ذكّر إن تنفع الذكرى

في مثل هذا اليوم قبل سنة، كان جون كيري يصول ويجول كما اليوم، وكان التهديد والتهويل بالحرب، وكان بندر يقود الدفة فيما كان حمد في زمان الرحيل عن عرشه في قطر، مصر تستعد لثورتها على حكم الأخوان المسلمين وعودة الجيش إلى المسرح، وكانت صيدا تلملم شظايا الفتنة من جسدها بعد حركة أحمد الأسير، وكان لبنان ساحة الرهان، والمكابرة المستمرة للإقرار بانتصار سورية والعجز عن مواصلة الحرب لسقوفها الأعلى مقال العجز عن تجرّع كؤوس الهزيمة، وكان العراق منيعاً بوجه مخاطر الفتن فكتبت قراءتي لما جرى وما سيجري وهو ما أضعه للقراءة بين أيديكم بعيون اليوم.

كيري وحمد بهدوء

في 27/6/2013

يختلط على الكثيرين تفسير ما جرى في قطر بين تبنّي ما توقعناه، عن مشهد إقليمي جديد يواكب بدء تكريس نصر سورية على الحرب التي استهدفتها، وقلنا إن من ضمنه سيكون تغيير في واجهات الدول التي ربطت مصير حكمها بنصرها المفترض على الرئيس بشار الأسد، وفي سياقه طبعاً توقعنا منذ أكثر من سنة تنحّي أمير قطر لولده، وتفجّر ثورة شعبية في تركيا ومصر يدعمها الجيش، تمهيداً لتغييرات هيكلية في هاتين الدولتين تؤهلهما لزمن التسويات.

في التفسيرات الأخرى الرديفة، ما يربط أحاديا ما تشهده مصر وتركيا بعناصر داخلية صحيحة وواقعية، لكنها غير كافية لتفسير التوقيت من جهة، والاستمرارية والتصاعد من جهة أخرى، ونبرة الجيشين التدخلية لحماية الحراك الشعبي بوجه الحكومتين من جهة ثالثة.

ـ في الحالة القطرية والتنحي المفاجئ لكثيرين، علاقة بصراعات موزة زوجة حمد مع رئيس وزرائها، وفوزها بتنصيب ولدها تحت نظر والده، كي لا يواجه بعد مماته ما لا يقدر على مواجهته، وهذا قد يكون صحيحاً، لكنه لا يفسر التوقيت ولا الأثمان الباهظة التي ستدفع من رصيد دور قطر الخارجي، ولا تفسير موافقة الخارج المعني كثيراً بهذا الرصيد ودوره، بعد تراكم سنوات طوال مكلفة.

الطبيعي أن الأمير الصغير لا يملك مشروعية والده للتصرّف قبل إنجازات سنوات عدّة مقبلة، كواحد من قادة العالم العربي المؤثرين الذين يملكون حق التدخل بشؤون خارج حدود بلاده، ولا يملك في الخليج قدرة التعامل مع أقرانه الحكام بموقع ولغة الند، التي انتزعها والده بكلفة عالية.

الطبيعي أكثر مع تولي الأمير الصغير، كي يتمكن من الحكم، رحيل رئيس الوزراء حمد بن جاسم، والطبيعي مع رحيله ومع أي رئيس وزراء يناسب مقاس الأمير، فقدان المزيد من هذه المشروعية العربية والدولية.

خطاب تميم بن حمد يكشف طبيعة دور قطر المقبل: دولة صغيرة تملك مالاً وفيراً تهتم بشؤونها الداخلية سكناً وصحةً وتعليماً وتحضيراً لاستضافة كأس العالم وتنشيطاً للمؤسسات الاجتماعية الداخلية.

تقليم أظافر قطر الإقليمية والدولية نتيجة طبيعية للحدث، وإعادة للمكانة التقليدية للسعودية، ولمن يريد معرفة كيف ستسير الأمور نقول، انتظروا وستسمعون خلال سنة ترشيح حمد الأمير لجائزة نوبل، وتسمعون تسمية حمد بن جاسم شريكاً لتوني بلير في اللجنة الرباعية للسلام، ومرشحاً بعد سنتين لمنصب الأمانة العامة للأمم المتحدة، لكن قطر ستكون غارقة ومستغرقة في داخلها.

كذلك في مصر وتركيا سنشهد إرهاصات الثورات العنيفة في 30 حزيران وسنسمع صوت الحيوش عالياً، برفض اللجوء للقوة، وسيكون على مرسي وأردوغان تقبل الشراكة والتمهيد لمغادرة المسرح خلال سنة مقبلة أو أكثر بقليل، تمهيداً لظهور شخصيات غير قيادية في منصب الرئاسة، لتغطية تسلّم الجيش مقاليد الأمور، كنموذج محمد البرادعي في مصر و ربما عبد الله غول في تركيا.

ما يجري لا يمكن فصله عن مصالح الطبقات السياسية والاقتصادية والعسكرية التي واكبت رهانات مرسي وأردوغان، ومنحتها الفرصة للفوز كمشروع يحجز مقعداً مفصلياً للدولتين المصرية والتركية، وعندما تقع هزيمة المشروع، فإن المصالح العليا للدول تقتضي أن يدفع اصحاب المشروع ثمن هزيمته، وليس الدول التي تستنفر شارعها ونخبها وعسكرها لتقول كفى.

مفارقة أخرى تتداولها الناس تتصل بكيفية انتقال غرفة العمليات إلى السعودية في إدارة الحرب على سورية مع الفشل التركي المصري القطري، وكيف سيستقيم الفشل السعودي مع بقاء السعودية في موقعها الفاعل إقليمياً، والجواب أن حصر الدور التصعيدي بكل من سعود وبندر، يكشف أنهما سيكونان من يخرج من المسرح في حال تكريس الفشل، الذي ظهرت بشائره بسقوط ورقة الأسير في صيدا اللبنانية، بعدما ورثتها السعودية من قطر وأحاطتها بجماعتها ولم يكتب لها النجاح.

الأهم، السؤال عن كيفية التوفيق بين القول، بتراجع واشنطن عن خيار الحرب على سورية، والكلام المتواصل بالتصعيد لحكامها، خصوصاً تحرّكات جون كيري المفترض أنه أحد صناع الحل السياسي في المنطقة انطلاقاً من سورية.

الأميركي يدرك عدم جهوزية كل حلفائه للحل على الطريقة الروسية، والقائم على التسليم بانتصار الرئيس بشار الأسد، ودعوة المعارضة لمشاركة متواضعة في حكومة وحدة وطنية على خلفية مواصلة الحرب على الإرهاب، أي تغطية الجيش السوري لضرب فصائل المعارضة المسلحة التي تتكون في غالبيتها من مناصري القاعدة.

الأميركي يخلي المسرح لهؤلاء الحلفاء، لفعل كل ما يستطيعون لتعديل الموازين، ويقول لهم ما لم تتغير الموازين لا نملك إلا الرضا بالحل الموسكوفي.

الأميركي يقدّم ما يملك لمنح خطط حلفائه فرص النجاح، على حافة الحفاظ على تفاهماته مع روسيا، كما ظهر في قمة الثمانية في إيرلندا، لكنه لا يتخطى الخط الأحمر ولا يدوس عليه.

كل كلام التسليح وعودة التوازن بعد معركة القصير، يعرف الأميركي إنها حرب نفسية طالما لا منطقة حظر جوي، ولا منطقة حظر جوي من دون تفجير تفاهمات موسكو، من أفغانستان إلى الخليج و كوريا وبالتأكيد فتح باب الحرب الشاملة انطلاقاً من سورية، وهي حرب كما يقول الجنرال ديمبسي رئيس أركان الجيوش الأميركية، لا يعرف أحد مداها ولا حدودها ولا نتائجها.

أنجز الأميركي حلقة الربط بين خيارات التصعيد التي يرعاها، وبين وقوفه على خط الحل السياسي، بالتراجع خطوتين إلى الوراء، عن مفهومه للحل السياسي بتفسير «جنيف ـ1» بشرط تنحي الرئيس الأسد كشرط للتفاوض والحوار، إلى اعتبار التنحّي نتيجة حكمية لهذا التفاوض والحوار، وهو اليوم يتراجع إلى مربع ثالث هو التمسك بقيام الحل على قاعدة توصيف ما يجري في سورية كحرب طائفية، ينبغي لوقفها مصالحة وطنية قوامها صوغ طائف سوري، يعطي المناصب للطوائف بحسب أحجامها وأدوارها، فيتاح له نزع الرئاسة من الرئيس الاسد بقوة التمثيل الطائفي وهوية الرئيس الطائفية المفترضة.

لذلك قال كيري جملته الشهيرة: «إن على الأقلية العلوية أن تسلّم الحكم للأغلبية السنية»، وهو يعلم أن هذا التوصيف لا ينطبق على تاريخ سورية وحاضرها، ولن يكون صالحاً لمستقبلها إلا إذا نجح حلفاؤه بتفجير الفتنة المذهبية في المنطقة، بعدما ثبتت استحالة ذلك انطلاقاً من سورية، وتفكيك القاعدة الشعبية والعسكرية المتعددة طائفياً والممثلة غالبية قوية قادرة متماسكة داعمة لنظام الرئيس بشار الأسد.

العراق استهلك كمدخل لهذه الفتنة، وحدود المتاح فيه محدودة، ونتائجها السورية أقل محدودية، فما بقي إلا لبنان ساحة لتوريد الفتنة، حيث القوة الأبرز للطائفة الشيعية الشقيق المذهبي للعلويين، وحيث يمثل أكبر قوة فيها حزب الله، الحليف الأقرب لنظام الرئيس الأسد.

جر حزب الله إلى الفتنة وارتكاب المجازر بحق سنّة لبنان، مشروع كيري وسعود وبندر، وفي خدمتهم كل السحيجة والطبالون والشهالون، والأسير نسختهم الأولى للفيلم الذي احترق في صيدا.

محاولات كثيرة ستجري وتسقط وتتدحرج معها رؤوس كثيرين في لبنان والمنطقة من مسرح السياسة إلى الأرشيف، و يعود الأميركي إلى معادلة صناديق الاقتراع التي يتمسك بها الرئيس الأسد ومن ورائه موسكو كعنوان لأيّ حلّ سياسيّ في سورية.

شرق جديد يكون اللاعب الأبرز فيه الرئيس الأسد بقامة تتقدم على قامة جمال عبد الناصر وحافظ الأسد، ليس أمراً سهل الابتلاع على الأميركيين و«الإسرائيليين»، ولا كل الذين ربطوا مصيرهم برحيله، وظنوا الرحيل قريباً، لذلك سنشهد تجرّع الكؤوس المرة قاسياً على أصحابه، ومحاولات التقيؤ لعدم ابتلاعه تكراراً يصحبها انتشار الروائح الكريهة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى