أميركا أصوليّة لا علمانيّة
جورج كعدي
الولايات المتحدة الأميركيّة بلاد مسيحيّة متصهينة، أصوليّة، تحت قناع علمانيّ هشّ سرعان ما يسقط حين يأتي إلى أعلى السلطة فيها رئيس «مؤمن بالقيم المسيحيّة التقليديّة» وعدوّ شرس لـ«الشيوعيّة الكافرة» التي كلّفه الله بالقضاء عليها، يدعى رونالد ريغان، أو بعد بضعة عهود منه قرينه في الغباء السياسيّ والدينيّ، «الملهم» جورج دبليو بوش، الذي لم يأنف من القول إنّ الله يخاطبه مباشرة ويكلّفه بحروب محدّدة ضدّ «الشرّ» بوصفه ممثلاً حصريّاً للخير الإلهيّ في العراق الذي دمّره واحتلّه مودياً بحياة عشرات ألوف العراقيين، تطبيقاً لعدالة إلهيّة يتولاّها ضدّ صدام حسين وأمثاله.
الولايات المتحدة الأميركيّة، في هذا المعنى، «أمّة» مريضة، فصاميّة، تعيش صراعاً مستديماً بين العلمانيّة والتعصّب الدينيّ البروتستانتيّ المتصهين أو الكاثوليكيّ المتزمّت ، وبين التسامح والعنصريّة، وبين الحرية والقمع الحملة الماكارثيّة ضدّ الشيوعيّين ماثلة في الأذهان، وإلى اليوم ممنوع أن تكون شيوعيّاً أو يساريّاً أو أي شيء غير الليبراليّ الرأسماليّ المتوحّش في «بلد الحريّات» أميركا! ، وبين الديمقراطيّة وحكم الكارتيلات وشركات الأسلحة وأصحاب الرساميل الكبرى والميديا، إلخ…
سلّط رونالد ريغان الضوء في خطابه السياسيّ على القضايا الاجتماعيّة الرئيسيّة مثل الإجهاض وإقامة الصلوات داخل المدارس و«القيم الأسريّة» وأهميّة الإنجيل في الحياة المعاصرة، وربط تلك القضايا بالمناهضة الشرسة للشيوعيّة وبالهجوم على الاتحاد الأميركيّ للحرّيات المدنيّة ACLU الذي كان محطّ ازدراء بسبب دعمه الأفكار والأعراف العلمانيّة. وكان ريغان يعتقد بأنّ العلل الاجتماعيّة التي تعاني أميركا بسببها تعكس أزمة روحيّة أعمق يمكن حلّها فحسب من خلال دور أكبر للمسيحيّة المنظّمة داخل الحياة العامّة الأميركيّة! مثلاً حيال استنكار بعض القضايا كالإصدارات الإباحيّة وتعاطي المخدرات كان ريغان يقول إنّ المرء يستطيع العثور في الإنجيل على «أجوبة عن المشاكل كافّة التي تواجهنا في زمننا، إذا قرأناه فحسب وآمّنا به».
عُقدت في زمن ريغان صلة جليّة بين الدين المحافظ والوطنيّة والوصف المتزامن للعلمانيّة بكونها خاصّية شاذّة للتجربة الوطنيّة، وصرّح هذا الرئيس الأميركيّ المعبّر عن حقيقة المجتمع الأميركيّ وما يفرز على صعيد الفكر الدينيّ المربوط بالسياسيّ والاجتماعيّ: «كان ثمّة هجوم على قيم أميركا الأساسيّة طوال فترة زمنية»، معتبراً أنّ إدارته قادرة على نحو فريد على الدفاع عن «القيم الأميركيّة»، وبالتالي عن الأمّة، محدّداً رؤيته للمجتمع بأنّها تستند إلى العقيدة والدين «اللذين يؤدّيان دوراً حيويّاً في الحياة السياسيّة لأمّتنا»، معتبراً أنّها العقيدة الأصليّة للقوميّة الأميركيّة، وأنّ وسطيّة الدين داخل الحياة العامة كانت بمنزلة قاعدة التأسيس الأميركيّ ومصدر القوّة على مدى قرنين من الزمن، لافتاً إلى أن أميركا اتخذت منذ الستّينات في القرن الفائت فحسب «خطوات نحو تحويل أمّتنا إلى أمّة علمانيّة وإزالة الدين من مكانه المقدّس»، مؤمناً بأنّ ذلك هو «مصدر العلل التي تعاني أميركا بسببها، وأنّه من دون الدين لن تصمد الفضيلة أو الديمقراطيّة طويلاً»!
كانت خطب ريغان خلال حملته الانتخابيّة مشبعة بالمثالية الدينيّة وبالإيمان المطلق بـ«استقامة السلطة الأميركيّة»، وتبعاً لرأي كهذا، لم يقع اختيار الله على الشعب الأميركيّ لخوض قدر فريد فحسب، بل جعل الله من أميركا أداة له في محاربة «شيوعيّة الشرق الكافرة»! ففي الاحتفال بذكرى الرابع من تموز الذي أقيم في مدينة ديكاتور، ولاية ألاباما، استعاد ريغان وصف جون وينثروب لأميركا بأنها «مدينة مشرقة على سطح الهضبة كي يراها العالم أجمع»، في سياق كلامه عن «ديكتاتوريّة السوفيات» مقارنة بـ«التزام أميركا نحو الحريّة»! واصفاً الديمقراطيّة في خطابه هذا بأنّها «تماماً مثل قراءة سياسيّة للإنجيل»! وأنّ دعم الإدارة الأميركيّة للجماعات المسلّحة حول العالم، مثل المجاهدين في أفغانستان والمتمرّدين المعارضين في أميركا الوسطى، يرتبط بهدف مقدّس. هذه الرؤية للولايات المتحدة حُدّدت بمهمة دينيّة وبفكرة مرتكزة على تولّي أميركا تنفيذ إرادة الله على الأرض!
الإشارة إلى أميركا بكونها «مدينة مشرقة فوق الهضبة» مشبعة بالفكرة الإنجيليّة للعلاقة المتوارثة، وبإيديولوجيّة «الاستثنائيّة الأميركيّة»، علماً أنها تغفل النصف الثاني من عبارة جون وينثروب، أوّل حاكم لمستعمرة خليج ماساتشوستس، مخاطباً أقرانه المستوطنين عن بناء «مدينة فوق هضبة» لتكون أمثولة معنويّة للعالم إذ استطرد قائلاً: «إنّ هناك عبئاً متزامناً ألقي على كاهل المجتمع لاتّباع المثل والوصايا التي أنزلها الله «خشية أن نتسبّب بخزي لمعظم عباد الله المخلصين وبتحوّل صلواتهم إلى لعنات تنصبّ علينا حتّى نهلك ونخرج من الأرض الطيّبة التي قرّرنا الذهاب إليها». لم تكن في خطب ريغان سوى بعض التلميحات إلى الجزء الثاني من الوصيّة المتوارثة وحتميّة أن تتحلّى السلطة السياسيّة الأميركيّة بأقصى درجات الضبط المعنويّ للنفس. لم ينطبق الاعتراف بعبء الالتزام بتعاليم الدين المسيحيّ على قضايا السياسة الخارجيّة، أو المساواة الاقتصاديّة، أو العدالة الاجتماعيّة. فالفهم الذي أظهره ريغان للدين في التقليد الأميركيّ كان لاهوتيّ التوجّه وليس نبوئيّاً.
تكرّرت المواضيع الرئيسيّة لحملة ريغان الانتخابيّة، إذ ذكّر أعضاء اليمين المسيحيّ أيضاً بأنّ الأمّة واجهت تهديداً داخليّاً من قوى العلمانيّة، وخارجيّاً من «الشيوعيّة الكافرة»، معتبرين أنّ البديل هو مجتمع فيه دور أكثر مركزيّة للمسيحيّة المحافظة. وبُعث مجدّداً الجدال الدستوريّ حول الدور الملائم الذي يقوم به الدين في الحياة العامة. ويقول الأميركيّ جيري فالويل مثلاً: «إنّ أمّتنا الدينيّة تعرّضت طوال التاريخ لهجوم بلا مثيل من قطاع داخل المجتمع يتّصف بانعدام الأخلاق ومناهضة الدين، وهو متورّط في تدمير الحياة». وصُوّر مؤيّدو الإنسانيّة العلمانيّة وحلفاؤهم في الحزب الديمقراطيّ بأنّهم أعداء الفضيلة والنظام الأخلاقيّ الذي غرسه الله، فـ«الأمّة بلغت هذا الوضع بسبب تخلّي المسيحيّين عن مسؤوليّاتهم داخل الحياة العامّة».
وصف ريغان الاتحاد السوفياتيّ بـ«بؤرة الشرّ في العالم الحديث»، وصوّر من منطلق رؤيته المانويّة لشؤون العالم الولايات المتحدة الأميركيّة وحلفاءها بكونهم المدافعين عن الحرّية والله! كما صوّر الصراع الأوسع بأنّه «صراع بين الصواب والخطأ، بين الخير والشرّ». وفي هذا السياق، كان تورّط الحكومة في العديد من الحروب بالوكالة مستتراً ضمن خطاب بلاغيّ حافل باليقين الأخلاقيّ. مُوّلت على هذا الأساس الجماعات المسلّحة في أميركا الوسطى وأفريقيا وبعد ذلك في أفغانستان، كما خلقت مناهضة ريغان الحماسيّة للشيوعيّة تبريراً للإنفاق العسكريّ المتزايد والدعم المتجدّد لبعض أنظمة الحكم الاستبداديّة، فضلاً عن رفض تأكيد جيمي كارتر على حقوق الإنسان والديبلوماسيّة.
هنا واقعة تاريخيّة تعبّر عن الجنون الأصوليّ الأميركيّ:
حين أعلن وزير الخارجيّة الأميركيّ، عهدذاك، ألكسندر هيغ استئناف بيع الأسلحة للحكومة اليمينيّة في الأرجنتين ذات السجّل الرديء في ما يتعلق بحقوق الإنسان، أكّد أن ذلك يتمّ بناء على «قيم مشتركة بين الحكومتين»! فسُئل: ما عساها تكون تلك «القيم المشتركة»؟ فأجاب الوزير الفطحل: «الإيمان بالله»!