ساهم في منح لبنان هويته الموسيقيّة وأسّس الأوركسترا الأولى… وأمثاله لا ينتهون بمأتم أو نعش توفيق الباشا مكرّماً وسط التناسي الحكوميّ
أحمد طيّ
أن تتحدّث عن توفيق الباشا، وأنت من جيل الشباب الذي لم يتسنّ له الاطلاع على عظماء الموسيقى اللبنانية إلا في ما ندر، فإنّك تحتاج بالتأكيد إلى فسحة واسعة من الوقت للبحث والتدقيق والتمحيص والتوثيق، خصوصاً أنّ أمثال توفيق الباشا لم ينصفهم كتاب تاريخ لبنانيّ ولا حتى مناهج دراسية تربوية، تعرّف الأجيال الطالعة إلى الكبار «الحقيقيين»، الذين وضعوا أسس الموسيقى في لبنان بمتانة جعلتها مستمرة حتّى يومنا هذا وتسلك طريقها نحو الخلود.
أن تتحدّث عن توفيق الباشا، أب الموسيقى في لبنان، ومؤسّس الأوركسترا الأولى فيه، فإنّك تقع في حيرة من أمرك: من أين تبدأ، وعمّا تتحدث؟ أتتحدث عن الموسيقى، العصامية، الإرادة، التحدّي، منح الوطن كلّ ما تملك من روح، بينما يتجاهلك القيّمون على هذا الوطن؟
عمّا تتحدّث؟ عن الأوركسترا؟ عن النوتات والجُمل الموسيقية التي منحت لبنان هويته الموسيقية لعقود؟
عمّن تتحدّث؟ عن زكي ناصيف؟ الأخوين رحباني؟ فيلمون وهبي وغيرهم؟ أتتحدّث عن إذاعة لبنان؟ تلفزيون لبنان مثلاً؟
إذا أردت التحدّث عن كل ما سبق، فلا بدّ أنّك ستضطر للحديث عن توفيق الباشا، الإنسان القوميّ المتواضع، على عكس ما تشير إليه كنيته.
إنّه توفيق الباشا، الذي كُرّم مساء الجمعة الماضي في «دار الندوة» ـ الحمرا ـ بيروت، خلال ندوة تكريمية دعت إليها «دار الندوة»، و«دار نلسن للنشر»، و«الجبهة الموحّدة لرأس بيروت». تكريم غابت عنه الدولة بمظهرها الحكوميّ والرسمي، وغاب عنه الإعلام باستثناء «تلفزيون لبنان» الذي حضر مراسله ومصوّره على عجل من أمرهما، ولم يراعيا حقّ الحضور بالاستماع إلى الكلمات والمداخلات، إذ عمد المراسل إلى استدعاء عدد من الأشخاص لأخذ أحاديث منهم، لا سيما أنّ بعض هؤلاء كانوا جالسين إلى طاولة المتكلّمين في الندوة التكريمية.
أن تتحدّث عن توفيق الباشا، فهذا يعني أنّك في حضرة عظماء كبار، لا ينتهون بمأم أو نعش، ولا يحيلهم تركم سنين الرحيل إلى عالم النسيان، إنّما تُكتَب أسماؤهم على لوح الخلود.
موسيقى ووجوه
تدخل قاعة «دار الندوة»، فتستقبلك موسيقى سحرية ملائكية، تعرف فوراً ـ بحكم المناسبة ـ أنّها لتوفيق الباشا. وبينما تغمض عينيك بانتظار اكتمال عقد الحضور، تأخذك تلك الموسيقى السيمفونية إلى عوالم ووجوه أخرى: إلى «بحيرة البجع» وتشايكوفسكي، إلى «ليونور» مع بيتهوفن، أو إلى «جوبتير» مع موزارت.
يدخل المدعوّون فرادى ومجموعات مع اقتراب ساعة انطلاق الندوة. تتعرّف إلى بعضهم من أهل الثقافة والقلم، فيما تغيب وجوه أخرى. ترى، أين هم الزملاء الإعلاميون؟ أين جهابذة وزارة الثقافة؟ لا بل أين هم ممثلو أركان الدولة الذين يتحفوننا في تكريم أيّ شخصية أخرى، بفاتحة كلماتهم المعتادة «شرّفني فلان أن أمثّله في تكريم علّان»؟ لا أحد منهم حضر!
دقائق معدودة، وتمتلئ قاعة «الندوة»، ولا مقاعد إضافية للحضور الفائض، بينما المشهد ما زال يخلو من الوجوه الإعلامية والرسمية.
الحزب السوري القومي الاجتماعي كان ممثلاً بنائب الرئيس توفيق مهنا، وحضرت أيضاً كريمة الزعيم أنطون سعاده أليسار. ومن الوجوه البيروتية، حضر النائب السابق بهاء عيتاني. فيما حضر أيضاً أمين عام اتحاد المحامين العرب السابق عمر زين، والأديب محمد كريّم الذي ألّف كتاباً عن توفيق الباشا. وتتنقل بين الوجوه، لتطالعك شخصيات لها علاقة وثيقة بالموسيقى والفن والأدب… والمشهد هو هو، خالٍ من الوجوه السياسية حتى اليأس. فلا وسام رسميّاً للباشا، ولا درع تقديرية حتّى!
قبيل انطلاق أعمال الندوة، دردشات هنا وهناك، يتردّد بعضها إلى مسامعنا. فنهتمّ لما هو مهمّ، ونهمل تبادل السلامات والأشواق والحديث عن «شو عملت وشو سوّيت».
ومن «الطرطوشات» التي تهادت إلينا، أنّ أحدهم كان يقول لآخر: «حاولنا الاستحصال على وسام الاستحقاق الرئاسي، لكن شغور كرسي رئاسة الجمهورية حال دون ذلك، إضافة إلى أنّ عمل الحكومة معطّل…»! قبحاً لهذا اللبنان، وقبحاً لهذا العذر الأقبح من كلّ ذنب، الأقبح من أيّ ذنب.
بختي
بدأت الندوة، بعبارات ترحيبية من الكاتب سليمان بختي، ثُمّ عُرض فيلم وثائقيّ قصير عن توفيق الباشا، أعدّته وأخرجته الشابة فرح شيّا.
وتحدّث بختي قائلاً: فنان أبدع وأسس وأنشأ وصاغ، وأيقظ المعرفة في تحديد أطر الموسيقى العالمية، وتحديد موسيقانا فيها، ووصل ما انقطع من خطوط التواصل في التاريخ، وكان الدليل وأوّل الجالسين إلى الطاولة. ترك توفيق الباشا آثاره في الموسيقى السمفونية والقصائد والموشحات والأغاني والإنشاديات، والأوبرا والأغاني الشعبية وموسيقى الباليه. وترك أكثر من أربعمئة أغنية لمطربات ومطربين كبار من لبنان والعالم العربي. وكان من «عصبة الخمسة» مع زكي ناصيف ومنصور وعاصي الرحباني وتوفيق سكر، هذه العصبة التي جدّدت المدرسة اللبنانية في الموسيقى العربية.
كان توفيق الباشا أوّل من أدخل الهارموني والأوركسترا إلى القصيدة العربية، بأصوات جديدة في «وست هول» في الجامعة الأميركية عام 1947، وعمد إلى تشريح الموشح وإعادة بنائه كي يأتي متحرّراً.
شارك الباشا في مسرح المنوعات الأول في الشرق العربي، وكان في مهرجانات بعلبك منذ بداياتها، وعُزفت أعماله في بلجيكا مع موزارت وباخ. أدخل الموسيقى إلى كل البرامج في الإذاعة، بما فيها الإخبارية. وهو صاحب الفضل الكبير على المعاهد الموسيقية، والفرق السمفونية، والمواهب الغنائية في لبنان.
جال توفيق الباشا في مدن العالم، يحضر المؤتمرات الموسيقية بحثاً عن الجديد والأصيل، من بيروت إلى القدس، فنيو دلهي وحلب ودمشق والقاهرة والاسكندرية وعمّان، وبروكسل وباريس وستوكهولم. حادّ في علمه، وجاد على طالب المعرفة، وعلى عزّة بلاده ومجدها. لم يساوم، ولم يقع في السهولة والعبث. كان يلحّن بفكره وكان من أبرز المراجع الموسيقية في لبنان والعالم العربي. وبقي حتى اللحظة الأخيرة من عمره يحلم بمشاريع موسيقية، وهذا ما يؤكّده الصديق الأستاذ محم كريّم في كتابه «كما عرفتهم»، في الزيارة الأخيرة في المستشفى قبل رحيله.
كان توفيق الباشا وفياً، كما ظلّ يردد أنّ لدى الفنان مهمتين: الإنتاج، وترك أثر إنسانيّ.
تفتقده اليوم الموسيقى الأصيلى، وبيروت التي قال عنها: «بيروت خلقتني وكوّنت شخصيتي، وتعلّمتُ وعلّمتُ في مدارسها. كلّ حجر في بيروت لمسته بيدي». وها نحن اليوم نؤدّي التحية لتوفيق الباشا، ونعتذر من أخلاقه وفنّه وعلمه، ونكتشف فقر مكتبنا الموسيقية من إبداعات توفيق الباشا، وحجم التقصير الهائل اللاحق به من مؤسسات ثقافية ومدنية. لأنّ المبدع في بلادي يسير على أرصفة المدينة وبين الناس بتواضع العامّة، ولأن أصحاب الحلّ والربط في الوطن، لا يأبهون إلا لمصالحهم. وحده قلب الشعب يفيض له اليوم ويكرّمه بحبّه ليس إلّا.
مرهج
أولى الكلمات كانت للوزير السابق بشارة مرهج، وجاء فيها: لم أعرف الراحل الكبير ولم أخاصمه يوماً، لكنني كنت أعرف عنه وأعتز به موسيقاراً فذّاً عالماً حالماً مفكّراً مبدعاً منتجاً حتى الرمق الأخير. وعندما وقع عليّ الاختيار للتحدّث في هذه الأمسية العطرة… خانني الاعتذار، وركبت المغامرة، ورحلت أسأل عنه الكتب والمراجع والمجلات والأصدقاء، وكأنني أعدّ أطروحة بحثية عن رجل موسوعيّ الثقافة، حتى ألفيت نفسي أمام بحر من المعلومات انشرح لها صدري فأغوتني إلى المزيد، مبتهجاً من جديد لاكتشافي مبدعاً من بلادي يقف على قدم المساواة مع رموز الفنّ والموسيقى في العالم، ويسجّل في الوقت نفسه عراقة بلد صغير ظلمه جَهَلة: الحكم عندهم استحواذ والعلم لديهم اقتباس، جَهَلة بالكاد يميّزون بين الأضواء والأنوار، ولا يعرفون من الفنّ سوى الغلالة.
درس توفيق الباشا على يد كبار الأساتذة كما على نفسه فأشرقت الموهبة وتجلّت إنتاجاً وبناءً وإبداعاً. سهر مع الكلمات والألحان، فازدهى به تراثاً وتألق
عطاؤه. كان صافياً راقياً. هام بالموسيقى وعاشها فاستوعب وطوّر وأضاف. غاص عميقاً في مكتبة الموسيقى عربياً وعالمياً، فتواصل مع السلف المضيء واكتسب المعرفة وأرسى صفحات رائعة في كتاب النهضة الفنية الحديثة التي شارك في إطلاقها وصوغها والاعتناء بها روحاً ونبضاً.
لمسته الراقية الآتية من حسّ مرهف وعلم غزير وخبرة واسعة في العزف والتوليف والتأليف، تركت أثراً عميقاً على الموسيقى اللبنانية العربية التي أبدع فيها نصوصاً أصبحت جزءاً متوهّجاً من حياتنا المعاصرة. إذ فضلاً عن سموّها الفنّي، عبّرت عن جوهر القضايا الكبرى التي حفلت بها مسيرتنا التاريخية المعاصرة .
وكما ساهم توفيق الباشا في تطوير الأوركسترا العربية والكورال العربي، فإنه ساهم في التفاعل الموسيقي بين لبنان والبلدان العربية، لا سيما مصر، فتوالت الصفحات المشرقة وأينعت الثمرات الطيّبة، وعلا البنيان وترسّخت جذوره على وقع نصوص عربية كلاسيكية فتح خزانتها برقّة وشغف، ليعود فيقدم أجمل موشّحاتها من بناء جديد وأنيق يلهب الذاكرة الجماعية ويحاكي القمم الفنية العالمية. وكان توفيق الباشا منذ شبابه صاحب قضية يحمل همّ مجتمعه ساعياً إلى وحدته وتطويره وتحريره من الجهل والتخلّف والاستتباع.
لم يكن حيادياً بحجة الرسالة التي ملكت نفسه واستقرت في شرايينه، بل كان ملتزماً شديد الوضوح في التزامه الوطني القومي. لا يتردد في اتخاذ الموقف الذي يرضي العقل والضمير .
فعندما انحازت إذاعة الشرق الأدنى ـ الإذاعة الأشهر في ذلك الزمن ـ إلى العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ردّ عليها بالاشتراك مع نخبة من زملائه بالاستقالة الجماعية، كاشفاً دورها المخزي حيال مصر وتطلّعاتها المشروعة نحو الحرّية الاستقلال .
وعندما حاصرت الجيوش الصهيونية العاصمة اللبنانية بالنيران صيف عام 1982، انفطر قلبه واهتزّ كيانه، فكتب سيمفونية «بيروت» التي صبّ فيها عواطفه المشتعلة حيال مدينة تحترق ولا تسلّم، بل تمضي وإن وحيدة في طريقها لصدّ العدوان وإطلاق حركة المقاومة وشقّ الطريق إلى التحرير .
توفيق الباشا من النخبة التي تركت أثراً عميقاً لا يزول في الحياة الفنية في لبنان والبلاد العربية، وأن يستمر هذا الأثر ويستديم في الفضاء الموسيقي، فلأنه تأليفاً وحضوراً وتفاعلاً، منبثق عن ثقافة غنية ودأب على تغذيتها بالمعرفة والاطّلاع وخوض التجارب الصعبة…
وأما ما نخلص إلى في هذه الأمسية، نداء يتردّد في وجدان كلّ من يقدّر توفيق الباشا، إلى المرجعيات المعنية، أن بادروا إلى إيفاء الرحل حقّه ليسطع الأمل من جديد في عاصمة تنوء بالأحزان وترفض الاستكانة وبلد يقاوم الانهيار ويستحقّ الحياة.
لتكن ذكرى توفيق الباشا رائد التجديد والأصالة في الموسيقى اللبنانية العربية حافزاً لنا للاستمرار في حركة الصراع الحضاري من أجل الحرّية والكرامة والعدالة، من أجل ملاعب الأطفال وحدائق الفكر ومدارس الأجيال، وكلّ ما هو جميل في حياتنا.
طه
ثم انتقل الحديث إلى الفنانة والإعلامية سحر طه فقالت: في الخامس من كانون الأول عام 2011، ودّعنا توفيق الباشا تاركاً لنا موسيقى خارج ميادين التجارة والاستهلاك. أغمض جفنيه بعدما منح الموسيقى العربية روحه وكلّ عشقِه وجهده، تاركاً للعالم العربي والأجيال أعمالاً ذات سمات إبداعية متفرّدة ستبقى سابقة لأوانها.
تحلُّ اليوم الذكرى العاشرة على غياب المؤلف الموسيقي الكبير توفيق الباشا، فما الذي قدّمناه له كشكر وعرفان وتقدير لما قدّمه لأّمته؟ كيف جرى تذكُّره أو التذكير به؟ أين أصبحت عشرات بل آلاف الأعمال والنتاجات التي كتبها وسجّلها طوال نصف قرن من حياته؟
كيف كُرِّم الموسيقار خلال السنوات العشر الماضية بعد رحيله على رغم أنّه أعطى من دون منّة ومن دون انتظار تكريمه من أحد؟ هذا ولم نكتفِ بغيابه جسدياً، بل ما زلنا نمعن في تغييبه معنوياً، من خلال عدم الإضاءة على أعماله أو نشرها وتعريف الأجيال إليها.
عرفنا توفيق الباشا إنساناً صريحاً صارم الرأي، يُعبّر بكل شفافية وجرأة عن آرائه، وامتعاضه من الواقع الموسيقي العربي بشكل عام، وفي لبنان بشكل خاص، وفي كل مناسبة لم يُخفِ عتَبَه الكبير على الدولة وعلى الانفلات الحاصل في الغناء، ويستغرب القصور والتسطيح إلى حدّ الاتّجار لدى المشتغلين في الساحة الغنائية، لذلك كان يفّضل الابتعاد عن الإعلام، والعمل بصمت في عزلته، وعدم الانحناء أو المساومة أو التنازل عن مبادئه بأي ثمن ولأي سبب كان.
نصفُ قرنٍ قضاها الباشا في الكتابة الموسيقية والتلحين وتوزيع موسيقى للفِرَق الأوركسترالية وقيادتها. أسّس لمدرسة بيروت الموسيقية، وعُرِف في العالم العربي من خلال تلحينه لعدد من الأصوات، إضافةً إلى تأليف مقطوعات موسيقية متنوعة الأنماط.
آمن بأمته وبموسيقاه فنذر حياته لهما، وأوصل رسالته بأمانة وبكلّ ما استطاع من قوّة على رغم الفواتير الباهظة التي دفعها من صحّته وراحته، وعلى رغم تغاضي الدولة والمؤسسات عن عطاءاته، لحدّ نسيان دوره في التأسيس لموسيقى عربية ذات هُويّة مشرقية، من خلال الساحة إلى جانب كبار مثل الأخوين رحباني، زكي ناصيف، وفيلمون وهبة وآخرين.
نشر عدداً من المؤلفات السيمفونية والقصائد المغنّاة والأوراتوريو، بحيث كان رائداً وسبّاقاً في هذا المجال في لبنان والعالم العربي بدايةً من خمسينات القرن الماضي. إضافة إلى تلحينه عشرات الموشحات، وتوزيع ألحان القديم منها برؤية معاصرة ودوّن بعضها في كتب ومطبوعات.
من وجهة نظر الراحل، كان سيد درويش المعاصر الوحيد، إذ اعتبره مؤسس النهضة الموسيقية العربية إضافةً إلى القصبجي «المجدّد الأعظم» كما وصفه في أحد الحوارات، فيما مدرسة محمد عبد الوهاب توارثت كل هذا الإرث وأكملت المشوار، وكان لها الأثر على مسيرته هو شخصياً.
كان الباشا يعتزّ كثيراً بالتخت الشرقي، ويعتبر الفرق الكبيرة اليوم هي بمثابة مشهد لآلات متعدّدة تعزف نغماً واحداً، وضخامة الفرقة أو تعدّد الآلات بحسب رأيه لا يعني كبر الإمكانات، بل المطلوب أن يكون هناك كتابة خاصة لكلّ آلة أو لكلّ نوع من الآلات، وهذا ما قام به أثناء قيادته للأوركسترات.
عام 2000، احتفى الباشا بيوبيله الذهبي، حين أصدر أعماله الكاملة في 17 أسطوانة، وفي حوارٍ لنا معه آنذاك، تحدّث الباشا عن مسيرة خمسين سنة في الموسيقى منذ تشكيل «عصبة الخمسة» مع زكي ناصيف وعاصي ومنصور الرحباني وتوفيق سكر، ولطالما ذكر فضلَ خالِه الموسيقي خليل مكنية عليه في تعلّم الموسيقى، وأكّد لنا يومها أنّ أغنية «إفرح يا قلبي» لحن السنباطي لأمّ كلثوم، التي غنّاها بحضور زكي ناصيف كانت كفيلة بجعل الأخير يطلب من خاله عدم ترك هذه الموهبة وبالفعل باشر خالُه بتعليمه مع زكي ناصيف العزف على آلة التشيللو، وقال: «خلال شهرين كنت ألتهم الآلة»، ما أهّله الدخول إلى المعهد الموسيقي في الجامعة الأميركية مباشرة.
وختمت طه كلمتها قائلةً: أخيراً، نضمُّ صوتَنا مع صوت الراحل الذي ما يزال مدوّياً منذ ثلاثين سنة ونيّف ونطالب معه: «أن يكون للمواد الدراسية الفنية أهمية في مناهجنا المدرسية، كأهمية باقي المواد الدراسية من تاريخ وجغرافيا ورياضيات وغيرها.. ونتمنى ألّا تمرّ سنوات ثلاثون أُخَر من دون تحقيق هذه المطالب».
الحاج
وألقى مدير المعهد الوطني للموسيقى الكونسرفتوار الموسقار أندريه الحاج، كلمة مقتضبة جاء فيها: بالنسبة إلى جيلي، توفيق الباشا هو من المؤسسين، وهو أحد الذين فتحوا الأبواب لتجارب واختبارات موسيقية وأوركسترالية عالية المستوى.
شخصياً، لتوفيق الباشا فضل عليّ، وأنا من الأشخاص الذين استفادوا من تجربته، خصوصاً عندما زارنا في الأوركسترا وحاضر فينا. بالنسبة إليّ كانت المحاضرة قيّمة جدّاً لأنها فتحت أمامي أفاقاً موسيقية واسعة.
امتازت موسيقاه بالأصالة والخيال والبناء التأليفي المتين، وله أيضاً تجربة مهمّة في مجال الموشحاتن والعمل عليها وإعادة بعثها من جديد، في إيقاع اسمه «زركفند»!
وكذلك كان في الإذاعة، إذ اعتُبر حارس الهيكل، وأحد الذين حاولوا حماية الأغنية اللبنانية من الهبوط والانحدار.
امتلك توفيق الباشا حسّاً أبوياً في التعليم. فقد درّس المواهب ودعمها، وكلّ ذلك وفق منهجية صارمة إنما مُحبّة ومنفتحة. لعلّه من المؤسف القول اليوم، وبعد عشر سنوات على غيابه، ألا تكون أعماله منوطة وحاضرة بقوة ليتسلّمها جيلنا والأجيال الموسيقية الجديدة…
نتذكره اليوم، ونحيي تلك الروح المبدعة التي حملت إلينا دائماً الشغف والتجدد والعطاء المتدفق.
سحّاب
وتحدّث الكاتب والصحافي والناقد الفنّي الياس سحّاب بإسهاب عن توفيق الباشا الإنسان والموسيقيّ، وعن المصاعب التي واجهته، وعن إرادته الصلبة، وعدم تهاونه في الشأن الموسيقي. ووصف سحّاب الراحل بالموسيقيّ المظلوم لأنه كان جدّياً أكثر من اللزوم، معلناً احترامه لهذه الجدّية وعدم مناهضتها، لكنه وجد أنّه دفع الثمن لأنه عمل وفق طموحاته الكبيرة لا وفق ما يتطلبه الجمهور، وتوقع أن تكون للباشا مكانته مع انتهاء موجة الهبوط الفني، على رغم عدم تفاؤله بزوال هذه الموجة في المدى المنظور، لأنها مرتبطة بالواقعين السياسي والاجتماعي.
واعتبر سحاب أنّ توفيق الباشا كان متأثراً بالموسيقار الألماني لودفيغ فان بيتهوفن، المتأثر بدوره بموضوعات اجتماعية. وذكر أنّ الباشا عمل على موشحات من التراث العربي، لإضافة إلى أنّه كان يتّكل على صوتين إذاعيين هما محمد غازي الذي يعتبر من أهمّ الأصوات التي مرّت على الإذاعة اللبنانية، والفنانة سعاد محمد وهي من اكتشافات توفيق الباشا.
الباشا
ثمّ ألقى الفنان أمين الباشا كلمة جاء فيها: ولد توفيق الباشا من أبوين يحبان الموسيقى والرسم والتلوين. كان خاله خليل مكنية يتنقل من العزف على الكمان والتأليف الموسيقي إلى الرسم. أما والد توفيق فكان يعشق الطرب، وكان يذهب إلى القاهرة لحضور حفلات أمّ كلثوم. كانت العائلة تستقبل دائماً رسامين وموسيقيين.
كان توفيق يرافق خالهخ وزكي ناصيف، وكلّ واحد منهم يعزف على آلة: توفيق على الفيولونسيل تشيللو ، خليل على الكمان، وزكي على البيانو وغناءً. وكان يغني أغاني شوبرت والأغاني الإنسانية، هذا في بيوت الأصدقاء والصديقات في محلّة رأس بيروت. بعد سنوات، أخذ الخال خليل يصرّ على زكي بيتحوّل إلى موسيقيّ محترف، وهكذا أصبح تدريجياً كما نعرفه اليوم ونفرح بألحانه وغنائه.
تربّى توفيق طفلاً في هذه الأجواء الفنية. وفي طفولته كان يعزف على آلات كثيرة. ومنها: قناني كان يصفّها، ويروح يلمسها بالملعقة ويطرب لأصواتها. درس العزف على آلة التشيللو في الجامعة الأميركية، ولحّن الأغنية الأولى من شعر المصري علي محمود طه.
مضت الأيام والسنون، وطُلِب من توفيق أن يذهب إلى رام الله والقدس، هناك، أسس القسم الموسقي وأمضى شهوراً عدّة. وعند عودته إلى بيروت، عمل توفيق في إذاعة بيروت حيث أوجد قسماً للموسيقى، أغناه موسيقياً وأدبياً. إذ كان لا يكتفي بمراقبة الموسيقى، إنما كانت كلمات الأغنية من اهتماماته، كما للموسيقى ألحانها. في هذا الوقت، وضع شرطاً للدخول إلى الإذاعة اللبنانية، والشرط أن يُبنى أوديتوريوم لتقديم الموسيقى الكلاسيكية، وهكذا كان. بدأ بناء الأوديتوريوم، لكنه لم يكتمل، ثمّ تحوّل إلى مخفر للشرطة على ما أعتقد.
طُلب صديق لكميل شمعون اسمه توفيق أيضاً ، أن يجد من يستطيع تأمين فنانين لبنانيين لإحياء «الليالي اللبنانية» ضمن مهرجانات بعلبك التي كانت تُنظّم سنوياً، والتي كانت تستقدم فقط فرقاً موسيقية أجنبية. فأجاب هذا الصديق أنّه سيتصل بمحمد شامل المسرحيّ المعروف للاستشارة. فاتصل شامل بتوفيق الباشا، وكان لقاء مع عائلة شمعون، واقترح توفيق الباشا أن يحيي تلك المهرجانات أكثر من موسيقيّ واحد، واقترح أن يشاركه في ذلك زكي ناصيف وشابان من عائلة الرحباني.
منذ ذلك الوقت، بدأ جمهور مهرجانات بعلبك يسمع ألحاناً جديدة مع أوركسترا غنية، وهذا يعود إلى التمارين التي كان يقوم بها توفيق الباشا مع أفراد الأوركسترا والمغنّين والمغنيات…
شهادتان
بعد انتهاء الكلمات والمداخلات، ألقى بختي شهادتين، الأولى من الفنان كفاح فاخوري جاء فيها: توفيق الباشا اسم كبير في عالم الموسيقى اللبنانية، كان معطاء وتميّز بحسّ أبويّ قلّ نظيره. عرف عنه، حين كان رئيس قسم الموسيقى في إذاعة لبنان، أنّه كان يأخذ بيد الفنانين الشباب، ويفتح أمامهم الآفاق رحبة، مثله في ذلك، كبار المربّين، إذ كان يقدّم الآخرين على نفسه.
أما الشهادة الثانية، فكانت من ابن توفيق الباشا، الفنان عبد الرحمن الباشا، وجاء فيها: هو توفيق الباشا ابن بيروت، التي طبعته بكرمها وتبدّلاتها فتأثر بمناخ البحر المتوسّط: طباع مضيئة ودافئة، وأحياناً تعصف رعداً برّاقاً. كان يتمتّع بطاقة نادرة من الحيوية، وأحلامه بعالم أفضل وسعيه إلى تحقيقه لم يفارقاه طوال حياته، إن على مستوى العلاقات الإنسانية، أو على مستوى الإبداع الفنّي. كان عقله حرّاً ومتحرّراً من التبعية، مميّزاً أعماله الفنّية بأسلوبه الخاص…
كأب، كان قوياً وبارز السلطة، وفي الوقت نفسه يحترم خيارات أولاده، خصوصاً في الموسيقى. لم يكن يعرف المديح، الأمر الذي كان يضاعف قيمة استحسانٍ يبديه عن عملٍ ما، لأن تقديره كان مدروساً دائماً.
مهنّا
وعلى هامش الندوة، التقت «البناء» نائب رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي توفيق مهنا، وكان هذا التصريح: تُلزمنا هذه الندوة الغنية والمضيئة عن توفيق الباشا الموسيقار وقائد الأوركسترا، والرائد المقوّم لموسيقانا، أن نرفع الصوت عالياً لوزارة الثقافة ـ وكلّ المسؤولين في الدولة اللبنانية ـ لأن تولي الفنّ والفنانين حقّهم وقدرهم من الاهتمام، وأن تعمل على إدراج أعمالهم في برامج التعليم. لأنّ هناك غياباً، إن لم نقل تغييباً لأهمية قيم الفنّ والإبداع عن مناهجنا التعليمية والتربوية. وإنّ ما سمعناه من المحاضرين ـ كلّ في مجاله ـ كان بمثابة صرخة ألم، نابعة من إحساس عميق بتراجع القيم الموسيقية والفنية والإبداعية في حياتنا، خصوصاً في العقدين الماضيين. علّ هذه الندوة التي أضاءت على موقع توفيق الباشا، وهو المبدع الذي نهل أيضاً من فكر النهضة السورية القومية الاجتماعية وثقافتها ومفاهيمها ونظرتها إلى الحياة والكون والفن، التي طرحها الزعيم أنطون سعاده، وتأثر الباشا بها، وكانت حافزاً من حوافز إبداعه. لعلّ هذه الندوة تعيد إعطاء هذه القامات الإبداعية حقها في مناهجنا وفي حياتنا اليومية.
كما نعلم، أنّ باعث النهضة القومية الاجتماعية الزعيم أنطون سعاده، كان صاحب نظرة جديدة إلى الحياة والكون والفنّ. ونركّز هنا على مفردة الفنّ، إذ اعتُبر سعاده من رواد الحداثة في عصره، خصوصاً أنّه دعا إلى نهضة فنيّة لها مفهوهمها الحداثيّ المتمسّك بالأصالة، تماماً كما قرأنا في رائعتيه: «عيد سيدة صيدنايا» و«فاجعة حبّ».
ريما الباشا
كما تحدّثت إلى «البناء»، كريمة الراحل توفيق الباشا ريما، فقالت: من الجيد أنّ نرى اليوم، بعد عشر سنوات على رحيل والدي، أنّ هناك أناساً لم ينسوه، لا بل يسعون إلى التذكير به وبأعماله وإلى تكريمه. كما أنّه من المهم بمكان، أن تطّلع الأجيال الصاعدة على أعمال فنان كبير مثل توفيق الباشا، خصوصاً الذين يستهوون الاستماع إلى الموسيقى الراقية، المهذِّبة للنفس والروح.