحركة القوميين العرب في الجامعة الأميركية ببيروت من بضعة عناصر طلابية وكان نشاطها في الجامعة الأميركية امتداداً لمنظمة عنفية هي «كتائب الفداء العربي» وهي من، يقال إنها، قامت بمحاولات لاغتيال شخصيات سياسية وعسكرية واعتبرتها المنظمة مسؤولة مباشرة في الخيانات التي قادت الى هزيمة 1948 وقيام دولة «إسرائيل».

وقد تمت حركة القوميين العرب في اعقاب عام 1948، ويعزو البعض ذلك الى أن معظم الشباب الفلسطيني القادر كان يلتحق بالجامعة الأميركية وينتسب «للعروة الوثقى» نواة القوميين العرب في الجامعة فيمارس عن طريقها نشاطه السياسي والقومي.

ويخلص البعض الى القول بأن الفعترة التي تلت عام 1948 قد ساعدت القوميين العرب كثيراً في توضيح مبادئهم وتحديدها. وعلى الأثر وضع شعار القوميين العرب «وحدة، حرية، ثأر» للتدليل على أن لهم هدفاً بعيداً هو «الثأر» الفلسطيني من «الصهيونية العالمية»، وهدفاً قريباً هو توحيد البلاد العربية كي تتحرر ويصبح بإمكانها أن تحقق الثأر.

من هو «القومي العربي»؟

ومنذ 1948 وحتى 1956 كان القومي العربي هو المثقف الذي يتمرد على الأحزاب القائمة كلها العقائدية منها وغير العقائدية، وهو المطالب بتحقيق الوحدة بين الشام والعراق والأردن من دون انتظار التحرر، فالوحدة في نظره هي سبيل التحرر. وهو أيضاً من يرفض التصريح عن وجود منظمات سرية أو علنية كما يرفض الاعتراف بوجود زعماء على راس حركته ويدعي بأن لقاءه مع رفاقه في الحركة عفوي مع أن السيطرة كانت لفئة من الشباب الرأسمالي والبورجوازي الذين كانوا يغذون نشاط القوميين العرب بتبرعاتهم. وهو أيضاً من يرفض البحث في موضوع الاشتراكية ولتبرير ذاك يذهب حينا الى التعارض مع فكرة الاشتراكية وحينا الى القول بأن ذلك موضوع طرحه سابق لأوانه، وحينا آخر الى انتظار وحدة الدول العربية ومعرفة ما يتوق اليه شعب الدولة الواحدة، وهو، أخيراً، من يعتبر الشيوعية خطراً في مستوى الصهيونية.

وقد انتقل القوميون العرب من «العروة الوثقى» ثم ألغوها وأسسوا «النادي الثقافي العربي» حيث يجتمع الأعضاء ويتعارفون وحيث تلقى المحاضرات وتتخذ المقررات وتعطى التعليمات اليومية للتحرك.

وقد بقي التنظيم غائباً عن الحركة وقياديو الحركة مجهولين في الأوقات العصيبة يبرز منها أحياناً قلة يتحدثون للصحف وللطلبة الذين يحضرون أطروحات عن الفكر السياسي. وقد عرف منهم الدكتوران جورج حبش ووديع حداد وعلي متكو والثلاثة من فلسطين وقد دخلوا السجن مراراً في عهود الحكومات البوليسية.

حتى كان عام 1959 فشهدت الحركة تطورات في الفكر السياسة استتبعت حصول تطورات في التنظيم فبدأ تنظيم الصفوف فيما يشبه الحزب، ولكن بقيت جميع هذه التنظيمات سرية كلياً، كما لبثت سياستهم زئبقية متحركة مع تحرك هذه الرجل الرسمي الصديق في هذا البلد أو ذاك.

وعندما أعلن حلف بغداد قاومته مصر والشام وكان على القوميين العرب أن يحددوا موقفهم بين الشام ومصر من جهة وبين العراق ولكنهم آثروا التزام الحياد، ثم لم يلبثوا أن انحازوا بشكل واضح بأكثريتهم الى صف السياسة الشامية ـ المصرية وأخذوا بشعار «الحياة الإيجابي».

وحين جاءت تأميمات 1961 في مصر كانت ردود الفعل في حركة القوميين العرب انفتاحاً على الساسة الناصرية وتخلياً عن الفكر السياسي اليميني ونشأ في الحركة تيار يتميز بالتعاطف الكامل مع السياسة المصرية، وأصبح يحسب له حساب. ولكن العناصر التقدمية التي كونت هذا التيار لم تلبث في ما بعد أن خرجت من الحركة بعد أن زاد احتكاكها بالتنظيمات السياسية العاملة في كل كيان والمستفيدة من التقارب اللفظي لإيجاد تقارب فلسفي ـ فكري شامل.

اليمين واليسار عام 62

وقبل أن يتحول القوميون العرب عام 68 الى ماركسيين وينقسموا الى تنظيمين تخلى أحدهما تماماً عن مجمل الفكر الحركي القديم وتلكأ الآخر قبل أن يحذو حذوه مع الإبقاء على بعض التمايز، قبل ذلك عقد فرع الحركة في لبنان ثلاثة مؤتمرات أولهما كان عام 1962 والثاني عام 1964 والثالث عام 1965.

نستوضح، في ما يلي، محسن ابراهيم عما جرى في مؤتمر 1962:

«لقد شهد مؤتمر 1962 أول انقسام واضح بين فريقين ضمن الإطار القيادي المركزي للحركة:

ـ الفريق التقدمي الطامح الى اكساب الحركة أفقاً قومياً ثورياً واشتراكياً بورجوازياً صغيراً، والى الالتزام بالبرنامج السياسي التقدمي لحركة التحرر الوطني العربية مجسداً بالصيغة الناصرية. أي الطامح بالتالي الى تصفية البنية التقليدية، الطبقية والإيديولوجية للحركة، وتحويلها الى فصيل بورجوازي صغير تقدمي. وقد كان هذا الفريق التقدمي يضم عدداً من العناصر القيادية من بينها: نايف حواتمه، محسن ابراهيم، محمد كشلي.

ـ والريق اليميني الممثل للقيادة التقليدية المؤسسة والذي كان مشدوداً الى أفكار النشأة الفاشية والبرنامج السياسي اليميني الأصلي للحركة. ومن أبرز عناصر هذا الفريق: جورج حبش، هاني الهندي، أحمد الخطيب، وديع حداد.

وقد كان المؤتمر ميزان الصراع بين هذين الفريقين. إلا أنه في ظل خضوع الفريق التقدمي للتقاليد والعلاقات التنظيمية الفاشية الموحدة بيروقراطياً على رأس الحركة، انتهى المؤتمر الى اتفاق بين الكواليس على مواقف نظرية وسياسية مشتركة طرحت في تقرير داخلي لم يعط الأعضاء بالطبع أية صورة حقيقية عن المناقشات التي دارت والمواقف والآراء التي التزمها وعبر عنها كل من الفريقين، بل اكتفى بأن يسقط على تنظيمات الحركة بمختلف فروعها صيغة النتائج الموحدة التي انتهى اليها المؤتمر. ولم تكن هذه النتائج الموحدة، في حقيقتها، سوى عملية إجهاض للموضوعات التي طرحها الفريق التقدمي نقداً لفكر الحركة الفاشي وبرنامجها السياسي اليمني».

