للوجوه والأمكنة سحرها وغرائبها ودلالاتها
كتب حازم خالد من القاهرة: أثرى الكاتب المسرحي الراحل ألفريد فرج، المكتبة العربية بالعديد من المساهمات الفنية في التأليف والنقد المسرحي. وفي مقدمة كتابه «الناس في الحكايات»: «إن في هذا الألبوم الكتاب صورًا شتى لبعض الناس والأشياء والأحداث أثارت انتباهي وفضولي، فأحببت أن يراها أصدقائي ومعارفي وقرائي، فأزمعت أن أكتبها وأصفها على صفحات هذا الكتاب الألبوم ، وفي هذا الكتاب تنتمي الصور إلى شخصيات وعصور وأجواء مختلفة ولكن تجمعها غرابة ملابساتها ودلالاتها، وإنها صادفتني في رحلتي هنا وهناك مع الأيام». وتحت عنوان «عجائب الاستبداد» يقدم إلينا فرج أول صورة من هذا الكتاب قائلاً: «حكى الجبرتي في كتابه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» أن محمد خسرو باشا جاء واليًا على مصر في عهد الحكم العثماني بعد انسحاب الحملة الفرنسية، فأوّل ما أنجزه من عمران كان بناء قصر منيف لسكناه على شاطئ بحيرة الأزبكية في القاهرة، وقرر أن يهدم البيوت القائمة حول القصر ليبني على أنقاضها «قشلاقات» لمعسكره وقواعد لمدافعه تحيط بقصره». وكتب الجبرتي تقريرًا عما جرى في الموقع جاء فيه: «نصبت للباشا خيمة بقرب الهرم وربما باشر بنفسه ونقل بعض الأنقاض، وحضر طاهر باشا قائد الجند الأرنؤود وحضر أعيان العساكر فنقلوا أيضًا والتمسوا قبول المساعدة، ثم حضرت طائفة من ناحية الرميلة وعرب اليسار ومعهم طبول وزمور، فسأل الباشا عن ذلك فقال له المحتسب ذو الفقار: هؤلاء طائفة من طوائفي حضروا لأجل المساعدة، فشكرهم الباشا على ذلك وأمرهم بالانصراف». وانتهى تقرير الشيخ عبدالرحمن الجبرتي، وبعد استئذان أقسام التاريخ في الجامعات العربية، التمس إضافة كتاب «عجائب الآثار» إلى رفوف الإبداع الأدبي، وفي رفوف كتاب التقارير الصحافية، ورشحه واحد من رواد الكتاب الساخرين وأدباء الفكاهة في اللغة العربية.
يلقي ألفرد فرج الضوء على الكمبوشة فيقول: «إن مشاهدي مسرحيات التلفزيون قد لاحظوا في بعض المسرحيات المصورة في أوائل عهد التلفزيون تلك المظلة الصغيرة التي تتوسط مقدمة المنصة المسرحية لتخفي الملقن المسرحي. وما كان الجمهور في صالة المسرح يرى إلا ظهر الكمبوشة المقوى، بينما كانت هذه المظلة الخشبية تخفي تحتها بئر الملقن، وكان الملقن قبل بداية المسرحية يتسلل من خلف ستار المسرح إلى بئر الكمبوشة ويرتاح على مقعدها الصغير، وأمامه مصباح صغير جدًّا يكاد ضوؤه يخفي عن عين المشاهد ولا يضيء إلاّ صفحة النسخة المسرحية أمام الملقن. وصنعة التلقين كانت لها «تقنياتها» وكان لها فنها، وكان بعض الملقنين الجهابذة معروفين بارتياح أكبر النجوم لهم وتمسكهم بهم.. فكان يقال: «هذا ملقن يوسف بك وهبي» أو «هذا ملقن فاطمة رشدي»، ويحدث هذا التقارب نتيجة فهم الملقن أسلوب النجم، بحيث يقرأ على وجهه وفي نبراته ماذا يريد».
ينتقل فرج إلى أمينة مخزن التاريخ المسرحي قائلاً: «لم تنعم بشهرة نجوم المسرح مثل روز اليوسف وعقيلة راتب، لكنها أحبت المسرح وجلست على خزائنه وتاريخه وتراثه سنوات طويلة، هي السيدة فوزية مرعي، وكانت عندي هي «فوزية المسرحية»، وكانت تقوم بخدمة الفرق الإقليمية والمدرسية والفرق المتجولة في الموالد والمناسبات ربما قبل المسرح القومي البريطاني، ولقد تفوقت على ذلك المسرح بقدرتها وكفاءتها في جمع هذه الملابس والاكسسوارات من المسارح المختلفة أو من المزادات وفي غمرة المآسي المسرحية مثل: حل الفرق، أو إفلاسها، أو اختلاف الشركاء». ويتذكر حكاية الباشا والقهوجي: «أجلس مع نقاد المسرح إن شئت وأجلس مع الفنانين وأجلس أيضًا مع أبسط الناس وأبناء البلد وأصحاب الرأي العفوي البسيط فأستنفع بالحديث معهم، وقد كان من أصدقائي في مسرح الأزبكية، متعهد بوفيه المسرح الحاج إبراهيم مطر. وأين يذهب المؤلف المصاب بالقلق الفني أثناء تمثيل مسرحيته وبعد دخول الجمهور إلى الصالة؟ إنه يقصد البوفيه ليعالج القلق بشرب القهوة. وقد أسرّ لي صديقي محمد محمود سكرتير فرقة المسرح القومي في الستينات أن إبراهيم مطر كان قبل افتتاح مسرح الأزبكية سنة 1920 قهوجي الباشا، وهم يعنون طلعت حرب الذي بنى المسرح هو وصديقه عبدالخالق باشا مدكور من مالهما الخاص. واقترب إبراهيم مطر من مائدتي وقدم إليّ فنجان القهوة المخصوص بالبن المحوج، كما كان يحبه «الباشا» ويرى بعينه الذكية ما أنا فيه من قلق فيسري عني بقوله: «تعرف يا أستاذ الباشا شيّد هذا المسرح من حر ماله لمثل مسرحيتك بالضبط». ورأى الحاج إبراهيم مطر أن مسرحيتي «حلاق بغداد» كانت في بيتها تمامًا، وأنها وافقت رؤية طلعت حرب للفن الجديد وطابقت تصوره، ولو كان عاش للستينات وشهدها لطابت في عينه وأثنى عليها. وربما كان نجاح «حلاق بغداد» سببًا في ترحيب الحاج إبراهيم بي، وعنايته بتقديم فنجان القهوة المخصوص، وكنت أداعبه بقولي: «هات قهوة الباشا يا حاج» فيسرع بالفنجان ويجلس للدردشة».
أما ليالي الفيشاوي فيتذكرها فرج قائلاً: «الفيشاوي مقهى في القاهرة يتوسط حي الجمالية ويجاور جامع الأزهر الشريف ومسجد الحسين، وللفيشاوي ذكريات جميلة في وجدان الفنانين والمثقفين في جيلنا وله أثر في حياتنا. وفي أحد برامجه، طلب مني تلفزيون القاهرة أن أختار مكانًا أريد أن أتحدث فيه، فاخترت مقهى الفيشاوي ركبت سيارتي وسرت كالدليل أمام سيارة مقدمة البرنامج، ثم سيارة التلفزيون، إلى رحاب الحي العتيق. وفي مقهى الفيشاوي جلسنا نشرب الشاي، المخرجة والمقدمة والمعدة، تلفتت حولي وتمنت لو عادت إلى بصري وسمعي تلك الصور القديمة. في تلك الناحية كان يحب أن يجلس الشاعر الكبير كامل الشناوي، في وقت متأخر من الليل، وكان من جلسائه في العادة بيرم التونسي وأحمد رامي، وكان لحمدي غيث ناحية يحب أن يجالس فيها تلاميذه، وكان رئيس اتحاد خريجي معهد التمثيل الذي أنشأه زكي طليمات في الأربعينات. وكان الركن المخيف والمهيب الذي يضم النقاد المنشقين والمتمردين على حال الشعر والفن والصحافة، بينهم محمد عودة ولطفي الخولي وكامل زهيري. وكان صخبهم وكانت آراؤهم «القاطعة» تجذبنا كما يجذب الضوء الفراشات، وكانت تستهوينا دعوتهم إلى التجديد، وتزعجنا مطالبتهم بوضع قيود على الفن والتزام ما يلزم حينا، وما لا يلزم أحيانًا».
أخيرًا يرى ألفرد فرج، أن الأماكن مثل الناس والأزمنة أيضًا، تتفاوت قدرتها على التأثير وقوة حضورها وفعاليتها، وهذا المقهى الصغير كان أثره كبيرًا في جيلنا وربما بعده، ولا يزال يترك بصماته على الورق الذي نكتب عليه، ويلقي ظله على فننا الحديث وثقافتنا المعاصرة وهوانا الفكري. ويشير إلى جيوفاني بلزوني الذي وصفه خصومه بأنه قرصان ينهب الآثار، وأن الجشع والتآمر والاختلاس هم الوازع الذي دفع به إلى مناطق الآثار في صعيد مصر في أوائل القرن التاسع عشر، ولم يكن وازعه البحث العلمي. إنه جيوفاني بلزوني، إيطالي عملاق كانت مهنته في السيرك الإيطالي رفع الرجال بيديه لإظهار القوة واستقبال التصفيق من الجمهور، هاجر مع عائلته إلى إنكلترا واكتسب الجنسية البريطانية، وتزوج وسافر إلى مصر يبحث عن خطة أو فرصة، كما كان يفعل «الخواجات» أيامها. وكان أول أثر تاريخي شاهده هو الأهرام فأذهله جماله واتزان معماره وضخامة بنائه، وكانت مصر في حالة اضطراب وقلاقل، بعد مذبحة المماليك في القلعة وعجب بلزوني من أن يجري هذا كله في بلد تشهد الأهرام فيه على حضارة مصرية قديمة رائعة. وقابل بلوني رجلين في القاهرة أغرياه بالالتفاف إلى الآثار، هما هنري سولت قنصل إنكلترا الجديد في القاهرة، والرجل الثاني كان المستشرق والرحالة السويسري جاي لوي بركهارت، واستهوت بلزوني الفكرة فاستأجر قاربًا في النيل، وبدأت رحلته مع الآثار! رحل بعد ذلك جيوفاني بلزوني ليكتشف منابع نهر النيجر، ولكنه مات بالدوسنتاريا هناك في كانون الأول 1823 عن خمس وأربعين سنة فهل لاحقته هو الآخر «لعنة الفراعنة» إلى منابع نهر النيجر؟
في خاتمة الكتاب، يقف المؤلف عند شخصية «شيخ البنائين»، فيقول: «لا أعتقد أن الكثيرين من أبناء العرب، أو من المصريين، يعرفون المهندس حسن فتحي، فإنه رجل حظي بالتكريم على عهد الملك فاروق، ونال أرفع الأوسمة في عهد جمال عبدالناصر، كما نال درجات الشرف، الزمالة من المعهد الأميركي للمعمار، ويعتبر كتابه «المعمار للفقراء» الذي صدر في القاهرة عام 1969 بالعربية ثم أصدرته اليونسكو مرجعًا عالميًّا مهمًا. اشتهر المهندس حسن فتحي في مصر والعالم بدعوته للعودة إلى المعمار التقليدي و»المعمار بدون مهندسين»، وقد أشرف حسن فتحي على بناء قريته المصرية «القرنة الجديدة» منذ عشرات السنين في منطقة الأقصر بالصعيد التي تعد نموذجًا عمليًّا لنظريته وأسلوبًا مقترحًا لإعادة بناء الأربعة آلاف قرية مصرية على نسق أكثر توفيرًا للشروط الصحية والجمالية والاجتماعية، بالخامات المحلية، وبالمهارات البنائية التقليدية. وبعد «القرنة» اختارته اليونسكو خبيرًا عالميًّا للاشتراك في برنامج تعمير الريف في اليونان.
صدر كتاب «الناس في الحكايات» للكاتب ألفرد فرج ضمن مطبوعات الهيئة المصرية العامة للكتاب في مئتين وصفحتين قطعاً وسطاً.