ضياء الدين ساردار يبحث في الاستشراق ويغفل قلب العالم دمشق

لا يزال الاستشراق ونقده يشكلان حقلاً مثيراً للجدال والبحث والاستقراء والاختلاف، حتى بين الذي يسمّون أنفسهم بالمستشرقين. وتصاعدت في السنوات الماضية وتيرة الدراسات الاستشراقية التي اتسمت بمحاولتها المطابقة بين أطروحات فكر ما بعد الحداثة والاستشراق.

العديد من المؤلفات التي تبحث في موضوع الاستشراق، وتحاول للتعريف بتلك الدراسات الاستشراقية ونقدها، سواء من داخل حقل الاستشراق نفسه، أو من قبل الباحثين والدارسين الذين يتحدرون من أصول شرقية، تُظهر أن التمثيل المقدم إلى الشرق من قبل هؤلاء المستشرقين ينطوي على أبعاد إيديولوجية وعرقية وثقافية يجب التنبه إليها وفضحها، لما تحمله في طياتها من نزعات كولونيالية أو إمبريالية. في هذا السياق يصدر كتاب «الاستشراق: صورة الشرق في الآداب والمعارف الغربية» للباحث الباكستاني الأصل والبريطاني الجنسية ضياء الدين ساردار، في ترجمة لفخري صالح، ضمن منشورات «كلمة».

في تقديمه للكتاب يسجل فخري صالح مجموعة من الملاحظات على مشكلة الاستشراق ومضمون الدراسة التي يقدمها المؤلف ساردار، خاصة ما يتعلق منها بموقفه السلبي من أطروحات إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق»، رغم اعترافه بفضل سعيد على باحثي العالم الثالث في مجال هذه الدراسات، من خلال ما نبَّهتهم إليه من ضرورة دراسة الآداب والمعارف والعلوم الإنسانية الغربية بعيون جديدة، يمكنها أن تكشف عما فيها من حيل وغايات مخفية كامنة في أساس عملية تمثل الشرق، وما يمكن أن يبنى عليها من أطروحات. يرى صالح أن هذا الكتاب يعنى بتقديم رؤية راهنة للاستشراق بوصفه ممارسة ما بعد حداثية تسعى إلى إقامة نوع من المطابقة بينهما، نظرا إلى كونهما يريان كل شيء باعتباره تمثيلاً، وبالتالي لا ينطوي على أي إمكانية لما يسمى الحقيقة. لكن الباحث يعترف في المقابل بأن تلك الدراسات الاستشراقية تقوم على نوع من الإخلاص في البحث للوصول إلى الحقيقة. تقوم دراسة ساردار على ما يسميه صالح بمجاز التخفي والتنكر الذي تحدث عنه الناقد والباحث الهندي هومي بابا.

في تقديمه لكتابه يتحدث ساردار أولا عن ضرورة ممارسة الكثير من الدقة والحيلة لدى تناول مشكلة الاستشراق، إذ يتم تجاوز سوء الفهم، ليكون في وسع المرء رؤية ما تم إخفاؤه وإدراك الحدود المختلفة لصورة الشرق التي شوِّهت طوال قرون.

في المقابل يرى أنه ليس هناك شيء محايد أو موضوعي في ما يتعلق بالاستشراق، فالاستشراق لناحية التعريف هو مبحث متحيز وذو طبيعة مشايعة، أي أن الباحث الذي يدرس الاستشراق يحمل معه خلفيته وأدواته التي يستعين بها لإنجاز قراءته. هذا الواقع يحاول ساردار التحرّر منه من خلال العمل على تقويض هذه الفرضية أو التقليل من شأنها بعدما أصبح الاستشراق يغزو ميادين جديدة هي عالم الأفلام والتلفزيون والأقراص المدمجة من ناحية، ومن ناحية أخرى إثر التغيّرت التي خالطتها الجغرافيا، إذ أصبح يشمل أوروبا نفسها، موطنه.

ليس هناك شيء محايد أو موضوعي في ما يتعلق بالاستشراق، فالاستشراق لناحية التعريف هو مبحث متحيز وذو طبيعة مشايعة. يرى الباحث استحالة تحرر الاستشراق من تحيزه واستيهاماته الخيالية عن الشرق، ما يجعله عقبة أمام الوصول إلى فهم حقيقي متبادل بين الغرب والشرق. من هنا تبدأ دعوته للبحث عن مقدمات ومداخل جديدة يمكنها أن تشكل بداية مختلفة للوصول إلى لقاء حقيقي بين الشرق والغرب.

أول ما يسجله عن الاستشراق هو تقديم الشرق بوصفه مملكة الحكايات ظهرت من خلال تغليف صورة الشرق بأشكال من القص، ما يجعله يبدأ بحثه من حكاية فيلم «مدام بترفلاي» التي تتحدث عن علاقة غرام بين ديبلوماسي فرنسي وسيدة أوبرا في بكين.

الباحث يصل من خلال حكاية الفيلم إلى استنتاجين يشكلان محوراً للرؤية الاستشراقية، التي يتداخل فيها الفردي الخاص بالجمعي، أولهما البحث المحموم للرجل الغربي عن الغريب والمدهش والجنس في الشرق، وفي الآن ذاته السعي إلى تعليم الشرق والسيطرة عليه سياسياً واقتصادياً.

في كلا الرغبتين يظهر النزوع الغربي إلى امتلاك الشرق، وهذه الرغبة تفرض تلك الصورة التي يتمّ تمثيله فيها لتحقيق هذه الرغبة. وهكذا فإن تمثيل الثقافات والحضارات الواقعة شرق الغرب يرتكز على جهل مصنوع، فتلك التمثيلات تم اختراعها وتلفيقها عن سابق إصرار، ثم استخدمت كوسائل لاحتواء ثقافات الشرق وحضاراته وإخضاعها له. ومن المفارقات التي يكشف عنها في البحث الاستشراقي تركيزه على التراث والتقليد من دون الالتفات إلى الحديث، فضلاً عن سعيه إلى اكتشاف ماضي الشرق بحيث يملك من السلطة عليه أكثر مما لدى شعوب الشرق نفسها، من دون أن يتخلصوا من محاولات التلفيق والوصول إلى النتائج التي تبرر نظرتهم المتحيزة إلى الشرق.

يتحدث ساردار عن جانب من الاستشراق يتمثل في النموذج الأيقوني المثالي للمرأة الشرقية، يقابله نموذج الرجل الأبيض المعلّم المحبوب، أو إله المعجزة العلمية والتفوق التكنولوجي. ويعرض لواقع الاستشراق في صورته الحديثة، لناحية القول إنه نتاج جسم من الاستقصاء والتعلم المستمر المتزايد يهدف إلى تحقيق معرفة أكبر وأكثر تجرداً وعقلانية، مبيناً بطلان هذا الادعاء في ضوء قراءة تاريخه الذي لم يكن إلاّ نوعاً من التأمل الداخلي المشغول بالاهتمامات والمشاكل والمخاوف والرغبات التي تخص الغرب وحده، والتي يعمل على استحضارها من خلال ما خلقه من نموذج هو الشرق، ما يجعل الأخير مجرّد موجز مختصر متغير وغامض يتطابق مع رغبة الكاتب.

لدى الحديث عن موقف الاستشراق من الإسلام يعود ساردار بتاريخه إلى العالم المسيحي يوحنا الدمشقي الذي كان صديقاً مقرباً من الخليفة الأموي يزيد. يقع ساردار في مشكلة منهجية، فهو يسوق أولاً جملة من الاتهامات المتعلقة بموقف العالم يوحنا السلبي من الإسلام من دون أن يذكر المصدر الذي استند إليه، ثم يقع في خطأ آخر هو النظر إلى مسيحيي الشرق على أنهم مستشرقون، وكان الأجدى بالباحث أن يدقق في الإسم فهو يحيل على أقدم مدينة تقع في قلب العالم هي دمشق. هذا الخطأ يقع فيه عدد من الباحثين ناسين أن الشرق هو الذي صدّر ديانات التوحيد الثلاث إلى العالم، ولم تكن الحروب الصليبية إلاّ جزءاً من المشروع الاستعماري الغربي الذي يسعى إلى تكريس المسيحية بنسختها الغربية في شرق المسيحية، باعتبار ذلك خطوة لتجريد الشرق من قيمته الروحية والحضارية بغية السيطرة عليه وامتلاكه، وكان ذلك واضحاً من خلال حجم الاضطهاد والقتل الذي واجهه مسيحيو الكنسية الشرقية من قبل تلك الغزوات الهمجية.

كان وجود الشرق ضرورة لكي يعي الغربي ذاته ويدرك مدى التمايز والاختلاف، ولو لم يكن الشرق موجوداً لكان على الغرب أن يخترعه لتحقيق هذه الغاية. وما يقدمه الباحث من بحث في تاريخ الحروب الصليبية ودعاواها يمثل جانباً مهماً من هذه الرغبة التي كان يعمل الغرب على تحقيقها، من خلال شيطنة الآخر وتشويه صورته، إلاّ أن هذه الصورة كما يعترف الباحث في ما بعد أخذت تتراجع بعدما أصبح الشرق والهند المختبر الذي يستمد الغرب من خلاله المعلومات الجديدة، التي تجيب عن الأسئلة الكبرى الخاصة بالوعي الغربي للذات.

الغريب في موقف ساردار العدواني حيال إدوارد سعيد هو محاولته سلب الأخير ما قدمه في كتابه «الاستشراق» كل قيمة معرفية أو نقدية. فهو تارة يرد ما اعتمده سعيد من نظرية ومفاهيم في نقد الاستشراق والكشف عن مراميه وغاياته ووظائفه التي قام بها إلى نظريات فوكو والنقد الثقافي والتحليل الماركسي، ليصل في النهاية إلى أن ما قدمه سعيد جدير بالنسيان عند مقارنته مع مساهمات العطاس وجعيط ، فهو على ما يرى لم يطرح أسئلة جديدة، ولم يقدم نقداً أكثر عمقاً وشمولاً من سابقيه.

الغريب في موقف ساردار العدواني حيال إدوارد سعيد هو محاولته سلب الأخير ما قدمه في كتابه «الاستشراق» كل قيمة معرفية أو نقدية، لكنه يعود للاعتراف بأن إدوارد قدّم جالاً جديداً ركز على شيء اسمه الشرق، وهذا الجدال يستند إلى ثلاث سمات مبتكرة تخص الاستشراق تمثل الأول منها بالبعد الجديد للتحليل التاريخي وظهر في النقد الأدبي. كما كشف عن القيم التي أدت إلى صعود الإمبراطورية والاستغلال الإمبريالي.

أما السمة الثانية فظهرت في قدرته على جمع خيوط النقد جميعاً في إطار واحد متداخل الاختصاصات، في حين أن السمة الثالثة تمثلت في قدرة سعيد على وضع نظرية فوكو والنقد الأدبي في موضع استراتيجي جديد لنقد الاستشراق. فكيف يستقيم هذا الإنجاز الذي يعترف به لسعيد مع محاولته تجريد مشروعه الكبير في كتاب «الاستشراق» من أي قيمة. إنه التحامل غير الموضوعي في نقد ساردار وموقفه المتحيز نحو إدوارد سعيد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى