الربيع العربي وخطره على المواطنة والدولة ٢/١
في هذا العدد يقارب الدكتور خليل خيرالله موضوع المواطنة وهو الموضوع الذي يعبّر عن حاجة مصيرية تتعلق بوحدة المجتمع ومنع تفتيته، الأمر الذي دأبت اليهودية العالمية على تحقيقه منذ أن وجدت.
لقد قارب الدكتور خيرالله بين المواطنة في الدولة الدينية والمواطنة في الدولة المدنية في مسار الانتفاضات العربية التي سمّيت بالربيع العربي.
يقسم الباحث دراسته إلى ثلاثة مباحث هي: أولاً: في المصطلح، ثانياً: في حقوق المواطنة بين الدولة الدينية والدولة المدنية، ثالثاً: حقوق المواطنة في الانتفاضات العربية في كل من: تونس ومصر وسورية.
خليل خيرالله
تطورت فكرة المواطنة في تاريخ الشعوب والدول وتجددت مفاهيمها كلما تهددت وحدة الشعب أو تخلف نظام الدولة عن احترام حقوق مواطنيها أو حصل تمييز بينهم. ولهذا تناضل الشعوب فتقوم الثورات وتحصل الانتفاضات.
إن الحديث عن المواطنة لا يستقيم من دون تحديد معناها ومبناها، مع ملاحظة أن حقوق المواطنة ما هي إلا حقوق الإنسان، ذات الطبيعة العامة، حين تنتظم ضمن حدود الدولة الوطنية.
منذ آذار عام 2011 شهد العالم العربي حراكاً شعبياً أو «ربيعاً عربياً» أو انتفاضات بدت متشابهة في مطالبها كونها انطلقت من حقوق وحريات أساسية وقد يبرر قيامها تاريخ طويل من انسداد الأفق واستبداد السلطة. لكن الملاحظ أن جدالاً، بل صراعاً، ما زال مستمراً، في مجالنا العام والخاص، بين فكرين لمشروعين يحاولان التجسد على أرض الواقع: مشروع الدولة المدنية ومشروع الدولة الدينية.
كما نلاحظ أيضاً أن مسار الانتفاضات وأثرها ومدى نجاحها لم يكن واحداً في العالم العربي. والخوف أن يكون المشرق العربي أمام مشروع ثالث لا قيامة قريبة له بعده، هو تفكك الدولة وانحلال المجتمع… ندرس أولاً ما تعنيه المواطنة في الدولة الدينية وفي الدولة المدنية ثم ندرس لاحقاً ما حققته هذه الانتفاضات أو خسرته، في خطاباتها والدساتير، لجهة حقوق المواطنة في دول اخترناها نماذج للدراسة هي تونس ومصر والجمهورية السورية مع الإشارة الى أن النص على الحقوق في الدساتير لا يغني عن تتبع تنفيذها على أرض الواقع.
أولاً: المواطنة في الدولة الدينية وفي الدولة المدنية وفي الواقع العربي
نتناول باختصار مفهوم المواطنة 1 قبل متابعتها في الدولة الدينية والمدنية 2 وفي الواقع العربي 3
1 – في المصطلح:
يرتبط مصطلح المواطنة بمصطلحات الوطن والمواطن والوطنية. فالوطن هو الأرض، أو البيئة الجغرافية حيث يعيش الإنسان ويتفاعل معها حياتياً ووجدانياً فيتخذها موطناً له. والجدير ذكره أن فكرة الوطن قد ترسخت بعد معاهدة وستفاليا 1648 وصارت تشير الى إقليم الدولة الذي أصبح عنصراً من عناصرها الرئيسة.
والمواطن هو الفرد الذي ينتمي الى وطن ويرتبط بنظام دولة تقوم على هذا الوطن. وقد تبلور مفهوم المواطن مع مفهوم الشعب وأصبحت له مضامين اجتماعية وسياسية وحقوقية طورها وتطور بها القانون الدستوري والقانون الدولي. أما الوطنية فتقوم على الشعور بالانتماء الى الوطن والذود عن حياضه والالتزام الأخلاقي بالدفاع عن مصالح شعبه وأولها حريته وسيادته على أرضه.
وعليه، إذا كانت الوطنية هي محبة الوطن والانتماء اليه، فإن المواطنة تعني، إضافة الى هذا الشعور، انخراط جميع المواطنين، كأعضاء في الدولة، في نظام من الحقوق والواجبات يقيم المساواة ويحترم حقوق الجميع من دون تمييز ويختار الية ديمقراطية تكرس مبدأ الإرادة الوطنية تمثيلاً أم تعبيراً. وهكذا فإن للمواطنة أبعادها في نظام الدولة: فالمساواة أمام القانون تدل على البعد الحقوقي المدني، والمساواة بين الجنسين تشكل البعد الاجتماعي الداخلي، وحق الاقتراع العام للمواطنين يؤكد البعد السياسي، واقتسام الثروة الوطنية بين المواطنين بشكل عادل يجسد البعد الاقتصادي- الاجتماعي، وحق المواطن بالعلم وبالإعلام وبالحصول على التربية المدنية الملائمة يؤشر على البعد الثقافي… 1
وبكلام آخر، فإن المواطنة تعلمنا كيف نصوغ حياتنا المشتركة ضمن المجتمع وما اصطلح على تسميته بالمواطنة العالمية يعلمنا كيف نصوغ علاقتنا بالعالم . ونحقق المواطنة حين نتعلم كيف نجمع بين المختلف ونجعله معاً، أي كيف نجعل التعدد في الواحد بدل العنف والحرب والإقصاء الذي ينتج التوحش. وأساس المواطنة هو القبول المتبادل والتسامح والمساواة في الحقوق والكرامة واحترام حقوق سائر مكونات المجتمع وقبول تداول السلطة السلمي وأن يكون مصدر التشريع هو الشعب المعبر عنه ديمقراطياً. فالمواطنة تعني أخيراً الإدماج أو الاندماج في منظومة الحقوق والواجبات الموحدة والتي تتطور مع تطور المجتمعات والدول.
إن حقوق المواطنة ترسخت مع نضال الشعوب وارتبطت بفكرة الدولة-الأمة L Etat-Nation وأدخلتها في نظامها السياسي الحقوقي. وقد أصبح معيار تقدم الشعب وتطوره ما وصلت اليه هذه الحقوق من مستوى، لذلك فإننا نرى عناوينها تتصدر خطاب الثورات والتحركات الشعبية والمطلبية ومنها ما نشهده بشكله الأوضح في الانتفاضات العربية الحالية. ن.أ. حول الموضوع
2 – حقوق المواطنة في الدولة الدينية وفي الدولة المدنية
أ-حقوق المواطنة في الدولة الدينية:
في الدولة الدينية قد تتشابه المفاهيم، على الأقل لفظياً، فهنالك الوطن والمواطن والوطنية والمواطنة والأمة… ولكن حقوق المواطنة الكاملة تقتصر على أتباع الدين فهي حقوق الجماعة الدينية الحاكمة. وترى الشريعة الإسلامية، مثلاً، «أن المواطنة هي تعبير عن طبيعة وجوهر الصلات القائمة بين دار الإسلام، وهي وطن الإسلام، وبين من يقيمون على هذا الوطن أو هذه الدار من المسلمين وغيرهم» 2 سواء كانوا مسلمين أو ذميين أو مستأمنين 3
في الدولة الدينية مصدر السلطات هو الله وما يحكم في الأرض هو شرع الله الذي أنزله على رسله ومن يتبع شرع الله له حقوقه كاملة ولغيره، في نفس المجتمع، إن تساهل معه الدين، حق الحماية والتسامح لقاء تنازل المحمي عن حقوقه المدنية والسياسية، ما يسبب عدم المساواة بين أعضاء الدولة الواحدة.
السمة الأساسية للدولة الدينية هي احتكار الحكم باسم الدين والتمييز بين المواطنين وإشهار سلاح التكفير وكمّ حرية المعتقد والتعبير… وإذا تحولت الحركات الدينية الى حركات جماهيرية إيديولوجية شمولية تصبح الفاشية الدينية ممكنة.
كل الأديان عرفت الدولة الدينية وشهدت البشرية نزاعات وحروباً طويلة تحت شعارات دينية وخلف رموز دينية بل مذهبية ضمن الدين الواحد… وكانت نتيجتها الخراب الداخلي. والحقيقة أن التفكك كان نصيب كل دولة دينية، لأن كل دولة دينية تحمل في داخلها مبدأين لا يمكن الجمع بينهما على استقرار في المجتمعات العمرانية الراقية، هما الوظيفة الروحية والسلطة الزمنية.
ب- حقوق المواطنة في الدولة المدنية:
بعد حروب طويلة دامية عرف الغرب الأوروبي اتجاهاً لفصل الدين عن الدولة. فبعد أن خرج الملوك ظافرين من نزاع طويل مع السلطة البابوية التي لم تستطع التوفيق بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، انتصروا في نزاعاتهم مع الإقطاعيين ووحدوا شعوبهم التي التفت حولهم فتصالحوا مع السلطة الدينية وادّعوا الحق الإلهي بالحكم والسلطة المستمدة من الله مباشرة. ومع الثورة الفرنسية سقطت الملكية مع فكرة الحق الإلهي وأصبح الشعب مصدراً للسلطات وأصبح أفراده أحراراً متساوين في الحقوق ولهم حرية المعتقد والتعبير كما يريدون.
هذه التطورات أدت الى نشوء الدولة الاوروبية الحديثة على قاعدة ضرائب المكلفين والتمثيل والمساواة أمام القانون. وأبرز عوامل نشوئها صعود الطبقة البورجوازية بدفع من الثورة الصناعية التي أدت لنشوء المدن الحديثة ونشوء الأسواق القومية، التي فككت عصر الإقطاع، ونمو الطبقة المتوسطة والمجتمع المدني من المتعلمين والمثقفين وتطور العلوم وانتشار التعليم في المجتمع.
هذه العوامل أدت الى نشوء دولة مدنية دستورية تفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية مع إبقاء التعاون والرقابة بينها وتكفل حقوق إنسانها في الحرية والمساواة وفي اختيار حكامه على قاعدة تمثيل الشعب في مسار ديمقراطي يصح معه تسميتها بدولة القانون أو دولة المواطنة والمواطنين.
3 – حقوق المواطنة في الدول العربية:
في المقابل، نشأت الدولة في الواقع العربي بعد تفكك السلطنة العثمانية إثر انتهاء الحرب العالمية الأولى سنة 1918 وإلغاء الخلافة سنة 1924 ووقوعنا تحت استعمار الدول الغربية المقنّع بالانتداب، فإذا هي مؤسسات شكلية أنشأها الانتداب ونظّمها بدساتير وسماها دولة مدنية ولما تنضج عوامل نشوئها بعد. ثم عيّن الحاكم الغربي سلطاتها بما يشبه العملية الديمقراطية الغربية فإذا هي خارج الشرعية المجتمعية وغريبة عن حاجات المجتمع وأولوياته. ويخرج عن تسمية الدولة المدنية الملكيات والإمارات والمشيخيات العربية مع احتفاظها بالغربة عن مجتمعاتها.
بعد الحرب العالمية الثانية ونوالنا الاستقلالات الشكلية، ثبّت الغرب والشرق دولة «إسرائيل» في قلب عالمنا لتعلن فشل دولنا وكياناتنا السياسية الهجينة بالدفاع عن الشعب ومصالحه فبرز دور جيوشنا في الانقلاب على الأوضاع، خاصة في محيط الدولة المحتلة، وفي تسلم السلطة لإنهاء زمان العجز.
في واقع الحال، عاشت مجتمعاتنا عقوداً طويلة على شرعية وعود التحرير وإزالة الاحتلال. وفرض الانقلابيون في محيط فلسطين أنظمة قومية عربية أقرب الى الاشتراكية. ومن مسؤوليات هذه الأنظمة أنها أعاقت قيام دولة المؤسسات والقانون والمواطنين فهي اشتغلت على إقصاء المجتمع وتهميش الفرد واستخدام أجهزة الدولة للسيطرة والتحكم والاستبداد فغذّت بذلك النفعيين الذين شكّلوا فئة فاسدة مستفيدة لم ير منها الشعب سوى لونها الطائفي والعشائري وفعلها القمعي، لأنه هو نفسه ظل كتلا تاريخية عشائرية وطائفية وإثنية ولم يغادرمراحل الانتماءات الاولية الى المرحلة المدنية مما أفقده مناعته وسهّل وصول الفكر الديني المتطرف الى عقله وقلبه.
وقد أدى حرمان الفرد من حقوقه وحرياته وامتهان كرامته الى بقائه في حلقة الفرد دون بلوغ درجة المواطن.
هذا النوع من الأنظمة تنسب اليه، بشكل عام، مسؤولية تأخر البلدان العربية في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والإعلام والتعليم وفي الحياة الحزبية وفي مجال الحريات والنشاطات الفنية، رغم نجاحات ملحوظة أحياناً في حقول الأمن والخدمات والتأمينات الصحية والتعليمية. هذا كله أوجد أفقاً مسدوداً ضيقاً لدى الشعب.
فقويت العصبيات العشائرية والعصبية الطائفية المنظمة، الناهدة الى استعادة مجد قديم، فاصطدمت بالدول القائمة التي اشتغلت بقمعها مقابل تنازل في الدساتير بالنص على «دين الدولة الإسلام» أو «دين رئيس الدولة الإسلام» وعلى «الشريعة الإسلامية مصدر رئيس للتشريع» أو «المصدر الرئيس للتشريع».. فإذا المجتمع في تناحر بين مكوناته ويفقد مناعته تجاه مطامع الخارج وخططه، وإذا الدولة في حيرة بين المدنية والدينية وعدونا المشترك يقضم الأرض ومع الأرض الكرامة.
هذه عجالة تحليلية من تاريخنا الحديث المأزوم، مجتمعا ودولة، حتى اندلاع انتفاضات الشارع العربي، في ربيع لم يعد يحب اسمه.
تبقى الإجابة على سؤال خطير: ما هو حال المواطنة في زمن الانتفاضات العربية؟ هل حققت هذه الانتفاضات أهدافها بإدخال مجتمعاتها في عصر الديمقراطية الدستورية؟ أم هل أعطت جديداً في مسألة الحرية وحقوق المواطنة وفي الاختيار والمساواة وتكافؤ الفرص، وهي الشعار الجامع لها وللقوى المنخرطة فيها؟
نجيب باختصار منطلقين من ثلاث نماذج: تونس ومصر في شمال أفريقيا والجمهورية السورية في المشرق العربي.
ثانيا: حقوق المواطنة في الانتفاضات العربية
شكلت الانتفاضات العربية أقوى تعبير عن المواطنة في تاريخ العرب المعاصر، فاصطدمت بجدار الأنظمة التي تخافها لأنها تخاف المساءلة وحرية الرأي والحق بالاختلاف. وسرعان ما وجدت تيارات المواطنة نفسها فجأة في مواجهة تيارات وتنظيمات دينية، لا سيما المتشددة منها والسلفية المتشكلة من مفاهيم تسبق وجود الدولة التسلطية المشكو منها بمراحل متعددة.
وقد تبين أنه لم يكن للانتفاضات هذه مسار موحد ولا آثار واحدة في منظومة حقوق المواطنة الدستورية في مختلف بلدان الانتفاضات. ويحسن بنا إلقاء الضوء سريعاً على خطاب المواطنة في الانتفاضات وتحضيرات الدساتير وبعض نصوصها، مع الملاحظة أنه لا يكفي أن يتضمن دستور ما كل الحقوق والحريات لأنه يبقى حبراً على ورق إذا لم يتضمن آليات دستورية تكفل دستورية القوانين وتضمن التزام السلطة التشريعية والتنفيذية بالمبادئ الدستورية.
1 -في تونس:
من تونس اندلعت شرارة ما سمته مجلة «فورين بوليسي» الأميركية «الربيع العربي». وبعد 17 كانون الأول 2011 حرق أبو عزيزي نفسه ثم آخرون ، أخذت الانتفاضات تتوالى فصولاً وتبث العدوى في الدول العربية الأخرى مطالبة بإسقاط الأنظمة.
لم تكن انتفاضة تونس أول الانتفاضات في عصر الأنظمة ذات الشرعية الانقلابية المسيطرة، بل حدثت قبلها انتفاضات محدودة في أوقات متباعدة في بعض الدول العربية كانتفاضة كانون الثاني 1977 في مصر ضد سياسات السادات التقشفية وقد أسماها الغرب أعمال شغب الخبز وسماها السادات انتفاضة اللصوص، والانتفاضة السودانية ضد الدكتاتور جعفر النميري المدعوم من الولايات المتحدة الأميركية عام 1985، والانتفاضات الفلسطينية المتتالية منذ عام 1987 حتى 2004 وكلها لم تستأهل تسمية الربيع، تيمنا بربيع براغ. لكن هذه الانتفاضات بقيت معزولة ولم تعرف اهتماماً مماثلاً من دول العالم وإعلامه. ولعبت وسائل التواصل الاجتماعي وكاميرات التصوير دوراً مهماً في حشد الشباب التونسي وفي حراكه السلمي الذي أدى الى إسقاط الرئيس زين العابدين بن علي ومغادرته تونس مع عائلته.
تشكلت الانتفاضة التونسية من تيارات عديدة خاضت متفرقة أول انتخابات للمجلس الوطني التأسيسي في تشرين الأول 2011 ففازت حركة النهضة المعبرة عن الاخوان المسلمون بـ 42 في المئة من المقاعد بعد 23 سنة من المنع، علماً أنها دعمت الانتفاضة عن بعد، لأنها خاضتها موحدة ومنظّمة وممولة من الدولة الخليجية قطر، والنسبة الباقية توزعت على مئة حزب وحزب، ما يشير إلى أنها لا تملك الغالبية بل أن الآخرين مشرذمون.
وهكذا تمّ تشكيل المجلس الوطني التأسيسي التونسي، ودخلت النهضة في ائتلاف حاكم أطلق عليه اسم الترويكا. لكن أزمة ثقة بدأت مع أحزاب المعارضة وانتقلت الى الشارع فعادت التظاهرات الى المدن ورفضت جبهة الإنقاذ الوطني في 24 آب 2014 مغادرة الشارع الى حين إسقاط حكومة النهضة وحليفها حزب المؤتمر وتأزمت الأوضاع الى أن قبلت النهضة مبادرة الحوار الوطني وتشكلت حكومة شراكة واسعة خرجت فيها من الحكومة دون عنف فأنقذت تونس من الفوضى. وتحولت بعدها الى أقلية في الشارع.
وقد اتهمت حركة النهضة، خلال وجودها في السلطة بارتكابات وممارسات سياسية خاطئة منها تأسيسها لجهاز الأمن الموازي تحت اسم المكتب لاستقطاب العسكريين ورجال الأمن، وتزايد النشاط السلفي مع تكاثر عمليات الاغتيال للجنود والقياديين السياسيين والاعتداء على مناضلين من الاتحاد العام التونسي للشغل وتسهيل سفر المجاهدين والمجاهدات من تونس الى سورية بأعداد كبيرة، وقطع العلاقات مع الجمهورية السورية وبعض الدول بشكل استنسابي ومتفرد..
كان فشل النهضة في إدارة الدولة واضحاً وهذا ما دفعها للتخلي عن البنود المتعلقة بمصدر التشريع والبنود المخالفة للمساواة والتي قدمتها في مشروع دستورها، لا سيما لجهة المساواة بين المرأة والرجل إذ ورد المشروع برمته في صيغة المذكر مع غياب تام للنساء كمواطنات جاعلاً مفعول المواطنة حكراً على الرجل، ودخلوا في جدالات حادة مع نواب المعارضة خلال مسودة الدستور الجديد في تموز 2013 حول تجريم التكفير والتحريض على العنف» جعل منهم طرفاً مناهضاً للحريات، في انتفاضة أول مطلب لها هو الحريات. وبعد توافقات الحوار الوطني تخلت النهضة عن مطلب العزل السياسي لرموز النظام السابق وقبلت بدستور مدني وتخلت عن مطلب تضمين الدستور فصلاً يتعلق بالشريعة كمصدر للسلطات وتبنت مجلة الأحوال الشخصية التي تمنع تعدد الزوجات وتضمن المساواة بين الرجل والمرأة، بعد ضغط من النخبة ومن الحركة النسوية واليمقراطية، واعتبرت الحركة أن «صندوق الانتخابات هو الوسيلة الوحيدة لتحصين الثورة ولا مجال للوصاية على الشعب».
إن تحولات حركة النهضة في خطابها السياسي وتغيّرها 180 درجة يعتبره البعض مجرد مناورة سياسية لتعويض الفشل في إدارة الدولة وكسب أصوات الناخبين الذين ارفضوا عنها، لتبدأ في تطبيق مشروعها الحقيقي في إقامة «الدولة الدينية». كما قد يكون السبب سقوط حكم الإخوان المسلمين في القاهرة وإدراجهم كحركة إرهابية في مصر وبعض دول الخليج وتحولات المشهد في سورية وانزعاج الغرب من الجهاديين ومن الحركات الاسلامية، دون إغفال دور الجزائر في تحجيم الغنوشي بين عامي 2011 و2012 4 .
وبالعودة الى الدستور، وبعد سنة ونصف من عمل متواصل، صادق المجلس الوطني التأسيسي التونسي الذي تمّ انتخابه في 23 تشرين الاول 2011، على دستور الجمهورية التونسية 2014 وذلك في 26 كانون الثاني 2014 وتمّ تصديقه ختمه في 27 كانون الثاني 2014 وبحضور عشرات الشخصيات التونسية وعشرات السفراء والضيوف الأجانب في تونس الذين أشادوا بفرادة هذا الدستور وريادته في العالم العربي. وقد صدق هذا الدستور بغالبية 200 نائب من أصل 217 يتألف منهم برلمان تونس، علماً أن هذا الدستور، التوافقي برأي البعض 5 ، قد أتى بعد وقف العمل بدستور 1959 الذي تمّ تعويضه بدستور تونس الموقت عام 2011 .
إن ما يعنينا من دستور تونس هو مواد الفصل الثاني التي تختص بالحقوق والحريات.
فالمادة السادسة نصت على أن «الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي. تلتزم الدولة بنشر قيم الاعتدال والتسامح وبحماية المقدسات ومنع النيل منها، كما تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف بالتصدي لها».
ونصت المادة 13 على تحقيق العدالة الاجتماعية… والمادة 20 على أن «المواطنين والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز. تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات الفردية والعامة، وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم».
في المادة 30 « حركة الرأي والفكر والتعبير والاعلام والنشر مضمونة، لا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات. ونصت المادة 45 على» أن الدولة تسعى لتحقيق التناصف بين المرأة والرجل في المجالس المنتخبة». أما في المادة 48 يحدد القانون الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها، ولا توضع هذه الضوابط إلا لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية… وتتكفل الهيئات القضائية بحماية الحقوق والحريات من أي انتهاك. ولا يجوز من أي تعديل أن ينال من مكتسبات حقوق الانسان وحرياته المضمونة في هذا الدستور.
وفي الانتخابات الاخيرة، أواخر تشرين الثاني 2014، تقدم نداء تونس العلماني، جامع القوى الديمقراطية، على حركة النهضة رغم إصدار 32 رجل دين و13 جمعية دينية فتوى دينية لمن»يخاف الله» ومن باب «الإدلاء بواجب الشهادة لله» لمعارضة عدم اعتبار الشريعة كمصدر أساس للتشريع في دستور تونس 2014. كما اعتبر التيار السلفي أن الديمقراطية تيار كفري.
وهكذا أزاح نداء تونس عهداً لم يتقبله التونسيون وفضلوا عليه رموزاً من النظام القديم بعد حنين طال الى الأمن والاستقرار والاقتصاد المستند بشكل كبير على السياحة… مع ملاحظة أن المعارضة التي حرّكت الانتفاضة نالت حصة ضئيلة جداً من كعكة نتائج الانتخاب.
توسعنا قليلاً في الانتفاضة التونسية لأني أحسبها الانتفاضة الوحيدة في العالم العربي اليوم التي تنازلت فيها الحزبية الدينية للدولة المدنية سلماً ومن دون تدخل العسكر. وقد وضعت دستوراً يحقق المساواة والتناصف بين الرجل والمرأة ويجرّم التكفير الديني. ويعتبر هذا الدستور متطوراً بين الدساتير العربية رغم أنه لا يحقق المواطنة كاملة كما في الدول الغربية التي لا تميز مثلاً، في الحقوق تجاه الأولاد بين الزوج والزوجة علماً أنها شأن يتطور بتطور المجتمعات. لكن العبرة دائماً هي في التطبيق.
دكتور في الحقوق
هوامش
1. عدنان السيد حسين، المواطنة أسسها وأبعادها، منشورات الجامعة اللبنانية 2013، أنظر صفحة 10.
2. فهمي هويدي، المواطنة في الإسلام، جريدة الشرق الأوسط، العدد 5902 الأربعاء 25/10/1995 ص 13.
3. سالم علي القحطاني، التربية الوطنية: مفهومها، أهدافها، تدريسها، مكتب التربية العربي لدول الخليج، رسالة الخليج العربي، ع 66، 1998.
4. ربيع العسكر، محمد سيد رصاص، جريدة الأخبار، العدد 2345، الأربعاء 16 تموز 2014.
5. حسن طارق، العربي، 4/7/2014 www.alaraby.co.uk