دمعة الفلسطينيّ وابتسامته… والمعنى الآخر!
نصّار إبراهيم
عند المغيب، قد ينهمر الحزن على الفلسطينيّ كشلال. ومع الصباح، قد يبتسم أيضاً.
هكذا، بما تيسّر له من دموع وابتسام، يمضي هذا الفلسطينيّ نحو أحزان ليست كالأحزان، ونحو فرح ليس كالفرح. فحتى الدمعة أصبح لها معنى آخر وكذا البسمة. دمعة وبسمة أصبحا وطناً، تعبيراً عن حلم يركض إليه الفلسطينيّ ولا يتوقف. قد يسقط على الدرب، لا بأس، ليكن، يحدث هذا في الغالب، فمن يهتم؟ لكنه لا يتوقف.
في ذلك اليوم، كان الولد الجليليّ يجلس مستنداً إلى صخرة ويستقبل البحر. كان غارقاً في المكان وأفكاره. اقترب الشيخ الكنعانيّ، جلس إلى جانبه. وراح هو الآخر يتابع البحر. بعد صمت قال الشيخ: لِم هذا الحزن في عينيك، وأنت الراكض دوماً عند حافة البحر ولا تهدأ؟
نظر الولد إلى الأرض، ثم إلى الأشجار الصاعدة على السفوح، قال: ماذا تقول لشعب أمضى ستين حولاً ويزيد وهو يحاول الابتسام؟ متى أيها الشيخ سنفرح ونبكي بشكل عادي كغيرنا؟
ـ ماذا تعني بشكل عادي، كيف ذلك؟
صمت الولد قليلاً ثم قال: معك حقّ أيها الشيخ. فحين يمتد ما هو غير عاديّ، يصبح مع الزمن عادياً تماماً. ستون حولاً ونحن نحاول الابتسام في واقع غير عاديّ. ستون حولاً ونحن نحاول التعبير عن أحزاننا غير العادية بصورة عادية. حتى غدا ما هو غير عاديّ مطلقاً، أمراً عادياً جدّاً. نعم معك حق!
ـ فسّر أيها الولد!
ـ أيها الشيخ، كم أتمنّى أن نبكي كغيرنا، وأن نفرح كغيرنا من كائنات الأرض. لقد تمرّسنا في ردود فعلنا غير العادية حتى أضحت في نظر الآخرين عادية جدّاً. اُنظر، ما الذي يثير فرحنا؟ صرنا نفرح لمجرّد أن يعود بخير أحد أطفالنا الذي غادر إلى المدرسة صباحاً، وأن يأتي الصباح من دون أن يكون أحد جيراننا قد اعتقل. وحين يخرج أسير من المعتقل بعد يوم، شهر، سنة، عقد أو عقدين، ونفرح حين نكتشف أن من سمعنا أنه استشهد بالأمس لم يستشهد وفقط هو جريح… ونبتهج حين نجد في الصباح أن شجرة اللوز في حديقة البيت ما زالت بخير. ونفرح حين نجتاز الحواجز أو الحدود من دون أن يوقفنا أحد. نفرح للصدفة أننا ما زلنا بخير، فهل هذا فرح عاديّ؟
ـ وكيف الحزن؟
ـ الحزن يأتينا بلا استئذان. لقد ابتعد حزننا عن بداياته الطبيعية. لقد ابتعدت دموعنا عن نهر أحزان الحياة التلقائية… فراحت تنهمر بلا توقف على رحيل شهيد أو غياب أسير أو اقتلاع شجرة زيتون أو وفاة والد لم يتسنّ لابنه المعتقل أن يودّعه. صارت تنهمر حين يولد الطفل الأوّل من دون أن يكون والده حاضراً ليحتفي به. لقد غادرت دموعنا عاديتها فصارت تملأ بصمت عيون أمهاتنا وزوجاتنا وآبائنا ليلاً وهُم ينظرون إلى السرير الفارغ لشاب رحل بسبب طلقة قاتلة.
كم نتمنّى أيها الشيخ أن يأتي يوم لا نكون فيه عنواناً رئيساً في نشرات الأخبار، وفقط أن نجلس صباحاً أو مساءً بهدوء، بشكل عاديّ، عاديّ تماماً. ننتظر أفراحنا وأحزاننا الطبيعية والعادية تماماً، مثل الناس جميعاً. لا نريد أن نكون أبطالاً، إنما أناساً عاديين جدّاً. لنا وطن وبيت وأسرة ومدرسة وحديقة، وكلّها عادية جدّاً. أن نجلس في الشمس ونضحك كما نشاء. نحتسي فنجان القهوة أو كأس الشاي من دون أن يقطع ذلك صوت طلقة أو صوت جنديّ غريب. أن نبتسم ونحن نتابع عصفوراً صغيراً وهو يتعلّم الطيران. أو الخطوة الأولى لطفل يتعثّر ببراءة أو طفلة وهي تهجّي أحرف الأبجدية وتلثغ بحرف السين.
كم نتمنّى أن نمارس حزننا بصورة عادية تماماً، أن نحزن قليلاً على فراشة وهي تحاول الخروج من الشرنقة ولكنها لا تستطيع، أو زهرة داستها بالصدفة قدم عابرة. فهل هذا كثير علينا؟
نظر الشيخ بعيداً، إلى ما وراء البحر، ثم عاد ونظر إلى الأرض، ثم إلى الولد وقال: هذا حزن ينهمر كشلال، ولكنّني أعرف أيها الولد الراكض عند حافة البحر، أنك لن تهدأ حتى يكون لك وطن. وسيكون. هذا ما قرأته في رُقُم الطين الكنعانية منذ عشرة آلاف عام ويزيد.
فواصِل أيها الولد البهيّ ركضك سواء على الأرض هنا أو في البحر أو في السماء، هناك أحلامك فاتبعها!
نهض الولد، نظر إلى السفوح الظليلة، ثم يمّم وجهه نحو البحر ومضى. لم يعرف الشيخ هل كان الولد يبتسم أم يراوغ الدموع!