الحرب الصهيونيّة المقبلة والدور التركيّ «المشبوه»
فهد المهدي
شهد العالم منذ بداية الحوادث التي شهدتها البلدان العربية سلسلة من التطورات والمتغيّرات العنيفة التي بدّلت الهيكلية العامة للوضع الدولي والإقليمي وأحدثت خللاً في التوازنات وفتحت الباب واسعاً أمام إعادة رسم خرائط سياسية جديدة وتحولات في البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنظم السياسية.
زادت التحديات وتفاقمت خطورة استهدافاتها، فسقط معظم الدول العربية تباعاً من قائمة الدول والجهات التي تهدد الكيان الصهيوني، ولم يبقَ في هذه القائمة إلاّ سورية وحزب الله وإيران على المستويين العربي والإقليمي، ما يبدو مشجعاً للكيان الصهيوني كي يستعدّ لحرب مقبلة ويفرض مشروعه وإيديولوجيته ويصوغ توجهاته طبقاً لمصالحه، وبالتالي يعمّم مفاهيمه وقيمه. ثمة دول إقليمية انساقت في مخططاته وربطت مصالحها بالتبعية له، لتحقق ما تريد تحقيقه، فبات الكيان الصهيوني جاهزاً ومستعداً وراح يُهيئ الرأي العام نفسياً لحرب شاملة وشيكة، موسعاً قاعدته الجيوستراتيجية لتشمل شبه «القارة الشرق أوسطية»، وخارجاً من الحدود الأمنية التقليدية المعروفة لما يسمى بـ»دولة إسرائيل».
تركيا من تلك الدول التي مهّدت للكيان الصهيوني للدخول في حرب مقبلة، وأظهرت الحقائق دورها المشبوه في المتغيرات العنيفة التي طاولت العالم العربي والتي أثرته في مقاييس خطيرة، فعلى مدى عقود كانت تركيا أوثق حلفاء «إسرائيل» في المنطقة، إذ استندت العلاقة بين الجانبين إلى مبدأ « حلف الأطراف « الذي أرسى قواعده رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأول ديفيد بن غوريون، ومع وصول أردوغان للحكم، حَرص على العلاقة مع «إسرائيل» وزارها، وزار مؤسسة ما يعرف بـ « الكارثة والبطولة « التي تخلد ذكرى اليهود الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية على أيدي النازيين، كما وقّع وزراؤه على العديد من الصفقات في المجالين الأمني والاقتصادي.
رغم تضرّر العلاقات أعقاب حادث «أسطول الحرية»، وتجميد تركيا ما لا يقلّ عن اثني عشر مشروعاً دفاعياً مع الكيان الصهيوني، بما في ذلك اتفاق بقيمة خمسة مليارات دولار لشراء دبابات، وآخر بقيمة ثمانمئة مليون دولار لشراء طائرات دوريات وإنذار مبكِر، صعد أردوغان ضد الكيان الصهيوني انطلاقاً من حسابات المصالح الباردة وليس من منطلق حماسة دينية أو قومية كما صوّره البعض ذلك. كان الهدف إقامة استراتيجية جديدة مع دول المنطقة. ومع خروج ليبرمان من الحكومة تبدّل الظرف الداخلي الذي مكّن نتنياهو من تقديم الاعتذار لاعتبارات المصلحة التي تقوم على تعاون تركي مع الكيان الصهيوني، مقابل مساعدة الكيان الصهيوني تركيا في تحقيق هدفها في التحول إلى قوة إقليمية رائدة والالتحاق بالسفينة الأوربية. كما أعلن شمعون بيريز «أن في استطاعة تركيا أن ترسم طريقها الاستراتيجي من الناحية الأطلسية وطريقها الاقتصادي من الناحية الأوروبية، وطريقها السياسي من ناحية البحر الأبيض المتوسط».
دخلت تركيا لاعباً أساسياً في المنطقة العربية لتحقق تطلعاتها الإقليمية الدفينة في سعيها إلى إعادة إحياء الإمبراطورية العثمانية، فيما العرب غائبون ومهمّشون إلى درجة العجز عن القيام بأي دور استراتيجي في منطقةٍ هي أصلاً منطقتهم، التي تحوّلت إلى ساحة للفتنة ولتضليل. ووُظّفت المسرحية الدموية بشكل سافر لإثارة أكبر كمّ من النزاعات داخل هذه البلدان، تارة بسياسات همجية، وأخرى بتدخلات عملية، وبرز حقد تركيا التاريخي الدفين وانكشفت على حقيقتها من خلال ليبيا وسورية حيث مارست جرائمها ومجازرها تحت شعار «الحرية» فمنحت الكلاب الضالة والمسعورة التغطية والدعم اللازمين، وشجعتها على إشعال الحروب وإثارة النعرات العرقية والطائفية .
مجمل السياسة التركية حيال منطقة الشرق الأوسط والتي انطلقت من الدوافع والتطلعات لا من حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية، على ما يزعم أردوغان، مهدت للكيان الصهيوني في التحضير الجدي للحرب المقبلة، فالمعطيات التي نُشرت في السابق بيّنت أن «إسرائيل» غير جاهزة لأي مواجهة مقبلة، بخاصة إذا كانت مواجهة شاملة وعلى أكثر من جبهة، ووجد الكيان الصهيوني اليوم ضالته ليستثمر فرصة جديدة ويرسم معطيات جديدة للإعداد للحرب المقبلة، مستفيداً من دول إقليمية ولا سيما من تركيا التي تعتبر العمود الفقري لنشر مشروعها الكبير في العالم العربي فدورها المشين رُسم بدقة في مشروع تقسيم الدول العربية، وأول نتائجه التقسيمية قريب من التحقق في ليبيا والعراق.
قامت تركيا بدور محوري في هذا المشروع مدعومة من الكيان الصهيوني الذي حسّن وجه أردوغان لدى الغرب بعد الهجوم الغربي العنيف، بسبب تعامله مع التظاهرات في الشارع التركي، فضلاً عن وقف الكيان الصهيوني دعمه للمعارضة التركية، علماً أن التعاون العسكري والاستخباري بين تركيا و»إسرائيل» لم ينقطع فثمة في تركيا أكبر مركز تنصت «إسرائيلي»، وحجم المشاريع العسكرية والتعاون العسكري كبير، ناهيك عن الدروع الصاروخية في تركيا وهدفها الأساسي إيران وروسيا، بحسب البنتاغون.
بعدما تلقت السياسة التركية ضربة قوية، وتلقى المراهنون عليها صفعات قاسية، بخاصة من محور الممانعة في المنطقة الذي يمثل عائقاً خطيراً للكيان الصهيوني وحلفائه، قد يُجبر الكيان الصهيوني وحكومته المتطرفة والحلفاء على رفع سقف تهديداته للمنطقة، خصوصاً لفلسطين ولبنان وسورية، لإيجاد ثغرة ينفذ العدوّ من خلالها لخوض حرب غير مسبوقة، لناحيتي النوعية والنطاق، ومصيرية بالنسبة إليه وإلى المنطقة جمعاء، فالحرب هذه ستكون المحصّلة الطبيعية التي يريدها الكيان الصهيوني لرحلة اندفعت فيها تركيا ودول إقليمية أخرى لإنتاج مسرحية دموية وصلت إلى آخر مراحلها وأخطرها، وتنذر في تقديرنا بحرب مقبلة ستغيّر مجرى الحوادث الراهنة في المنطقة، لا سيما مع التطورات اليومية الخطيرة في المشهد الإقليمي والدولي.