الخروج الى العلن

ويروي ابراهيم أن الفريق التقدمي خلص الى أنه لن يستطيع اكتساب مواقع أساسية إذا هو استمر منضبطاً ضمن أطر العلاقات التنظيمية مصارعاً ضمن جدران القيادة القومية المغلقة على جمهرة الأعضاء. ولذلك كان لا بد من الخروج على العلاقات التنظيمية على امتداد عامي 1963 و1964. فخرجت العناصر القيادية «التقدمية» على قواعد الانضباط مثيرة نقاشات واسعة في صفوف الأعضاء حول موضوعات الاشتراكية والصراع الاجتماعي كما أن «الحرية» مجلة الحركة تطوعت لعرض وجهات نظر تلك العناصر دون انتظار إذن بالنشر من القيادة القومية المركزية.

وهكذا انتقلت الأزمة الى مرحلة العلنية.

وهكذا كادت الأزمة العنيفة المتولدة من التضارب الفكري أن تصل بالحركة الى الانشقاق العلني. واعترف قياديو الحركة بالعجز عن صوغ أية مواقف مشتركة وبوجود «أزمة خطيرة» تتناول وجود الحركة من الأساس، وبأنه لا بد من عقد مؤتمر آخر خلال عام تتقابل فيه وجهات النظر بصورة نهائية ليصبح ممكناً الخروج بنتائج حاسمة تحدد خط سير الحركة مستقبلاً.

وكان مؤتمر عام 1965. وبرزت معه سيطرة الفريق «التقدمي» الرافع شعار: التحام حركة القوميين العرب بالناصرية، والداعي الى «مبدأ الانتخابات ضمن التنظيم في مختلف فروع الحركة» و»نقل مركز الثقل القيادي الى المؤتمرات والقيادات القطرية وتخفيف الصلاحيات المطلقة التي كانت يملكها المؤتمر القومي والقيادة القومية المركزية بموجب النظام الداخلي القديم».

السفارة المصرية والشخصيات الشهابية

وقد كلف القوميون العرب هذا الانحياز أن توظفت الحركة بكاملها، في لبنان على الأخص، في خدمة السياسة المصرية فانتقل مكان اللقاء من «النادي الثقافي العربي» الى السفارة المصرية في بيروت وتوظف أعضاء الحركة عند السفير المصري عيوناً له وآذاناً تنقل اليه المعلومات وترصد له الحركات السياسية العاملة في لبنان.

واعتنقت حركة القوميين العرب الناصرية آخذة بمبدأ التحرر قبل التوحيد وأدخلت الاشتراكية ضمن المفاهيم الحركية. وقطر قياديو الحركة سياستها بالسياسة النصارية بمليون كما تميل، فيعادون من تعادي ويصادقون من تصادق.

كما تحول القوميون العرب عبر الالتحام بالسياسة الناصرية الى حساب الإقطاعات السياسية اللبنانية الموالية لعبد الناصر. وقد غطت هذه التبعية بستار إيديولوجي اعتبر البورجوازية الإصلاحية التي مثلتها الشهابية جناحاً قادراً على أحداث تطور إيجابي في النظام يدفع به بعيداً عن الرأسمالية ـ كما اعتبر أن بالإمكان المراهنة على التناقضات الظاهرية في الطبقة المسيطرة والتحالف مع الجناح المتقدم.

وفي أعقاب حرب حزيران 1967 تولدت نواة لجبهة أحزاب وطنية وتقدمية. كان ذلك في مهرجان أقيم في بتخنيه تكلم فيه خطباء من الحزبين الشيوعي والتقدمي الاشتراكي وحركة القوميين العرب فناقشوا قضايا الإنتاج الزراعي بشكل عام وأزمة تصريف التفاح اللبناني بشكل خاص.

وفي أعقاب المهرجان تشكلت رسمياً «جبهة الأحزاب والهيئات والشخصيات الوطنية والتقدمية» لتضم في بدايتها الأحزاب الثلاثة وبعض النافذين في العهد الشهابي بينهم جميل لحود ونهاد سعيد ومعروف سعد.

وفي أساس نشوء الجبهة أن الشهابية هي القوة السياسية الصاعدة الممثلة للبورجوازية الوطنية والملقى على عاتقها تحقيق إصلاحات جذرية تضع لبنان على أبواب انتهاج طريق تطور لا رأسمالي.

وهكذا راحت صحف الجبهة، أحزابها وشخصياتها، تطنطن «برجال الصف الوطني» والبورجوازية الوطنية المتناقضة مع «الطغمة المالية» حتى تفككت الجبهة بخروج كل الأطراف وبقاء الحزب الشيوعي وحده يعلن من على صفحات الأخبار ضرورة «تقدير حراجة الظرف الذي تمر به البلاد» وإعادة الجبهة الى الحياة من جديد.

وفي المؤتمر القطري الذي عقده فرع الحركة في لبنان عام 1968 أعلن المؤتمر التزامه المبدئي والرسمي بالماركسية اللينينية، وموافقته على «موضوعات 5 حزيران» كما طرحها يسار الحركة بكل فروعها. وخرج من المؤتمر أعضاء تنظيم جديد عرف باسم «منظمة الاشتراكيين اللبنانيين» ثم لم يلبث أن التحم تنظيمياً وإيديولوجياً مع منظمة أخرى نشأت عام 1965 هي «منظمة لبنان الاشتراكي» فولدت «منظمة العمل الشيوعي في لبنان». وخرج من المؤتمر أعضاء آخرون كونوا في ما بعد «حزب الجبهة الشعبية» ثم استبدل الاسم «بحزب العمل الاشتراكي العربي».

الحركة أمس واليوم

لسنا هنا في مجال مناقشة أفكار منظمة العمل الشيوعي أو حزب العمل الاشتراكي العربي ولكننا نريد أن نوضح أموراً عن التحول في حركة القوميين العرب الى الماركسية والانقسام الداخلي بين «تقدميين» و»رجعيين» قبل مؤتمر 1968.

أولاً: عن الجسم البشري الذي سمي حركة القوميين العرب نقول إنه كان في وفاق مع الأفكار المترهلة التي كان يحمل ومع العلاقات التنظيمية التي كانت تسوده. ذلك أن غالبية المنتسبين الى الحركة كانوا يحملون كل أثار التخلف الثقافي والفكري الذي يتصف به المجتمع السوري. وقد اسهم التفكك في الشكل التنظيمي والشعارات الضبابية الفارغة في أن يحكون تعاظم الحركة تراكمياً فسيفسائياً بليداً كما أسهم هذا التعاظم غير المتجانس، لا في وضعيته الطبقية ولا في إطار الوعي الجديد المبرمج والمقنى في نظام حزبي سليم، بالإبقاء على هذا النمط من العلاقات التنظيمية. ثانياً: يقتصر الجناح الماركسي منظمة الاشتراكيين اللبنانيين على مجموعة مثقفين من طلبة ومدرسين وكتاب وأدباء وبورجوازيي فكر. وهو ما اعترف به أصحاب هذه المنظمة حتى بعد نموها المتسارع على حساب الهجائيات التي نظموها ضد الحزب الشيوعي اللبناني أيام ترهله المستمر.

ثالثاً: يتصف الجناح الآخر بأنه يضم في صفوفه أعضاء أكثر نقاوة ومن طبقات دنيا. لذلك كانت علاقتهم بالأفكار القديمة أكثر حميمية. وعلى ذلك فإن تحول حركة القوميين العرب الى الماركسية كان تحولاً فوقياً تقليدياً، ويكون كلام واهمين القول بأن هذا التحول وهذا الانشقاق نتجا من تأثر بنمو الحركة الوطنية التقدمية.

أما الأمور الأخرى، فلا نطبقها في نفس الوقت على حزب البعث العربي الاشتراكي، سوف نتركها الى نهاية الحلقة المقبلة.

نشرت جريدة «البعث» الصادرة في دمشق بتاريخ 5 نيسان 1947 الخبر التالي:

«في الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة الواقع في 4 نيسان 1947، افتتحت الجلسة الأولى لمؤتمر حزب البعث العربي في بهو مقهى الرشيد الصيفي بترديد شعار البعث: «أمة عربية واحدة ـ ذات رسالة خالدة» من قبل الأعضاء جميعاً، ثم اقترح الأستاذ ميشيل عفلق تسمية الأستاذ جلال السيد رئيساً للمؤتمر، وقد وافق الأعضاء بالإجماع على هذا الاقتراح وتقدم الأستاذ جلال السيد وسط عاصفة من التصفيق الى منبر الرئاسة وشكر الأعضاء على ثقتهم، ثم قدم الأستاذ ميشيل عفلق لالقاء خطاب الافتتاح. وقد استقبله الأعضاء بتصفيق حاد عاصف، وابتدأ بتلاوة خطابه بلهجته الرصينة، ثم أعلن رئيس المؤتمر تعيين أمناء السر بموافقة الأعضاء جميعاً: «شاكر الفحام وعبد الرحمن المارديني وعبد المنعم الشريف». ثم قدم الأستاذ صلاح الدين البيطار لإلقاء البيان السياسي، وقد استقبله الأعضاء بتصفيق حاد حينما ابتدأ بتلاوة البيان، فحلل الموقف السياسي تحليلاً دقيقاً في سورية ولبنان ومصر والعراق والأردن وفلسطين والجزيرة العربية واليمن وشمال أفريقيا وسائر الإمارات والجزر العربية وتعرض أخيراً للجامعة العربية وبين موقف الحزب منها. وقد أوضح الأستاذ في بيانه أن الأقطار العربية ترزح تحت عبء الاحتلال الأجنبي أو شكل من أشكال النفوذ الأجنبي، وتخضع أيضاً لنظام اجتماعي فاسد تجثم في ظله على صدر الشعب طبقات حاكمة وضعتها مصالحها السياسية والاقتصادية والطبقية وعقليتها الاقطاعية النفعية ضد مصلحة الشعب العربي، وجعلت منها حجر عثرة في طريق العرب نحو التحرر والوحدة والعدالة الاجتماعية. ثم أعلن الرئيس فتح باب المناقشة. وبعد انتهائها أحيل على اللجنة التنفيذية لوضعه في صيغته النهائية وتقديمه للمؤتمر في جلسة مقبلة. ثم اختتمت الجلسة وانفض الأعضاء. وفي تمام الساعة الخامسة بعد الظهر افتتحت الجلسة الثانية للمؤتمر وقد استهلها الأستاذ ميشيل عفلق بكلمة بين فيها المراحل التي مرّ بها وضع دستور الحزب والأسس الفلسفية القومية التي قام عليها هذا الدستور المقدم الى المؤتمر. ثم ابتدأ أمين السر بتلاوة مشروع الدستور وأعقبه الأعضاء بمناقشته مادة مادة. وبعد أن تم إنجاز المبادئ الأساسية والعامة وسياسة الحزب الداخلية والخارجية تقرر رفع الجلسة الى صباح السبت 5 نيسان عام 1947 لمتابعة مناقشة الدستور».

وتابعت جريدة «البعث» في عددين لاحقين أحداث المؤتمر ونقلت الى قرائها خبر انتخاب الأستاذ عفلق عميداً لحزب البعث العربي والسيدين صلاح الدين البيطار وجلال السيد والدكتور وهيب الغانم بالتزكية أعضاء لهيئة الحزب التنفيذية.

«أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»

وتاريخ السابع من نيسان 1947 أصبح يعتبر تاريخ تأسيس حزب البعث العربي وهو حتى اليوم يحتفل به، لهذه الصفة، في كل عام. غير أن حزب البعث العربي لم يبدأ نشاطه منذ ذلك التاريخ. فبين عامي 1940 و1941 وضعت مبادئ مختصرة «تضمنت جميع النقاط الأساسية في عقيدة الحزب ونصت صراحة على مبادئ الوحدة والحرية والاشتراكية».

قبل ذلك كان تجمع من الشباب المثقف يلتف حول أستاذ من لواء الاسكندرون اسمه زكي الأرسوزي كان أحد أبرز الدعاة لمواجهة خطر تخلي المنتدب عن اللواء للحكم التركي. وكانت شلة المثقفين هذه تتحدث كثيراً عن «الأمجاد العربية» و»بعث الأمة» وغير ذلك. ولكن «البعث» لم يتحول الى حزب منظم إلا على أيدي عفلق والبيطار الذين استعاروا تسمية حزبهم من الأستاذ الاسكندروني.

وفي أولى مراحل العمل لإنشاء حزب البعث العربي، وجد المؤسسون صعوبة كبرى فبعد مضي ما يزيد على ثلاث سنوات لم يصل عدد أعضائه الى العشرة. وفي السنتين التاليتين ظل نمو الحزب بطيئاً ولم ينتعش إلا في العامين الأخيرين 45 ـ 1947 مع ابتداء اشتداد الأزمة بين البلاد والفرنسيين، فبرز حزب البعث الى واجهة العمل السياسي المحلي وأنشأ نادياً له ثم سمح بإصدار صحيفة تنطق باسمه. وأشاع الحزبيون البعثيون منذ بدء نشاطهم أنهم «انقلابيون» وأن الوقت قد حان للشروع في تحقيق هذا الانقلاب وأن الجيل الجديد هو الأداة المهيأة لهذا التحقيق. وأن كل هذه الأسباب: الحاجة للانقلاب وأزوف الوقت وتوفر الأداة، كانت وراء نشوء حزب البعث العربي.

وعرض حزب البعث «مبادئه الأساسية» في مؤتمره الأول فأقر المؤتمرون أن «العرب أمة واحدة لها حقها الطبيعي في أن تحيا في دولة واحدة وأن تكون حرة في توجيه مقدراتها» وأن «الوطن العربي وحدة سياسية اقتصادية ثقافية، وجميع الفوارق القائمة بين أبنائه عرضية زائفة تزول جميعها بيقظة الوجدان العربي».

كما أقروا أن «الأمة العربية ذات رسالة خالدة» تدعو الى شجب الاستعمار ومكافحة بجميع الوسائل الممكنة، وأن «الإنسانية مجموع متضامن في مصلحته، مشترك في قيمه وحضارته».

كما عرض مبادئ عامة في ذلك المؤتمر وأقرت على الشكل التالي:

المادة 1 ـ حزب البعث العربي حزب عربي شامل تؤسس له فروع في سائر الأقطار العربية، وهو لا يعالج السياسة القطرية إلا من وجهة نظر المصلحة العربية العليا.

المادة 2 ـ مركز الحزب العام هو حالياً دمشق ويمكن أن ينقل الى أي مدينة عربية أخرى إذا اقتضت ذلك المصلحة القومية. المادة 3ـ حزب البعث العربي قومي يؤمن بأن القومية حقيقة حية خالدة، وبأن الشعور القومي الواعي الذي يربط الفرد بأمته ربطاً وثيقأ هو شعور مقدس، حافل بالقوى الخالقة، حافز على التضحيةن باعث على الشعور بالمسؤولية، عامل على توجيه إنسانية الفرد توجيهاً عملياً مجدياً.

والفكرة القومية التي يدعو اليها الحزب هي إرادة الشعب العربي أن يتحرر ويتوحد، وأن تعطى له فرصة تحقيق الشخصية العربية في التاريخ وأن يتعاون مع سائر الأمم على كل ما يضمن للإنسانية سيرها القويم الى الخير والرفاهية.

المادة 4 ـ حزب البعث العربي الاشتراكي يؤمن بأن الاشتراكية ضرورة منبعثة من صميم القومية العربية، لأنها النظام الأمثل الذي يسمح للشعب العربي بتحقيق امكانياته وتفتح عبقريته على أكمل الوجوه، فيضمن للأمة نمواً مطرداً في إنتاجها المعنوي والمادي وتآخياً وثيقاً بين أفرادها».

وفي المواد الباقية: «الحزب شعبي يؤمن بأن السيادة ملك الشعب». وهو انقلابي لا يركن الى التطور البطيء والإصلاح الجزئي السطحي. و»الوطن العربي هو هذه البقعة من الأرض التي تسكنها الأمة العربية، والتي تمتد ما بين جبال طوروس وجبال بشتكويه وخليج البصرة والبحر العربي وجبال الحبشة والصحراء الكبرى والمحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط».

ولم يحد الدستور طبيعة السلطة التنفيذية في نظام الحكم في الدولة العربية. ولم يدع الى الجمهورية تجنباً للمتاعب التي يمكن أن تنشأ للحزبين في الممالك، واكتفى بأن جعل نظام الحكم نيابياً دستورياً، والسلطة التنفيذية فيه مسؤولة أمام السلطة التشريعية التي ينتخبها الشعب مباشرة.

الاشتراكية البعثية

ومنذ المؤتمر التأسيسي الأول، صاغ الحزب سياسته الاقتصادية، فأوضح اشتراكيته بالقول بأن «الثروة الاقتصادية في الوطن ملك للأمة»، ودعا الى إعادة النظر في أمر توزيع الثروات غير العادل في الوطن، وأعلن «المواطنين متساوين بالقيمة الإنسانية ولذا فالحزب يمنع استثمار جهد الآخرين»، واعتبر أن «المؤسسات ذات النفع العام وموارد الطبيعة الكبرى ووسائل الإنتاج الكبير ووسائل النقل ملك الأمة تديرها الدولة مباشرة وتلغى الشركات والامتيازات الأجنبية»، وحدد الملكية الزراعية «تحديداً يتناسب مع مقدرة المالك على الاستثمار الكامل دون استثمار جهد الآخرين تحت إشراف الدولة ووفق برنامجها الاقتصادي العام» وكذلك فعل بالملكية الصناعية الصغيرة، وأشرك العمال في إدارة المعمل في أرباح العمل على أن تحدد الدولة نسبة حصصهم. وألغى الربا.

وعقد المؤتمر القومي الثاني في عام 1954، أي بعد مضي سبع سنوات على المؤتمر الأول، التأسيسي، وصل خلالها بعض مسؤولي الحزب إلى مجلس الوزراء ميشيل عفلق 1949 والى مجلس النواب جلال السيد 1950 . كما أصبحت تسمية الحزب هي «البعث العربي الاشتراكي» وذلك بعد اندماج «البعث العربي» بـ «العربي الاشتراكي»، حزب أكرم الحوراني.

البعث العربي الاشتراكي

وقد عرف أن أديب الشيشكلي كان أول من دعا الحزبين، لكونهما اثنين من أحزاب الشباب، الى الاندماج معللاً دعوته بالقول بأن مبادئ الحزبين متطابقة وأن لا لزوم للتشرذم. وكان أديب الشيشكلي يرغب في تمثيل الحزبين في السلطة، في إطار رغبته في تمثيل كل «أحزاب الشباب» العاملة في الشام.

كان ذلك عام 1952. ولكن عفلق والبيطار والحوراني خرجوا من منزل الشيشكلي وهم يستبعدون الفكرة. ثم لم يلبثوا أن أعادوا النظر في موقفهم السابق وتمت الوحدة الاندماجية بين الحزبين في أواخر عام 1952 بعد ان حل الشيشكلي الأحزاب وبدا حملة المطاردة لقيادييها.

وحزب الحوراني كان حزباً جديداً لم يمض على نشوئه باسمه المعروف أكثر من سنتين.

فقد كان قبل ذلك «حزب الشباب»، وكان «الشباب» في معظمهم هم القوميون الاجتماعيون في حماه الذي يعرفون في الحوراني، منفذاً عاماً لمنفذية حماه أراد تجنب الحملات المسعورة ضد الحزب بتبديل اسمه والتعتيم على مبادئه الأساسية مع الإبقاء على المبادئ الإصلاحية بصياغة جديدة لشروحها.

هكذا كان تفكير قادة حزب «البعث العربي» عندما عرضت عليهم فكرة دمج الحزبين.

ومن جهة أخرى، فقد كان الحوراني ناشطاً في صفوف الفلاحين وكان حزبه ينمو في اضطراد مكتلاً حوله جماهير ريفية واسعة.

وكان حزبه أيضاً متمثلاً بشخصه في مجلس نواب الشام في بداية الخمسينات.

وهذا ما دعاه أيضاً للتريث ثم الرفض حين عرضت عليه فكرة الدمج تحت رعاية أديب الشيشكلي.

ولم يجد أصحاب الحزبين بداً من الدمج في فترة التضييق على الحريات في عهد الشيشكلي وكان يدفعهم الى ذلك أن الحزبين يقولان بالأمة العربية وأن الاشتراكية لفظة لا تعقد أحداً بينهم خاصة وأنهم متفقون على رفض الاشتراكية المادية ورفض تبني إيديولوجية الطبقة العامة متفقون على أن النضال الشعبي يأخذ جانب المستغلين بفتح الغين ضد الطبقة المتسلطة على مقدراتهم الاجتماعية والقومية.

وأصيب حزب البعث بالصدمة الأولى حين أعلن الدمج، فتمرد على القرار عديدون من القيادات بينهم جلال السيد، رئيس المؤتمر التأسيسي الأول، الذي له تاريخ من المشادات الحامية مع أكرم الحوراني في مجلس النواب الشامي في زمن كان فيه أكرم الحوراني «ثوريا» بينما كان البعث، عبر ممثله، السيد، إصلاحياً محافظاً. وسلوك السيد في البرلمان الشامي كان انعكاساً لسلوك حزب البعث العربي في خارجه. ففي حين كان الحوراني ناشطاً في صفوف الفلاحين والعمال، كان البعثيون يصرون اهتمامهم على الطلبة والمثقفين والموظفين الكبار.

ولكن الوحدة الاندماجية استمرت، وبقي الحزب يحمل تسميته الجديدة حتى اليوم.

وتأكيداً للوحدة علت القيادة ثلاثية مؤلفة من عفلق والبيطار والحوراني.

وفي المؤتمر القومي الثاني المنعقد عام 1953 لأول مرة في قيادات الإقطار خارج الشام بعد أن اكتمل تنظيمها الحزبي. فكان هناك ممثلون لفرع الأدرن، أول فرع تأسس خارج الشام بعد المؤتمر القومي الأول باشهر، وآخرون يمثلون فرعي لبناني والعراق اللذين تأسسا بين عامي 1949 و 1950.

قبل ذلك في المؤتمر القومي الأول لم يكن هناك تنظيم خارج الشام بل كان هناك أعضاء أردنيون وعراقيون ولبنانيون تعرفوا إلى الحزب وانتسبوا اليه أثناء متابعتهم الدراسة في الجامعات الشامية.

في المؤتمر القومي الثاني أقر النظام الداخلي المقترح من «قطر سوريا» ـ وهو النظام الذي سار الحزب بموجبه حتى صيف 1959 حيث عدل في المؤتمر القومي الثالث ـ وأنشئ مكتب للأمانة العامة للقيادة القومية في دمشق استمرت في قيادة الحزب، عملياً، حتى قيام الجمهورية العربية المتحدة، وإعلان حل التنظيم الحزبي فيها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى