عرض باريسيّ لمسرحية دورنمات «زيارة السيّدة العجوز»
تُعرض في باريس المسرحية الأشهر لدورنمات «زيارة السيدة العجوز» في إخراج لكريستوف ليدون. حكاية امرأة لا تَنسى ولا تُنسى حتى تنتقم.
لدورّنْمات 1921 ـ 1990 مكانة بارزة في الآداب السويسرية الناطقة بالألمانية. نال شهرته بدءاً في أعمال روائية متميزة مثل «القاضي وجلاده» و»الريبة» و»النفق».
وحاز صيتاً عالمياً لدى اشتغاله في المسرح كمؤلف ناهز إنتاجه ثلاثين مسرحية تناوب المخرجون على تقديمها في مسارح العالم، مثل «مجانين الربّ» و»رومولوس الأكبر» و»الفيزيائيون» وخاصة «زيارة السيدة العجوز» التي تقدم على الخشبة الفرنسية.
في نصوص دورّنْمات السردية والمسرحية نوع من القسوة والضراوة في تصوير البشر والتهكم على تلونهم ونفاقهم، فهو مثل النمساوي توماس برنهارد 1931 ـ 1989 لا يؤمن بوجود إنسان طيب.
لكن موقفه هذا لا يعبّر عن شكل خطاب أخلاقي مباشر، بل في صيغة حكايات يرويها سرداً أو مسرحاً. ومسرحية «زيارة السيدة العجوز» تنتمي إلى هذا السجل، ألفها دورّنْمات عام 1955، أي في فترة شهدت نهاية حرب مدمرة وبداية حرب باردة. ثَمّ كانت ثيمتها المحورية: هل يكون الانتقام نوعاً من أنواع العدالة؟ وهل يكون بديلا من القضاء؟
تروي المسرحية قصة كلارا فاشر، فتاة كانت تعيش في مدينة غولن وقعت في هوى بقال شابّ يدعى ألفرد إيل، فلما حملت منه تنكر لها وأنكر أمام المحكمة طفله، فاضطرت إلى مغادرة المدينة والعيش في بؤس أوصلها إلى بيع جسدها في بيت بغاء في هامبورغ الألمانية. ثم شاء لها حظها أن ينتشلها أحد الأثرياء ويتزوجها ويهبها اسمه فباتت تعرف بكلير زاهَناسيان. ولما مات ورثته وصارت من ذوات النعيم تخالط الأعيان والوجهاء وتتزوج منهم من تشاء حتى راكمت ثروة سوف تستعملها لتسلّ نقمتها على إيل وشخصين آخرين شهدا زوراً ضدها وعلى غولن كلها. وكانت جاوزت الستين من عمرها يوم عادت إلى مسقط رأسها حيث استشرت البطالة والبؤس، راغبة في الانتقام من ذاك الشاب الذي خان حبها، قائلة: «لقد جعلني العالم بغياً، والآن سأجعله ماخوراً». استقبلها الأهالي مثلما يُستقبل المسيح المنقذ، وهم لا يعلمون أن إفلاسهم من تدبيرها، إذ رسمت طوال تلك السنين خطة بدأت بتركيع المدينة وإخضاع أهلها عبر مصانعها ومعاملها ومتاجرها ثم غلقها وتشريد العاملين فيها. ولما حضرت أردفت ذلك بإجبارهم على تسليمها شاهدي الزور لتنتقم منهما شر انتقام، إذ أمرت بإخصائهما وإعمائهما. أما المرحلة الثالثة من الخطة فعبّرت عنها بقولها: «أعطيكم مالا كثيراً، وتعطونني جثة الرجل الذي خانني حينما كنت صغيرة»، وسط ذهول الناس ورعب ألفرد إيل الذي كان يحسب أن ما أتاه مجرد زلة شباب تزول بزوال زمنها، فإذا هي جريمة لا تزال تلاحقه.
ترسم المسرحية مشهداً جماعياً في مدينة أوروبية متواضعة، تتوسطه كلير زاهَناسيان وحولها شيخ المدينة وقس وطبيب وألفرد إيل وزوجته وأطفاله، وكذلك من يسميهم دورّنْمات بالمزعجين أو المضايقين، وهم فريق من الصحافيين حضروا لتغطية حفل الزواج الثامن للمرأة الثرية، فإذا هم في قلب قضية لا يفهمون منها شيئاً، إذ لا يدركون أن الرهان هنا هو «عدالة مطلقة»، تطالب بها امرأة أهينت وأذلت، وقابلها الناس بالرفض في البداية والتضامن مع ألفرد إيل، ثم أذعنوا أمام مغريات المادة والآمال المعلقة على السيدة زاهَناسيان.
هذه المسرحية لاقت النجاح حيثما عرضت، والسبب ليس بنيتها المحكمة فحسب، إنما أيضا صورة تلك المرأة التي لا تريد أن تنسى ولا تكتفي بالمطالبة بالعدل، بل هي تصر على ما تسميه «عدالة مطلقة»، فما عانته له في ذهنها من الفظاعة ما يخرج على الإطار القانوني الجاري العمل فيه.
فالضرر هنا إذلال ومهانة ولّدا لديها جرحاً لا يندمل، والعدالة لها اسم واحد في تصورها هو الانتقام. ومن ثَمَّ كانت شراستها وضراوتها وحرصها الشديد على طلب الثأر من إيل ومن الشاهدَيْن ومن المدينة كلها، لأنهم خذلوها جميعا حينما كانت تسترحمهم يوم وقفت أمام المحكمة لإثبات هوية وليدها، فلم تجد في قلوبهم أثراً للرحمة. تلك العدالة التي أرادتها السيدة زاهَناسيان قابلها سكان المدينة في النهاية بجواب لا يقل نذالة عن موقفهم الأول، إذ أذعنوا لها صاغرين.
تلك القسوة لا تتبدّى في إخراج كريستوف ليدون مدير فرقة «الليل ولحظة المسرح» التي أنشأها عام 1991، رغم خبرته في الإخراج، إذسبق له عرض أعمال كلاسيكية كبرى لراسين وديدرو وشكسبير وموليير وتشيخوف وغولدوني، وأخرى معاصرة لدورّنغر وبارّيكو ولودج وسميون وسواهم. اختار أسلوب الحكي عوض الاعتماد على أسلوب المعاينة، وبالغ في التركيز على الطوية بحسنها وخبيثها، ما أفقد المسرحية أحيانا وهجها. ورغم الأداء المتميز لدنيال لوبران في دور كلير زاهَناسيان، وحرفية الممثلين الآخرين، والحفاظ على النسق الدرامي للنص في توتره وانفراجه، فإن ليدون بتفضيله التركيز على النواحي العاطفية، خاصة في المشاهد الأخيرة، خالف ما تطفح به مسرحية دورّنْمات من انطباع حادّ بالقسوة، وهو انطباع يضع كل شخص أمام مفهومه للعدالة من خلال صورة امرأة لا تَنسى، ولا تُنْسى. إنها تذكّر إلى حدّ ما بأسطورة «ميديا».