بين فيينا 1 و 2… الشيطان يكمن في التفاصيل!

سومر صالح

حبس العالم أنفاسه قبيل اجتماعات فيينا 2، فعلى وقع الهجمات الإرهابية الدامية في باريس من جهة وعلى وقع الانتصارات الميدانية للجيش العربي السوري ونجاح استراتيجيته بعزل البؤر الإرهابية وقطع خطوط الإمداد والتمويل اللوجستي لفصائله المتحالفة على الإرهاب من جهة ثانية، تقرّر بالاتفاق المتعدّد الأطراف فرض ستاتيكو ميداني في سورية على قاعدة لا غالب بالمطلق ولا مغلوب بالمطلق، ولا أدلّ من ذلك إلا ورود مصطلح وقف إطلاق النار أكثر من 9 مرات في إعلان فيينا المنبثق من مشاورات فيينا الثانية، والمقاربة البسيطة لما حدث أنّ لحظة حرجة سبقت إعلان فيينا 2 تتمثل في إمكانية نمذجة أيلول الأميركي على أحداث باريس وما يمكن أن يستتبعه من توحيد قوات التحالف الأميركي مع فرنسا وتركيا تحت مسمّى الحرب على «داعش»، وفرض معادلات ميدانية في سورية تسعّر من نار الحرب وتفتح المواجهة على مصراعيها بين روسيا وأميركا انطلاقاً من سورية.

وكانت قمة أنطاليا جاهزة بمبادرة تركية لاقتراح المنطقة العازلة في سورية، وعلى الجانب الآخر يدرك الأميركيون خطورة مثل هذا السيناريو لأنّ روسيا ستدفع بكلّ أوراقها العسكرية منعاً للفشل في سورية وهذا يعني إطلاق سباق تسلح دولي واستقطاب عسكري دولي وتأجيج الصراع الأميركي الصيني في الشرق لتخفيف الضغط عن روسيا، وفتح المواجهة بين روسيا وحلف الأطلسي بما في ذلك استخدام ورقة الطاقة والأمن ضدّ الاتحاد الأوروبي، وبين هاتين المقاربتين على ما يبدو كان الخيار الثنائي الأميركي الروسي هو ضبط الصراع في سورية وحصره وإنجاز نصف التسوية، بانتظار حسم دور سورية المستقبلي في الصراع على الشرق الأوسط، والمدة الزمنية لبقاء روسيا عسكرياً في سورية والتي تمثل النصف الآخر من التسوية النهائية، وكان لافتاً أيضاً إعطاء الأمم المتحدة دوراً بارزاً في حسم الصراع في سورية بما يوحي أنّ توافقاً جيوبوليتيكياً دولياً بين الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن على إبقاء النظام الدولي على وضعه الراهن مع إمكانية ترتيب القوى بداخلة أي هيكلة النسق الدولي، وتأتي هذه الرؤية على خلفية الاتهامات المتبادلة بين روسيا وأميركا لزعزعة استقرار النظام الدولي سواء اتهام وزير الدفاع الأميركي اشتون كارتر لروسيا بالسعي إلى تقويض صيغة النظام الدولي، أو باتهام روسيا لأميركا باستخدام الدرع الصاروخية لتقويض السلم الدولي، وجاء ذلك في مؤتمر فالداي للأمن في 22-10-2015.

بالعودة إلى إعلان فيينا 2، وفي قراءة للحدث يتبيّن عدم وجود رغبة حقيقية في إنهاء الصراع في سورية، بل تجميده إلى حين، والدليل على ذلك نقطتان… الأولى هي فرض وقف إطلاق النار من دون طرح مستقبل الفصائل والميليشيات المسلحة في سورية، أو تقديم أيّ رؤية لوضعهم المستقبلي، على افتراض اتفاقهم على تحديدها، ولو كانوا حريصين على الشرعية والديمقراطية والاستقرار كما يدّعون فلا شرعية لسلاح غير سلاح الدولة ولا استقرار بوجود ما يقابله مهما اختلفت تسميته، والنقطة الثانية التي تثير الانتباه عدم إشارة البيان إلى مستقبل الطلعات الجوية الأجنبية غير الشرعية في السماء السورية سواء الولايات المتحدة وحلفاؤها أم فرنسا.

إذاً، لم تحسم الأمور على الصعيد الجيوبوليتكي بين روسيا والولايات المتحدة، بما يحول هذا الستاتيكو الميداني إلى ستاتيكو قلق قد ينفجر في أيّ لحظة تصعيد وتدهور للعلاقات الروسية الأميركية، وإذا ما انتقلنا إلى مناقشة تفاصيل وردت في إعلان فيينا 2 يتضح وجود ثغرات وتناقضات تفقده قدرة الحلّ، فقد جاء في نص البيان الختامي تعهّد الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن الدولي بتأييد إصدار قرار من المجلس لتمكين بعثة مراقبة دولية من تنفيذ وقف إطلاق النار في أجزاء من سورية وعدم تعرّض المراقبين لهجمات «إرهابية» ودعم عملية الانتقال السياسي وفقاً لبيان جنيف والسؤال المطروح هنا ماذا تعني هجمات إرهابية وممّن، وإذا كانت من الفصائل التي اتفقت على وقف إطلاق النار فمعيار الإرهاب هنا مسيّس ويتستّر على الإرهاب الحقيقي الذي يخفيه وقف إطلاق النار والحماية الإقليمية لداعميه ولا يظهره سوى أمن البعثة الدولية، وهذا استخفاف بالعقول ولعب بالنار، وإذا كان المقصود حماية البعثة الدولية من المنظمات الإرهابية، فتلك بديهيات الأمور ومتطلبات العمليات الحربية ولا معنى لوجودها في النص الختامي، الأمر الثاني هو ما ورد لاحقاً في نص البيان من أنّ المجموعة الدولية تعهّدت كدول منفردة وداعمة لمختلف الأطراف المتحاربة في سورية على اتخاذ جميع الخطوات الممكنة بغية الالتزام بوقف إطلاق النار من قبل الجماعات أو الأفراد التي تدعمها ، والسؤال هنا ما النتيجة المترتبة على خرق وقف إطلاق النار من قبل فصيل «معتدل» حسب رؤية المجتمعين واتفاقهم، هل سيتحوّل إلى فصيل إرهابي؟ ومن سيردعه؟ وما هو موقف الطرف الإقليمي الداعم له؟ كلها أسئلة لا تحمل إجابات ولا حتى إشارات في نص البيان، ولكن على ما يبدو هي محاولة مستعجلة لتلميع صورة الميليشيات المسلحة ودفع صفة الإرهاب عنها بما يحمي مصالح الأطراف الإقليمية الداعمة لها، الأمر الثالث وهو العملية السياسية في سورية والتي ارتبك البيان في تسميتها بين مرحلة انتقالية وعملية سياسية ذات طابع انتقالي تعكس الخلافات الروسية الأميركية حيث أشار البيان إلى وجوب أن تدار هذه الانتخابات تحت إشراف الأمم المتحدة ووفقاً لأعلى المعايير الدولية للشفافية والمساءلة ، وإذا أضفنا هذا البند المهمّ إلى البند الأول المتعلق باستصدار قرار أممي حول وقف إطلاق النار ودعم العملية السياسية يتضح وجود وصاية أممية على العملية السياسية في سورية وهو ما يخالف مقاصد الأمم المتحدة من احترام الشؤون الداخلية للدول ويفتح الأبواب أمام إمكانية فرض وصاية دولية تحت الفصل السابع على سورية، وهذا الأمر سيعقد الحلّ النهائي للأزمة السورية، فالذاكرة السياسية للأزمة توحي بأنّ عدم الثقة بين الطرفين الأميركي والروسي عقّد من فهم بيان جينف1 العام 2012، وهذا الأمر قد يتجدّد في فهم مقاصد قرار أممي بحجم القرار المزمع إصداره، ومن جهة أخرى على ما يبدو هنالك استثمار أميركي للأزمة السورية في الانتخابات الأميركية المقبلة في نهاية العام 2016، فإذا بدأت العملية السياسية في بداية العام 2016 وأضفنا لها 6 أشهر أولى على الأقلّ لانطلاقها متزامنة مع وقف إطلاق النار، و18 شهراً لتنفيذ الإصلاحات وإجراء الانتخابات يتضح الاستثمار الأميركي في الأزمة لمصالح انتخابية ضيّقة والتي ستجري بنهاية العام 2016، وعندها يصبح إنجاز التسوية والحرب على الإرهاب أهمّ أوراق الديمقراطيين في حربهم الانتخابية ضدّ الجمهوريين، الأمر الرابع هو البند المتعلق بـ تطوير فهم مشترك بين ممثلي أجهزة المخابرات والجيش لتحديد «الإرهابيين» بحيث يتمّ الانتهاء من هذه المهمة في بداية العملية السياسية تحت رعاية الأمم المتحدة ، هذه نقطة جديدة في المفاوضات ولكن لا قيمة لها من الناحية الفعلية من دون وجود من يمثل الجيش العربي السوري وهي نقطة خلافية إقليمية قد تعصف بالعلاقات الإيرانية السعودية والتركية على السواء.

يبقى أن نشير إلى أنّ الولايات المتحدة تراجعت بموضوع تقسيم الدول إلى فاعلة ومشاركة نتيجة الموقف الروسي والإيراني، وتراجعت أيضاً عن حصرية تمثيل الائتلاف المعارض لمجمل المعارضة بما يوحي برغبة أميركية لتطويق نار الصراع في سورية، والتي بدأت بحرق أقرب حلفائها الأوربيين والأتراك، ولا يفهم هنا جدية أميركية بالحلّ النهائي للأزمة السورية بل عدم رغبة أميركية بالتصعيد والاستقطاب بعد أن بلغ ذروته قبيل انعقاد مشاورات فيينا 2 حول سورية.

في النهاية يشكل إعلان فيينا 2 مدخلاً سياسياً مهماً لردع الأطراف الإقليمية، خصوصاً الخليجية والتركية، عن سياساتها بدعم التطرف وإذكاء الصراع في سورية، ويخرج الأزمة السورية من دائرة الاستقطاب الإقليمي وحصرها بدائرة الاستقطاب الجيبوليتكي الروسي الأميركي، لن نتفاءل كثيراً بمؤتمراتهم، وعيننا على الميدان السوري الذي أثبت فيه الجيش العربي السوري أنه ضامن السلم والاستقرار في سورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى