تعديل الدستور الياباني وإنهاء القيود ومحاولة تغيير ميزان القوى العسكرية مع الصين
يعرض الباحث كمال مساعد في هذا العدد مسار تطوّر صناعة الأسلحة اليابانية مصحوبةً بتعديلات دستورية في الدستور الياباني كانت قد فرضتها تداعيات الحرب العالمية الثانية.
يشير الباحث إلى أن تطوّر الأحداث داخلياً وخارجياً سواء على المستوى الاقتصادي أم على مستوى التحالفات الجذرية مع الولايات المتّحدة الأميركية في عقد التسعينيات من القرن الماضي هو ما دفع الولايات المتحدة إلى تشجيع اليابانيين على تعديل دستورهم وبداية رفع حظر صناعة السلاح في حدود مقبولة جداً، لا سيما أن أخطاراً كثيرة على اليابان قد برزت من جانب كوريا الشمالية والصين الشعبية.
كمال مساعد
اتفقت واشنطن وطوكيو على تعديل القيود العسكرية المفروضة على اليابان إثر هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، وذلك لإعطائها دوراً عسكرياً دولياً في مواجهة تصاعد قوة الصين، حيث شكلت «الخطوط التوجيهية» الجديدة للسياسة العسكرية اليابانية التي جرى التوافق عليها التفافاً على دستور اليابان الذي كُتب تحت الاحتلال الأميركي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، حين فُكِّك الجيش الياباني الإمبراطوري واكتُفي بـ«قوات الدفاع الذاتي». وفتحت الباب أمام هذه التعديلات التفسيرات الجديدة للدستور الياباني التي اقترحتها الحكومة، بما يتيح للقوات المسلحة اليابانية المشاركة في عمليات عسكرية في الخارج «بهدف مساعدة حلفاء واشنطن».
تطور الأحداث داخلياً ودولياً
لم يكن هذا القرار في سياق مسار السياسة اليابانية العامة، مفاجئاً أو نتيجة تأثير قوى داخلية أو خارجية، بل نهاية طبيعية لتطور الأحداث على الساحتين اليابانية والدولية معاً. فكيف توصّلت الحكومة اليابانية لاتخاذ مثل هذا القرار؟
للإجابة على هذا التساؤل، لا بدّ من استعراض الاوضاع اليابانية الداخلية وتفاعلها مع الأحداث المختلفة عبر المراحل التي شكلت المفاصل الرئيسية للقرار، وهي على الشكل التالي: منذ عام 1945 حتى بداية تسعينيات القرن الماضي، ثم خلال فترة التسعينيات، وأخيراً المرحلة الراهنة.
المرحلة الأولى: البناء الاقتصادي
لا بدّ من الإشارة إلى أن اليابان هي الدولة الوحيدة التي تعرضت أراضيها لهجوم عسكري بالسلاح النووي إبان الحرب العالمية الثانية. وقد كان لذلك الأثر العميق في رسم المسار السياسي للحكومة اليابانية بعد انتهاء تلك الحرب، فارتضت أن تكون عضواً ثانوياً في المعسكر الغربي مقابل المعسكر الشيوعي، واتجهت أنظار المسؤولين فيها إلى الهم الاقتصادي وكيفية إعادة بنائه وتطويره. عززت اليابان، في هذه المرحلة، تحالفها مع قيادة هذا المعسكر، وبالتحديد مع الولايات المتحدة، فشكلت أراضي الجزر اليابانية القاعدة الخلفية لدعم القوات العسكرية المتجهة نحو البلدان الآسيوية. ومقابل ذلك، حصلت اليابان على ميزتين اثنتين:
الأولى هي ضمانة أميركية تامة لحماية الأمن الياباني.
والثانية تمثلت بالحصول على التكنولوجيا الأميركية ضمن شروط مريحة بهدف التنمية الاقتصادية وفتح الأسواق الأميركية أمام بضائعها الناشئة، من دون اضطرارها إلى فتح أسواقها أمام البضائع الأميركية. نتج من هاتين الميزتين ابتعاد الجزر اليابانية من الصراعات العسكرية التي بلغت أوجها في منتصف خمسينيات القرن العشرين حرب كوريا مثلاً بين المعسكرين الغربي الرأسمالي والشرقي ــ الشيوعي والتي كان مسرحها بلدان عديدة في القارة الآسيوية وسلوك اليابان سبل التنمية الاقتصادية، حيث وُضعت اللبنات الأولى في بناء قاعدة متينة لاقتصاد ما لبث أن احتل مرتبة متقدمة جداً في سلم اقتصاديات الدول المتقدمة. أما في الميدان الأمني ــ العسكري، فقد احتفظت اليابان بحد أدنى من القوى الأمنية للحفاظ على أمنها الداخلي مراعاة للأوضاع الداخلية، خصوصاً لجهة احتواء التيارات السياسية اليسارية، في مقابل عدم رغبتها بإثارة غضب جيرانها الآسيويين الذين كانت لهم معاناة أليمة مع الجيش الإمبراطوري الياباني خلال النصف الأول من القرن العشرين. وفي إطار هذه المعادلة، تم إنشاء قوات الدفاع الذاتي اعام 1954. وفي بداية سبعينيات القرن العشرين، عرفت السياسة اليابانية التقليدية تغييراً جذرياً في اتجاهها بسبب صدمات رئيسية، منها هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام والمراجعة التي قامت بها الحكومة الأميركية لنهجها العسكري. ومنها تخلي واشنطن عن اتفاقات «بريتون وودوز» المعقودة في حزيران 1944، والتي أنشأت نظاماً نقدياً عالمياً قاعدته الرئيسية الذهب والأزمة البترولية الأولى. في هذه الأجواء الضاغطة، دشنت طوكيو مرحلة جديدة في ما يخص شروط أمنها، إنما تحت المظلة الاقتصادية:
في هذه الفترة، ثار في الداخل الياباني نقاش لأول مرة جوهره الدستور الياباني، خصوصاً المادة التاسعة منه التي تحدد هوية اليابان الوطنية القائمة على أن اليابان قوة مدنية لا عسكرية، تسعى إلى الحفاظ على أمنها من دون اللجوء الى الوسائل العسكرية ضمن المبادئ الأساسية التالية: عدم اللجوء الى السلاح النووي، وعدم تصدير المواد المستخدمة في الصناعة العسكرية، وتحديد سقف الإنفاق العسكري بـ1 في المئة من الناتج القومي الخام.
المرحلة الثانية: التغييرات الجذرية
أنهت اليابان المرحلة الأولى كقوة اقتصادية متينة ومتطورة وهائلة، وبالتحالف الوثيق مع الولايات المتحدة. لكن الأحداث الهائلة التي عصفت في بداية التسعينيات من القرن الماضي بالعديد من الأنظمة السياسية وبالتيارات العقائدية، والحروب الإقليمية المتعددة ونشوء النظام الدولي الأحادي الزعامة بقيادة الولايات المتحدة هذه الأحداث لم تبق اليابان بمنأى عن التغييرات الجذرية. فبرزت مرحلة جديدة كان لها تأثير كبير في مسار السياسة الدفاعية اليابانية داخلياً وخارجياً. ففي الداخل الياباني، عاد النقاش حول هيكلية ودور ومهمات قوات الدفاع الذاتي استناداً الى روحية المادة التاسعة من الدستور الياباني، فتم تحديد دور هذه القوات بـ«حماية التراب الوطني الياباني من الأخطار الإقليمية والتصدي لكل اعتداء تقليدي على طول سواحل الجزر اليابانية…». وجرى أيضاً تعزيز القدرة العسكرية لهذه القوات للتدخل على مسرح العمليات الخارجية في إطار مهمات حفظ السلام التي تقررها الأمم المتحدة بهدف تأمين دمج السياسة اليابانية في النظام الدولي الجديد. والجدير ذكره هنا أن هذا التغيير في السياسة الدفاعية جرى ضمن خطط خمسية امتدت طيلة فترة التسعينيات وكانت قد بدأت في منتصف الثمانينيات، وأهم ما نجم عنها: استقرار الإنفاق العسكري الياباني عند حدود أو تحت سقف الواحد في المئة، وإعادة هيكلة الإنفاق العسكري. وقد بقيت هذه الخطط محكومة بأمرين: أولاً تقع اليابان في قلب منطقة استراتيجية مهمة وغير مستقرة، وعليها تعزيز قواها الأمنية والعسكرية، ثانياً: عليها مراعاة الرأي العام الياباني الذي رحب بنهاية الحرب الباردة ويعارض بقوة «المس بما أتى به السلم». أما على الصعيد الخارجي، فإن عوامل عدة دفعت اليابان لتعزيز قدرتها الدفاعية، فانهيار الاتحاد السوفياتي وإقامة روسيا الاتحادية، لم يلغِ عوامل التوتر التي كانت سائدة بين الجارين بين فترة وأخرى وقد شهد عقد التسعينيات تطوراً مهماً أيضاً تمثل بقرار اتخذته الإدارة الأميركية وأثر بشكل واضح في استراتيجية اليابان، وقضى بتخفيض القوات العسكرية الأميركية المنتشرة في المنطقة. ففي نيسان 1990 أعلنت هذه الإدارة خطة عسكرية تلحظ في المرحلة الأولى نهاية 1992 تخفيض عديد قواتها في المحيط الهادئ من 135 ألف رجل الى120 ألفاً. أما المرحلة الثانية، ما بين 1993 ـ 1995 و1996 ــ 1998 فهي تلحظ بالإضافة الى تخفيض عدد القوات، إغلاق قاعدتيها الجوية والبحرية في الفيليبين، وسحب صواريخ من طراز «طوماهوك» محملة برؤوس نووية من كوريا الجنوبية. وقد خلصت اليابان من هذه التطورات الى نتيجة مهمة مؤداها، أن حالة التوتر قد انخفضت في المحيط الياباني، إلا أن سياسة الدفاع لبلد ما لا تُبنى على انخفاض التوترات، بل وقبل كل شيء، تُبنى على أساس التوترات الباقية وتلك التي ستزداد.
تحويل الصناعات المدنية إلى عسكرية
نهجت اليابان منذ عقود سياسة سلمية، ركزت فيها على التفوق الاقتصادي ومنافسة الغرب في جميع المجالات الحيوية، إلا أنها ظلت بعيدة من المنافسة العسكرية. وأثار قرار العودة إلى تصدير السلاح جدلاً واسعاً في صفوف النخبة السياسية والرأي العام، حيث تعارض الطبقة المتوسطة التي ترفض المساهمة في النزاعات التي تنشب هنا وهناك.
ومن المتوقع أن تجني طوكيو أرباحاً ضخمة، نظراً للطلب على المنتجات الدفاعية. ويكشف نائب ينتمي إلى الحزب الحاكم إن الخطة الحالية تهدف إلى تحويل تكنولوجيا الروبوتات التي قطعت فيها اليابان شوطاً كبيراً، من الصناعات المدنية إلى العسكرية، والتركيز على المعدات المتقدمة تقنياً، مثل الطائرات التي تعمل من دون طيار.
ويعتقد خبراء عسكريون أن عودة اليابان إلى تصنيع السلاح ستُحدث نقلة نوعية في المنظومات الدفاعية والهجومية. ومن المتوقع أن يعلن رئيس الوزراء الياباني القرار رسمياً قبل الصيف المقبل، وستسمح الخطة الجديدة للمصانع المحلية بأن تقيم شراكات مع شركات إنتاج الأسلحة في أوروبا والولايات المتحدة.
وكان الغرب قد خفف الحظر المفروض على اليابان منذ السبعينيات، وسمح لها في 2005 بتطوير نظام دفاعي لمواجهة التهديدات الآتية من كوريا الشمالية التي قامت بتجربتين صاروخيتين، مستخدمة الأجواء اليابانية. وأنفقت طوكيو خمسة مليارات دولار من أجل بناء درع صاروخية متطورة، إضافة إلى الصراع الدائم في بحر الصين للسيطرة عليه. خاصة أن انفتاح الصناعة العسكرية على الأسواق الخارجية سيفتح شهية شركات عملاقة عديدة ستسارع إلى فتح فروع للأبحاث والصناعات العسكرية، ما يؤدي إلى انخفاض التكاليف. وتصنف «ميتسوبيشي» للصناعات الثقيلة ضمن أكبر 30 شركة مصنّعة للمعدات العسكرية في العالم. ونجحت الشركة في تطوير طائرات مقاتلة وأنواع مختلفة من المعدات البحرية. ولا يعتبر قرار استئناف الصادرات العسكرية مفاجئاً، حيث درست لجنة عسكرية المسألة خلال السنوات الماضية، وأوصت باستغلال المؤهلات التي تمتلكها اليابان، وخوض غمار التجارة العسكرية التي ستدرّ على خزينة الدولة مئات المليارات.
ويرى خبراء أن تحرير التجارة العسكرية اليابانية سيجعل من اليابان منافسة لبريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ويعود ذلك إلى قدرات الخبراء اليابانيين الذين يمكنهم إجراء تغييرات كبيرة على حجم المحركات، وإدراج تقنية «الروبوت» وأجهزة التحكم عن بعد.
وتمتلك اليابان منظومة دفاعية عمدت على تطويرها إثر استفحال الحرب الباردة، وتشمل المعدات البرية ومضادات الصواريخ والرادارات. وتعتبر المنظومة من أغلى المنظومات الدفاعية في العالم، من حيث المعدات والتجهيزات. ونظراً إلى استهداف الشركات المصنعة للسوق الداخلية، لم تستثمر كثيراً في صناعة السلاح بسبب قلة العائدات.
لكن عودة اليابان إلى إنتاج الأسلحة، ضمن قيود محددة، ودخول شركاتها في إنتاجها وبيعها مسألة بالغة الحساسية بالنسبة إلى الدول المجاورة التي يفصلها عنها تاريخ مؤلم، وملايين القتلى والجرحى والمشوهين، خاصة في الصين وكوريا الجنوبية. وكانت تلك الدول قد رحبت بفرض دستور اليابان السلمي لعام 1946 كضمانة لمنع تجدد نزعتها العسكرية، كما رحبت بتوقيع اتفاقية سان فرانسيسكو للدفاع المشترك بين أميركا واليابان في عام 1951.
وللتذكير فقط – نصّت المادة التاسعة من الدستور الياباني على حظر تسليح اليابان، أو اقتنائها لسلاح غير دفاعي، أو مشاركتها في أعمال عسكرية خارج أراضيها. فشعر اليابانيون بأن قيوداً ثقيلة فرضت على بلادهم على غرار الاتفاقات المذلة التي أجبرت على توقيعها في أواسط القرن التاسع عشر. وجعل الدستور السلطة بيد الشعب، وألغى طابع الألوهية عن الإمبراطور وحوله إلى مجرد رمز لوحدة اليابان واليابانيين.
باحث في الشؤون الاستراتيجية