«على حبّ الضاحية»… تعربش الكلمات ورداً وينبت اللون حقول خزامى

عبير حمدان

حين تستوطن المكان، تسكُنك تفاصيله البسيطة والعادية، ويصبح فعل الانصهار واقعاً وكأنّ النوافذ كلها المحيطة بوجودك تعنيك. لا فرق إن كانت مشرّعة لنور الشمس، أو غافية على إيقاع زخّات المطر.

في الحبّ تسقط الفرضيات كلّها، وتبقى ملامح المدينة راسخة في البال. فجرحها ينال منك وقد يُصيبك مقتلاً. هي الطفل الذي كنتَه يوماً بين حصى أزقّتها، أدركت المشاغبة الأولى. هي وجوه الرفاق وصدى العراك اليومي المحبب بين الجيران يغفلون عنه على فنجان قهوة. هي ضجيج عربات الخضار وأبواق سيارات الأجرة وجنون البحث عن زاوية لركن السيارة. هي بيادر القمح البقاعية تتعمد بغبار الزعتر الجنوبي وتذوب في نسيج الحكاية. هي أهازيج الأفراح ورايات النصر ولحن الحِداء… هي الأهل، هي الأمّ التي تحنو حين يحاصرنا الضيم.

لا تحتاج الضاحية إلى كلّ هذا الموت كي تعرف شوارعها كيف تمتشق الحياة من رحم الحزن، وتنفض عنها غبار الجنون المتنقل من «ربيع عربيّ» إلى آخر. نبضها المقاوم يتخطّى اللحظة الدموية، وهي التي اعتادت المسير في مواكب الشهداء.

للضاحية، أهدت جمعية «حواس» شذا الروح، شعراء كتبوها بدواة من نور ونار، رسّامون كحلّوها بريشة عاشقة ليأتي معرض «على حبّ الضاحية» بالتعاون مع بلدية برج البراجنة، مساحة على حجم الوطن. لأن الحدث يتخطّى إطار المكان والزمان، ويتخطّى مفهوم الاستعراض بما يضمّ من حنين وصدق في التعبير، حيث الحروف تلاصق الذات وتعربش على الأبنية كالياسمين وينبت اللون على تقاسيم الأدراج حقول الخزامى. وكان لا بدّ أن نسأل بعض المشاركين في «على حبّ الضاحية» عن معاني العشق المرتسم بين أنفاس المدينة.

جلول: المقاومة والصمود

يعتبر رئيس بلدية برج البراجنة زهير جلول أن هذا المعرض يدخل ضمن إطار ثقافة الصمود وفي ذلك رسالة واضحة للتكفيريين ومن يقف وراءهم أننا نملك الإرادة وهكذا سنبقى، فيقول: «يأتي هذا المعرض الفنّي لتأكيد المؤكّد، إذ يصرّ مجتمع المقاومة والبيئة الحاضنة للمقاومة أن سيارات التكفيريين المفخخة وأحزمتهم الناسفة وإجرامهم ضدّ الإنسانية، كل ذلك لن يزحزح تصميم الناس وإصرارهم على التصدّي بكل الطرق. فالجهاد بالنفس وجه من وجوه المقاومة… إعادة الإعمار وإعادة الحياة إلى الشارع الذي استهدف بتفجيرين صورة من صور الصمود… وإقامة المعارض كمعرض الصوَر الذي تقيمه جمعية حواس بالتعاون والتنسيق مع بلدية برج البراجنة أيضاً من الردود والرسائل التي نرسلها للتكفيرين ومن يقف وراءهم…. هم يرسلون الإرهابيين فنردّ عليهم بمعرض الفنّ كما نردّ بصلابة المقاومين. إنها إرادة الحياة العزيزة لدى جمهور المقاومة».

حمّود: النور في مواجهة الظلام

يتحدّث الفنان عبد الحليم حمّود، رئيس «جمعية حواس» عن مكانة الضاحية في الوجدان الإنساني، وكيف استحقت أن يكتبها الشعراء المشاركون في الحدث على تقاسيم ريشة أقرانهم من الفنانين، فيقول: «الضاحية بحر تصبّ فيه شرايين القرى، فكانت خليطاً طبقياً وفكرياً وعقائدياً، ثم صارت محطّ أنظار العالم لما تمثله من مركزية للمقاومة. ولهذا، تدفع الضاحية فاتورة عظيمة بحبر الدم وقذارة الإرهاب. لذلك، كان التنسيق بيننا ـ جمعية حواس ـ وبين بلدية برج البراجنة لجمع ثلة من المبدعين لوناً وحرفاً وضوءاً في مسكبة واحدة للتعبير عن حبّنا لهذه المساحة التي تُقاس ببيوت الشهداء، وخطى الباعة المتجولين. فكرة المعرض انطلقت على خلفية التفجيرات الأخيرة في عين السكة، وقرّرنا أن نقاوم الظلام بالمزيد من النور، عبر الفنّ، والجمال وأجنحة الخيال. ما يقارب خمسين عملاً فنياً لثلاثين فناناً، بمدارس تعبيرية متعددة، كذلك نقدّم ورشة خط بحضور خطاطين مبدعين سيكتبون جملاً في حبّ الضاحية، بشكل مباشر أمام عيون الزوار. أيضاً هناك توقيع لمجموعة شعرية تحت اسم قصائد على حبّ الضاحية، وفيه ما يقارب أربعون قصيدة لأربعين شاعراً قاربوا الضاحية من مختلف زواياها».

عطوي وانغماس اللون

أما الرسّامة باسمة عطوي، فتتحدث عن انغماس ريشتها باللون على حبّ الضاحية، وما يحتويه المشهد من التعبيرية الحرّة، فتقول عن مشاركتها: «أن تنغمس ريشتي باللون على حبّ الضاحية، لهو شرف لي أمام عاصمة المقاومة، أرض الأحلام التي تكبر في الشوارع الفرعية. ما أجمل أن نمزج بين مخيّلاتنا وقناعاتنا فنمزج الروح بالمكان، ونعطي قضايانا حقوقها في قوالب تعبيرية تشكيلية حرّة. ضمن فريق جمعية حواس، وبالتنسيق مع بلدية برج البراجنة، التزمت ملفّ التواصل مع الرسّامين لتنسيق مشاركاتهم في المعرض، وأكثرهم تجاوب من روحه لأن في قرارة نفس كلّ منّا، ضريبة يسددها للضاحية، أمّنا التي تسهر علينا ونسهر عليها».

حيدر: وميض الدهشة

تعتبر الشاعرة رنا حيدر أن الضاحية عصيّة على الهزيمة. ولأجلها كان اللقاء وتقول: «هي الضاحية… لا شيء يهزمها. بعد كلّ انتكاسة تنفض عنها غبار المعركة وتنتفض كطائر الفينيق. لأجلها اجتمعنا كلٌّ من موقعه عّبر، كتب، رسم، صمّم، نثر حبر الإرادة على تخوم الحياة. العمل تحت عنوان الضاحية وحبّها والانتماء لكهف عشقها، هو عملٌ نرتقي به كي نساهم بكل حواسنا في احتضانها وكفكفة الدمع النازف على خدّها. مشاركتي في هذا المعرض سواء كتابة أو تصويراً أو تنظيماً، رصيد هام أفخر بإضافته إلى سيرتي الثقافية. للضاحية علينا الكثير الكثير… من هنا كانت فكرة هذا المعرض الذي تظافرت جهودنا جميعاً لإنجاحه في وقتٍ قياسي قصير نسبياً، فزغرد الحرف على تخوم القوافي وتراقصت الألوان احتفاءً بها، واتّشحت عدسات المصورين بوميض الدهشة، على حبّها».

رزق والشعور بالمسؤولية

تؤكّد الرسامة حسانة رزق أن مشاركتها في هذا المعرض فيها مسؤولية كبيرة كونها بعيدة عن المكان جغرافياً، لكنها تراه مركز القلب ونبض العالم وعنه تقول: «في معرض على حبّ الضاحية انبثق الجمال وتحرّكت جميع الحواس نابضةً برسوم ناطقة وصوَر حيّة وقصائد البوح الحميم، كلّها تُحاكي الوجدان بإبداعاتها التي تصهل في شوارع مشى فيها الشهداء قبل يوم أو سنة. من هنا أشعر بالمسؤولية بمشاركتي عن بُعد وأنا التي سافرت إلى أميركا في سنٍّ هي أقرب إلى المراهقة. اليوم، يسعدني تقديم التحية لمكان صغير جغرافياً، لكنّني أراه مركز القلب ونبض العالم».

دهيني: الشكر للمقاومين

عن مشاركته في المعرض، يقول الخطاط عباس دهيني: «في معرض الضاحية، أسكب حبري شُكراً لله الذي اختصَّ هذه المسيرة بعطر الشهادة. شكراً للبيوت التي أعطت الوطن فلذات الأكباد. شكراً للجرحى الذين قدّموا للحرّية أعزّ ما فيهم. شكراً للمقاومين الذين حفظوا الأمانة. كلّ الشكر لضاحية الإباء والعزّ والكرامة والحبّ والعشق والإيثار والفنّ الراقي الذي رُسم بلون الدم القاني… من أجل هذا كلّه، لا بدّ لي من أن أمهر سيرة حياتي بتوقيع مشاركة متواضعة وسأكتب في المعرض التشكيلي الفوتوغرافي… على حبّ الضاحية».

زين الدين عاشقة تبوح بالسرّ

تشير الشاعرة إيمان زين الدين إلى ماهية العشق. ولا تخفي كيف تتلعثم الحروف حين تحاكي الضاحية التي تذوب فيها ولهاً. وعن مشاركتها تقول: «أن تحفر الذاكرة لتشقّ درب الحروف واصفاً صنف الملائكة، لا بدّ أن تلج قلب الله في ضاحية بيروت. هناك حيث ينابيع أزقّتها أزهرت عزّاً تكحلت به الأمهات الثكالى وفخراً تكلّل به شواهد شهدائها، وفرحاً نُقش على جبين أطفالها، لكي تدرك هذه البقعة تحار في وصف الوطن كل الوطن. تجربتي في الكتابة عن الضاحية تتلعثم تحت وطأة الوله بها، تماماً كالعاشق الذي يبوح للمرّة الأولى بسرّ العشق. أما مشاركتي في تنظيم المعرض، فما هي إلا وسام فخرٍ ليكون هدية إلى ضاحيتي».

بيضون الالتزام والثبات

تؤكد الكاتبة والشاعرة وفاء بيضون على أهمية إيصال الرسالة الثقافية لجمهور المقاومة. وعن مشاركتها في النشاط تقول: «جميل أن تقام معارض هادفة لإرسال الرسائل عن واقعنا. واقع جمهور المقاومة المستهدف لالتزامه وثباته في الدفاع عن الوطن. أردت من خلال مشاركتي بالصورة الفوتوغرافية وكتابة قصيدة إيصال رسالة مفادها أننا شعب، مهما حاولوا إرهابنا وقتلنا، فلن ينالوا من عزيمته. إننا كجمعية حواس نحضر دائماً كعنصر ثقافيّ مساند للمقاومة، فنقدّم ألواننا وحبرنا قرابين على مذبح التضحية».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى