«جماليات المكان في الشعر العربي» كتاباً بحثيّاً لهدى عطيّة
كتب حازم خالد من القاهرة: كان امرؤ القيس رائد بكائيات الوقف على درس ديار الأحبة، وأول من وقف واستوقف وبكى واستبكى. كان هذا النهج البكائي في شعر الجاهليين بالوقوف على أطلال الأحبة جزءاً مترابطاً، ضمن نسيج حياة البداوة وما فيها من صحراء ورحيل مستمر، وكان رحيلهم في أصله طلباً لكلأ المراعي وزخات المطر، وكان لهذا الرحيل رحيل نشأت على أطرافه مرثيات البكاء على الربوع وأهلها. ولم يك لهم بد من الوقوف على الديار، فهي آخر ما تبقى لهم ومن حياة مضت، فمجنون ليلى يحاكي من سبقه على درب بكاء الأدراس قائلاً:
أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدار
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكنوا الديار
كان الجدار من باب المجاز المرسل، إذ أطلق لفظ الجدار وأراد به ساكنه، لعلاقة المكانية والاحتواء للساكن، إذ عرفت قديماً صلة الإنسان بالمكان وارتباطه به مقيماً بين أضلعه، يتنسم كل ما فيه من مرئيات ومشاهدات من النوع المحسوس، فالمكان مسكون بهواجس وجدانية عبر عنها تراثهم من وقوف وروع. فهذا عنترة العبسي يلاحق هواه مدامع الرحيل شجناً وخشية بفؤاده فينشد قائلاً على مرأى من إبل الرحيل لآل عبلة:
ما راعني إلاّ حمولة أهلها وسط الديار تسف حب الخمخمِ
فيها اثنتان وأربعون حلوبة سوداء مثل خافية الغراب الأسحمِ
ويتبع عنترة عمرو بن كلثوم قائلاً:
قفي قبل التفرق يا ظعينا نخبرك اليقين وتخبرينا
في معلقته ومطلعها:
ألا هبي بصحنك فأصبحينا ولا تبقي خمور الأندرينا
متى ننقل إلى قوم رحانا يكون في اللقاء لها طحينا
كان بن كلثوم أول من خالف الوقوف على الأطلال بالدعوة أو استهلال بالنسيب، إلى الدعوة بعدم ترك خمور مغاني سكر الأندرينا. ثم عاد إلى الظعن الرحيل والوقوف للوصية الأخيرة من محبوبته قبل امتطاء هودجها في معية جمال الرحيل. إذن محور حوارات العرب كانت حول المكان بمعناه الحسي والزمن بمعناه المرتبط بالمكان.
غير أن د. هدى عطية تأخذنا في كتابها «جماليات المكان في الشعر المعاصر» إلى مرافئ ما وراء المحسوس من المكان إلى حيث ما هو مكون ذاتي جمالي ذو أبعاد فلسفية عميقة في تداخلها، فهي ترى في منظار من مقتطفات بيانها في كتابها أن الوجود الإنساني نفسه لا يتبدى إلاّ عبر وجود مكاني، على نحو يمد جسوراً معرفية وزمانية وحدسية وتخيلية تربط بين المكان والمكانة والوجود، فهو ضرورة من ضرورات الاستقرار والتمكن والاحتواء الأول وهو شرط أولي قبلي لتجليات حدوث العالم والتاريخ والذات، ففي بيتنا الأول تنمو إنسانيتنا وفيه يتم الكشف عن كامل وجود الإنسان وحقيقته وطبيعته ملتحمة بحقيقة الواقع والعالم من حوله، ومن خلال بيتنا الأول ينمو فينا وبناء العالم من حولنا بدءاً من العريش الخفي للذرة حتى جسد أفلاك المجرة، فالمكان في الشعر هو ظلال وجودنا الأولى. والمكان في نظر غاستون باشلار «إذا انجذب إليه الخيال لا يعني بالمطلق موقعاً ذا أبعاد هندسية بالشكل البنائي أياً يكن، بل هو مكان بكل ما للخيال من تحيز وإننا ننجذب نحوه لأنه يكثّف الوجود بكل ما له من معنى في حدود تتسم بالحماية».
وفقاً لهذا الطرح، لم يعد المكان مساحات وفراغات ونسبا رياضية، بل يتعداها إلى الخيال وديناميات اللامتناهي من الفعل الإنساني، حتى تصبح الهوية ذاتها صورة من صور المكان التخيلي الدينامي المستعاد من أفق الديمومة الحية المتجددة لا سبيل التكرار والاستنساخ الجامد بل كائن له من الحياة ما ليس لجمود الموقع، ويظل نتهدل له ويتهدل لنا حتى يظل يمتعنا بخاصية التمدد والانتشار على الدوام، فالنسق القيمي لأي مكان وأي ثقافة هو صورة رمزية مكانية تحدّد له الصورة المكانية والزمانية للمكان. وبما أن جدلية التداخل في آلية التفكير عبر الحوار اللغوي تشكل بعداً منظوماً متكاملاً من الرمزية ومحتوى الخبرات التراكمية والنصوص، فإن المكان يشغل عنصر الوسط من لب تكوينها والمكان من منطلق هذا الموقع المركزي يضفي على النصوص بناءً لغوياً للتفاصيل الصغيرة كافة، الظاهرة والمختفية والمسموعة واللامسموعة والمرئية واللامرئية، التي تشكل في خاتمة مطافها البناء الثقافي نفسه. ويكون الإنسان في لب ذلك التداخل في إطار طبقات بعضها فوق بعضها الآخر، تبدأ بأقربها إليه وهي مثل الجلد منه ومن ثم الملابس ومن ثم البيت ومن ثم محتوى البيئة فالمدينة إلى الفضاء الكوني الفسيح وللإنسان في هذا الإطار تواصله وتفاعلاته مع طبقاته المحيطة هذه. ومن هذه الجدلية المفتوحة بين الذات الإنسانية والعالم المحيط بها، من خلال رحلتين في إطار معنوي عقب تخلق المفاهيم والتصورات ومن ثم ذاهبة في رحلتها الأولى من الذات الشعرية المدركة إلى العالم الثقافي المدرك، ومن العالم الثقافي المدرك في رحلتها الثانية إلى الذات المدركة، خالقة قصدية الوعي الإنساني، بكل ما تعج به من تعدد وتعقيد وجدل وانفتاح في دينامية صيرورة جمالية ومعرفية علائقية لا تنتهي ولا تكون نهائيتها التي آلت إليها تساوي مجموعة مركباتها أبداً.
تنظر الكاتبة من منظار مارتن هايدغر أحد المفكرين الذين اهتموا بفكرة المكان انطلاقاً من محتوى فلسفي، وهايدغر من رواد عصر التنوير الأوروبي، عبر بالفلسفة الغربية الحديثة متجاوزاً إطار عصر القديم والوسيط، وكان يرفض البحث في الإطار الميتافيزيقي الغيبي والتأمل في أصل الوجود من خلال منظور تجريدي، داعياً إلى النظر إلى المعرفة عبر التجريب الحسي بعيداً عن تأملات القدماء، ومن الحيز الحسي توصل إلى المكان الذي يراه عالم التفكير الأهم ويتسع حتى يصل إلى المجرات ويصغر حتى يصل إلى أركان غرفة. هو المكان إذن الذي يتفاعل معه الإنسان صغر أو كبر فيتناول عطاءه، وإمكان عطاء المكان غير محدود، وهو إمكان قَبْليّ، أي أن ظهوره سبق ظهور المفاهيم، وبالتالي يعتبر نواة وبذرة التعلم الأسبق. ويرى هايدغر أن للإنسان طريقة خاصة للارتباط بالوجود يسميها بـ«الجوانية» معتبراً المكان موجودا داخل العالم ومحاطاً بأشيائه، فالمكان هو الوجود الأساسي للعالم ولبنية الوجود فيه. تلك هي المسلمة التي ألمح هايدغر إليها عبر مكانيات ثلاث أولها مكانية ما هو موجود في متناول أيدينا داخل العالم، والثانية ما هو موجود بعيداً عن تناول أيدينا وموجود في العالم، ومكانية الموجود الإنساني والموجود.
وفقاً لهذا الطرح، المكان منظور إليه باعتباره شيئاً من أشياء العالم يعد أكثر أشياء العالم في متناول اليد قرباً منا على الإطلاق، وليس في وسع أي إنسان الانعتاق من قيود فرضية المكان المطبق عليه، فهذا ما يحقق كينونته المحمية والمفارقة، ويتأتى دوره الوظيفي انطلاقاً من كونه كائناً يعلم أنه في حالة إمكان وجود حتمي يحققه لا بد من تسويره بأسوار الحماية المتمثل في البيت، والقرية، والمدينة، والوطن بكامل أسواره، حقيقية أو وهمية، تحمي الداخل فيزيائياً وتصد عنه الآخر الخارجي.
يذهب هايدغر بعيداً إلى حد أنه لا يمكن فهم إنسانيتا أو استيعاب مغزاها إلاّ من خلال هذا الوجود المكاني الذي تملكه، فإذا كانت المكانية تعني الإنسان لكونه موجوداً منفتحاً على العالم، وأن انفتاحها على العالم سيكون من خلال خاصيتين جوهريتين هما الاتصالية والاتجاهية من قبيل القرب والبعد، فهي هنا تتلاشى وتجعله يختفي فالسبل التي تتصارع فيها الأشياء وفق ما نمارسه على مدار اليوم تدفعنا إلى أن نقهر البعد، ولا ينبغي أن يكون البعد مسافة مقاسية، مثلما تصور المفكر الفرنسي ديكارت، فإذا كان لنا أن نقيم البعد فإننا نفعل ذلك على نحو تقويم نسبة بينه وبين ما يحققه الإنسان لذاته في حياته اليومية.
انطلاقاً من هذا الطرح لمارتن هايدغر تتساءل الكاتبة هدى عطية: هل نحن مقذوفون قسراً نحو مكان ألفتنا؟ وتجيب عن التساؤل أفصح إجابة، وتستنطق الشعر المعاصر استنطاقاً ظاهرياً تكشف خلاله علاقتنا بالعالم وبالمكان وبأنفسنا،